مجلة الرسالة/العدد 36/حوادث النمسا
→ الإحسان | مجلة الرسالة - العدد 36 حوادث النمسا [[مؤلف:|]] |
حجر رشيد والقلم الهيرغليفي ← |
بتاريخ: 12 - 03 - 1934 |
النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
في الثاني عشر من فبراير المنصرم اضطرمت النمسا فجأة بضرام حرب أهلية خطيرة، واتجهت أنظار العالم إلى هذا الحدث الأوربي الجديد ترتقب آثاره في سير الشئون الدولية. وكانت المعركة عنيفة هائلة ولكن قصيرة المدى، لأنها لم تطل سوى ثلاثة أيام وكانت حاسمة النتائج والآثار سواء في الموقف الداخلي أو في سير السياسة الأوربية العامة.
ويرجع هذا الفصل السريع الحاسم إلى عزم الرجال الذين يشرفون اليوم على مصاير الجمهورية النمسوية، وعلى رأسهم الدكتور انجلبرت دولفوس المستشار (رئيس الحكومة) الفتي. وقد تولى الدكتور دولفوس الحكم منذ عامين (في أواخر مايو سنة 1932) في ظروف صعبة تزداد كل يوم حرجاً؛ وفوجئ غير بعيد بخطر السياسة العنيفة التي اتخذتها الوطنية الاشتراكية الألمانية أو السياسة الهتلرية إزاء النمسا، ومحاولتها أن تقضي على استقلالها وأن تجعل منها ولاية ألمانية؛ وأنفق العام الماضي كله في قمع الاعتداءات المنظمة التي يدبرها الوطنيون الاشتراكيون (النازي) النمسويون بوحي ألمانيا وإرشادها؛ وأبدى حزماً وشجاعة نادرين في الدفاع عن استقلال النمسا، ومقاومة ضغط السياسة الهتلرية، واستطاع حتى اليوم أن يقضي على كل مشاريعها ومحاولاتها. بيد أن هذا الخطر ما يزال قائماً داهما.
وكان ثمة خطر آخر تواجهه حكومة الدكتور دولفوس وتخشى منه على النظم القائمة وعلى سلام البلاد ذلك هو قوة الديمقراطية الاشتراكية النمسوية وتغلغلها في مرافق البلاد. وكانت الديمقراطية الاشتراكية تؤيد الحكومة في نضالها ضد الخطر الهتلري، ولم يك ثمة خلاف في جبهة السياسة النمسوية من هذه الناحية؛ ولكن المعركة الخالدة بين الجبهة الاشتراكية والجبهة المحافظة كانت تجثم دائماً وراء هذا التفاهم المؤقت على مقاومة الخطر المشترك؛ وتلك هي المعركة التي انفجر بركانها في الثاني عشر من فبراير لأسباب وظروف ما تز غامضة. وقد استطاعت الحكومة ومن ورائها القوى المحافظة أن تخرج من هذا الصراع ظافرة، وأن تقضي - مؤقتا عل الأقل - على الديمقراطية الاشتراكية النمسوية. ولكن ماذا سيكون بعد هذا الظفر وبعد اختفاء الديمقراطية الاشتراكية من ميدان كان لها فيه منذ قيام الجمهورية النمسوية أيما شان؟ لقد كانت الديمقراطية الاشتراكية سند حكومة الدكتور دولفوس في نضالها ضد الخطر الهتلري، فالآن وقد حطمت هذه القوة، فان مهمة الدكتور دولفوس تغدو أصعب وأشق. بيد أنه يصعب علينا أن نقول اليوم كلمة حاسمة في نتائج هذه المعركة. وسنحاول في هذا البحث أن نستعرض تاريخ الجمهورية النمسوية منذ قيامها، وأن نشرح العوامل والظروف الداخلية والخارجية التي تقلبت فيها، والقوى السياسية والاجتماعية التي تتجاذبها، والاتجاهات المختلفة التي تسيرها في ميدان السياسة الدولية.
قامت الجمهورية النمسوية في الثاني عشر من نوفمبر سنة 1918، على أنقاض البقية الباقية من إمبراطورية النمسا والمجر القديمة، وكانت إمبراطورية النمسا والمجر تسير قبل ذلك بعامين أو ثلاثة في سبيل الانحلال والتفكك. وكان الإمبراطور الشيخ فرانز يوسف الذي سهر على وحدتها ومصايرها نحو سبعين عاما قد توفى في نوفمبر سنة 1916، والحرب الكبرى في إبان اضطرامها والإمبراطورية القديمة تواجه أخطار الهزيمة والتفكك؛ فخلفه حفيد أخيه الأرشيدوق كارل؛ ولم تمض أشهر قلائل حتى أخذت بوادر الإعياء والهزيمة تبدو قوية على الجيش الإمبراطوري. وأخذت القوميات والأجناس القديمة التي تتألف منها الإمبراطورية أعني المجر والتشك والسلوفاك والبولونيين والصربيين والرومانيين، تتحرك في سبيل التحرر والاستقلال. وفي أكتوبر سنة 1918، أعلنت تشيكوسلوفاكيا نفسها بمؤازرة الحلفاء جمهورية مستقلة برئاسة الدكتور مازاريك؛ وفي نفس الوقت أعلن الصرب والكروات خلع الإمبراطور كارل، ونادوا بأنفسهم مملكة مستقلة هي مملكة الصرب والكروات والسلوفين، أو مملكة يوجوسلافيا وملكها بطرس الأول ملك صربيا. وقامت خلال ذلك ثورة في بودابست، وأعلنت المجر انفصالها عن الإمبراطورية وقيامها دولة حرة مستقلة. وبذلك انتهت إمبراطورية آل هبسبرج القديمة. وفي أوائل نوفمبر ثارت مدينة فينا بدورها وطالبت الجموع بإقامة الحكم الديمقراطي، فلم ير الإمبراطور كارل سوى التنازل عن عرشه والانسحاب؛ وأعلن قيام الجمهورية النمسوية في 12 نوفمبر؛ واجتمعت في الثالث عشر جمعية وطنية تولت مقاليد الحكم، وانتدبت حكومة مؤقتة على رأسها الدكتور رنر الزعيم الاشتراكي، ودخلت النمسا في طور جديد من تاريخها.
ويقرر الدستور النمسوي الجديد الذي بدئ بتنفيذه في نوفمبر سنة 1920 أن النمسا جمهورية اتحادية تتكون من ثمان ولايات والعاصمة فينا. وهذه الولايات هي النمسا السفلى والنمسا العليا، وسالتسبورج، وستريا، وكارنتيا، والتيرول، وفورا لبرج وبور جنلند. ونظام الحكم نيابي ديمقراطي، قوامه جمعية وطنية هي (الناسيونال رات) وتؤلف بالانتخاب العام، وتتولى التشريع؛ ومجلس الاتحاد (البند سرات) وينتخب من أعضاء المجالس الاتحادية، وسلطاته استشارية فقط، وينص الدستور على إلغاء جميع الامتيازات والألقاب الخاصة وعلى ضمان الحرية الدينية، وعلى المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات بين جميع السكان. وللجمهورية رئيس ينتخب لمدة أربعة أعوام ولا يجدد انتخابه أكثر من مرة. ويبلغ سكان النمسا نحو ستة ملايين ونصف
وقد حددت علائق الجمهورية الجديدة بدول الحلفاء، ومركزها الدولي بمعاهدة سان جرمان التي عقدت في سبتمبر سنة 1919. وكانت النمسا تريد يومئذ بعد أن فصلت عن باقي أجزاء الإمبراطورية القديمة أن تنضم إلى ألمانيا؛ ولكن الحلفاء عارضوا في ذلك أشد المعارضة. ونصت المعاهدة على اقتطاع جزء من التيرول النمسوي وضمه إلى إيطاليا، وعلى اقتطاع بوهيميا الألمانية وضمها إلى تشيكوسلوفاكيا ونصت على تنازل النمسا عن جميع حقوقها في مصر ومراكش والصين؛ وحددت عدد الجيش النمسوي بثلاثين ألفا ووضعت قيودا شديدة على التسليح الجوي؛ ونصت على حماية الأقليات، وعلى إلزام النمسا بنصيب من تعويضات الحرب.
بدأت النمسا حياتها الجديدة في غمار من الصعاب، وكانت النظم الاجتماعية والاقتصادية القديمة قد انهارت وساد الانحلال واليأس جميع الطبقات والأفراد، فكان على النمسا الجمهورية أن تخلق لنفسها حياة اجتماعية واقتصادية جديدة، وأن تبرز من أنقاض الماضي المجيد إلى ميدان الكفاح الشاق. وكانت الكتلة الديموقراطية الاشتراكية هي صاحبة الكلمة في توجيه مصاير النمسا الجديدة، فهي التي تولت الحكم على أثر انهيار الإمبراطورية وهي التي عقدت معاهدة الصلح، وكانت أغلبية في الجمعية الوطنية التي وضعت الدستور (سنة 1919) حيث بلغ عدد النواب الديموقراطيين الاشتراكيين 70 والاشتراكيين المسيحيين 64 والوطنيين الألمان وحزب الفلاحين، وغيرهما 30؛ وقد كان هذان الحزبان القويان القديمان، أعني الديموقراطيين الاشتراكيين، والاشتراكيين المسيحيين، هما اللذان يتنازعان الحكم والسلطان في الجمهورية الجديدة، والحزب الأول يمثل طبقات العمال وأصحاب المهن والحرف وله مثل اشتراكية قوية. والحزب الثاني يمثل أصحاب الأملاك والأموال والفلاحين، ذوي المبادئ والآراء المحافظة، وتغلب عليه نزعة دينية قوية. وقد لبث تيار الديموقراطية الاشتراكية غالبا زهاء عامين، وتولى زعيمها الدكتور رنر رآسة أول حكومة جمهورية في سنة 1918، ولما أجريت الانتخابات العامة للمرة الثانية خرج الديموقراطيون الاشتراكيون بأغلبية جديدة حيث بلغت كراسيهم ثمانين مقابل 61 كرسيا للاشتراكيين المسيحيين وعاد الدكتور رنر فتولى رئاسة الحكم على قاعدة الائتلاف مع الاشتراكيين المسيحيين. وكان الائتلاف يومئذ ضرورة تمليها الظروف العصيبة التي تجتازها النمسا، وكان في كثير من الأحيان ضرورة دستورية أيضا، لأن الأغلبية الحاسمة لم تكن لأحد الحزبين وكان العمل التشريعي يتطلب التفاهم والمهادنة. وفقدت الديمقراطية أغلبيتها سنة 1920، وتولى الاشتراكيون المسيحيون الحكم على يد زعيمهم المونسنيور أجناس سيبل، وهو حبر وعلامة في القانون الدولي، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين لبثوا أقلية قوية تناهض الأغلبية وتملي عليها إرادتها في كثير من الأحيان. وكان اكتساح الحزبين القويين للميدان الانتخابي على هذا النحو يحرم الطبقات الوسطى من أن تمثل تمثيلا قويا، ويجعل ميدان النفوذ والكفاح قاصرا على معسكرين يمثل كل منهما ناحية متطرفة من المثل والمبادئ، بيد أن الطبقة الوسطى كانت أكثر ميلا إلى ناحية الديموقراطية منها إلى الناحية الأخرى.
وأنفقت الجمهورية النمسوية أعوامها الأول في معالجة المشاكل التي خلقتها الحرب وفروض الصلح، وشغلت حينا بمسألة النقد وتدهوره. وكان المونسنيور سيبل رجل الموقف، فاستطاع بكثير من البراعة والجلد أن يعالج مشكلة النقد بالالتجاء إلى عصبة الأمم، واستقر النقد النمسوي منذ سنة 1923، وأخذت النمسا تسير في طريق الانتعاش الاقتصادي، وعولجت عدة مشاكل اقتصادية واجتماعية مثل: مسألة الأجور وتنظيمها، ومسألة المساكن وحماية المستأجرين، ومسألة التأمينات والمعاشات، والتشريع العملي والاجتماعي. وبذل المونسنيور سيبل لتنظيم النمسا الجديدة جهودا تخلق بالإعجاب. وكان يعتمد في سياسته أثناء هذه الأعوام على جبهة موحدة من حزبه، أعني الاشتراكيين المسيحيين والأحزاب الصغيرة الأخرى، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كان لهم دائما في سير الشئون نفوذ قوي، بل كان هو الغالب في معظم الأحيان، وكانت جهودهم خلال هذه الأعوام تتجه إلى تقوية حقوق الطبقات العاملة وتوطيدها، وإلى مقاومة أصحاب الأموال والصناعات الكبرى والكتلة المحافظة من الملاك ورجال الدين. وكانت أهم المسائل السياسية التي واجهتها الجمهورية خلال هذه الفترة مسألتان: الأولى، مسألة التيرول الجنوبية، والثانية مسألة الاتحاد مع ألمانيا (الانشلوس)، فأما الأولى فترجع إلى أن معاهدة سان جرمان قضيت بفصل قسم كبير من أراضي التيرول الجنوبية عن النمسا وضمها إلى إيطاليا، وفيها نحو مائتي ألف نمسوي. وعبثا حاولت النمسا أثناء مفاوضات الصلح أن تقنع الحلفاء بتعديل هذا النص والإبقاء على حدود النمسا الطبيعية. وقد ازدادت هذه المسألة أهمية وخطورة حينما اشتدت وطأة النظم الفاشستية على أهل التيرول وأخذ السنيور موسوليني في حرمانهم شيئا فشيئا من أخص حقوقهم القومية والجنسية، وفرض عليهم اللغة الإيطالية في المدارس والكنيسة ولم يدخر وسيلة لسلخهم عن الكتلة الجرمانية وإدماجهم في الكتلة الإيطالية. عندئذ حاولت النمسا أن ترفع صوتها بالاحتجاج على هذه السياسة، وقامت الصحف النمسوية والألمانية عامة بحملة شديدة على ما تنزله الفاشستية بأهل التيرول من ضروب الظلم والإرغام؛ ولوح الرجال المسئولون في النمسا وألمانيا بإمكان طرح المسألة على عصبة الأمم تطبيقا لما تنص عليه معاهدات الصلح المختلفة من حماية الأقليات القومية. ولكن السنيور موسوليني أنكر هذه التهم، وسخر من تدخل العصبة ونوه بما تسبغه الحكومة الإيطالية على رعاياها الجدد من ضروب الرعاية والمعاونة، وأكد أن التيرول الجنوبية ضرورية لسلامة إيطاليا، وأن إيطاليا لن تنزل عنها قيد ذرة. وانتقد الشعب النمسوي موقف المونسنيور سيبل في هذه المسألة ورماه بالتردد والضعف، ولكن سيبل لم ير سبيلا للعمل الإيجابي إزاء وعيد موسوليني: ولم تستطع النمسا أن تحمل إيطاليا على تغير شيء من سياستها وخططها في التيرول، ولبثت المسالة مثاراً لسوء التفاهم بين البلدين مدى حين، وما زالت على حالها لم يتخذ بشأنها أي إجراء لإنصاف أهل التيرول.
وأما المسألة الثانية وهي مسألة اتحاد النمسا مع ألمانيا فقد لبثت مدى أعوام ظاهرة بارزة في السياسة النمسوية. وهي أمنية قديمة لدعاة الجامعة الجرمانية ترجع إلى أواخر القرن الماضي، وكانت قبل الحرب من غايات السياسة الألمانية، ولكنها لم تتخذ في النمسا الإمبراطورية أية أهمية، ولم يكن لها سوى أنصار قلائل بين شبيبة هذا العصر، فلما انتهت الحرب بانهيار الإمبراطورية القديمة وتمزيقها، وفصلت النمسا عن باقي وحداتها وشعرت النمسابمخاطر ضعفها وعزلتها عن باقي الكتلة الجرمانية، ورأت في اتحادها مع ألمانيا شقيقتها الكبرى خير سبيل لضمان مستقبلها السياسي والاقتصادي وأعربت النمسا فعلا عن هذه الأمنية لدول الحلفاء على يد مندوبيها في مؤتمر الصلح تطبيقا لمبدأ الرئيس ولسون في حرية تقرير المصير، ولكن الحلفاء عارضوا في تلك الخطوة أشد المعارضة كما قدمنا، لأن اتحاد الأمتين الجرمانيتين على هذا النحو يقوي ساعد الكتلة الجرمانية في أواسط أوربا، ويجعلها اشد خطراً وأبعد نفوذاً، ولما بدأت النمسا الجمهورية حياتها الجديدة، وآنست كل ما يعترضها من الصعاب السياسية والاقتصادية المترتبة على فصلها وعزلتها وتمزيق معاملاتها وعلائقها القديمة، عادت فكرة الاتحاد مع ألمانيا تبدو لها كعلاج ناجع، وكان الفريق المتطرف من أنصار الفكرة يرى أن يكون هذا الاتحاد تاما من جميع الوجوه السياسية والاقتصادية أو بعبارة أخرى يكون نوعا من الاندماج العام، ويرى الفريق المعتدل أن يكون هذا الاتحاد اقتصاديا قبل كل شيء يقرن بتوحيد الخطط السياسية العامة، ولكن تبقى النمسا محتفظة بشخصيتها واستقلالها الداخلي. بيد أن الفكرة كانت تلقى على وجه العموم تأييداً كبيراً من الشعب النمسوي، وكان أنصار الجامعة الجرمانية في البلدين يروجون لها بالدعاية الواسعة، وكانت تقام من أجلها المظاهرات في العاصمة النمسوية من آن لآخر، وتشجعها الحكومات النمسوية المختلفة. وكانت الديموقراطية الاشتراكية مع ذلك تشك في قيمة هذا الاتحاد وتخشى منه على مستقبلها وحقوقها إذا ما انتهى بالقضاء على استقلال النمسا بيد أنها لم تعارضه بطريقة إيجابية، وكانت تؤيد جانبه الاقتصادي على الأقل، خصوصا وقد كانت الديموقراطية الاشتراكية الألمانية يومئذ صاحبة النفوذ والسلطان في ألمانيا. واتخذت أول خطوة عملية لتحقيق مشروع هذا الاتحاد في سنة 1931 حيث عقدت النمسا مع ألمانيا اتحاد اقتصاديا جمركيا، وكان المفهوم أنه أول مرحلة فقط، ولكن دول الحلفاء، ودول الاتفاق الصغير، احتجت كلها على هذا الاتحاد بمنتهى الشدة. وانتهى الأمر بسحبه وإلغائه، وأدركت النمسا مرة أخرى أنه لن يسمح لها بالاندماج في الجامعة الجرمانية الكبرى.
وكانت فكرة الاتحاد النمسوي الألماني ما تزال قوية في النمسا حينما تولى الوطنيون الاشتراكيون الحكم في ألمانيا في يناير سنة 1933 وأخذوا يعملون لتحقيق برنامجهم، والمعروف أن العمل على تحقيق وحدة الشعوب الجرمانية في مقدمة المبادئ التي يحتويها برنامج الهرهتلر، وليس من ريب في أن ضم النمسا لألمانيا هو أهم عناصر هذا المشروع، وكان المفهوم أن ظفر الوطنية الاشتراكية بالحكم في ألمانيا يقرب أمد هذه الغاية، ولكن سرعان ما ظهرت الوطنية الاشتراكية الألمانية في ثوبها الحقيقي، مسرفة في العنف والطغيان وسرعان ما أخذت الحكومة الهتلرية تتدخل في شئون النمسا وتعاملها بخشونة وغلظة كأنها ولاية تابعة لألمانيا. وهنا أدرك الشعب النمسوي حقيقة لم يقدرها في البداية حق قدرها، وهو أن أنصار الجامعة الجرمانية لا يفهمون من الاتحاد إلا أنه قضاء على كيان النمسا كأمة مستقلة أو بعبارة أخرى ضم النمسا لألمانيا كولاية ألمانية. وشهد الشعب النمسوي في دهشة وسخط كيف تتجنى ألمانيا الوطنية الاشتراكية على النمسا، وكيف يحاول الدعاة الهتلريون أن يضرموا في النمسا نار الحرب الأهلية لكي تقضي على وجودها، وشهدت الديموقراطية النمسوية من جهة أخرى كيف قضى الهتلريون على الديموقراطية الألمانية في غمر من العنف المثير: عندئذ انهارت في الحال فكرة (الاتحاد) (الأنشلوس)، وظهرت للشعب النمسوي في روعة خطرها وخطئها، وقضت حكومة الدكتور دولفوس ومن ورائها سواد الشعب ترد عدوان ألمانيا الهتلرية، وتعمل لحماية الاستقلال النمسوي بكل ما وسعت من جهود.
للبحث بقية محمد عبد الله عنان
-