مجلة الرسالة/العدد 359/في سبيل الأزهر أيضا
→ الورق الأزرق | مجلة الرسالة - العدد 359 في سبيل الأزهر أيضا [[مؤلف:|]] |
نابليون الأديب ← |
بتاريخ: 20 - 05 - 1940 |
ً
فائدة الأربعاء
للأستاذ محمد محمد المدني
أعتقد أن (الرسالة) لم تأت فيما مضى من تاريخها بمثل هذا العنوان، ولولا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب - كما يقول الجاحظ - لزعمت أنها لن تأتي بمثله في مستقبل عمرها الطويل!
وأعتقد أيضاً أن كل معنى من المعاني التي يحتملها هذا التركيب سيرد على الذهن إلا معنى واحداً: هو معناه المقصود!
(الأربعاء)، يا سيدي القاريء، هو اليوم الخامس من أيام الأسبوع كما تعلم؛ أما الذي لا تعلمه - ولم أكن أنا أيضاً أعلمه - حتى علمته بالأمس القريب، فهو أن لهذا اليوم فائدة، وأن هذه الفائدة هي موضوع تحقيق علمي من الطراز الأول، لا يقوم به رجل من عامة العلماء، أو من صغار رجال الأزهر، ولكن يقوم به عالم خطير وفيلسوف كبير قد عرف بأنه فيلسوف الإسلام والمسلمين، وتبوأ مقعده من جماعة كبار العلماء منذ زمن طويل!
وهي لهذا جديرة بأن نجعل منها مقال اليوم، فنشغل بها قراء (الرسالة) هذا الأسبوع، كما اشتغل بها في الأسبوع الماضي قراء مجلة أخرى حين نشر البحث فيها باحثه الجليل!
كتب كاتب من (قنا) إلى الشيخ الكبير قال:
(إن كثيراً من أهل قنا وضواحيها وغيرها من البلدان، خصوصاً بعض أهالي جرجا، قد اعتادوا أن يقوموا بعمل فائدة تسمى: (فائدة الأربعاء)، وميعادها قبل الظهر بساعة تقريباً في اليوم المذكور من كل أسبوع بضريح سيدي عبد الرحيم القنوي رضي الله عنه؛ والجميع - يا صاحب الفضيلة - يعتقدون نفعها ويرجون بركتها، وهي مجربة بين الآلاف المؤلفة من المسلمين.
وإلى فضيلتكم كيفية هذه الفائدة:
(يذهب من أراد قضاء حاجة (هكذا)، أو تفريج كربة في اليوم والوقت المذكورين سالفاً، ويجلس في ضريح سيدي عبد الله القرشي - وهو على مسافة قريبة من ضريح سيدي عبد الرحيم (رضي الله عنهما) - ويكون على وضوء، ثم يقرأ سورة يس مرة أو ثلاث مرات، بنية قضاء الحاجة، أو تفريج الكربة، وبعد ذلك يخرج من الضريح، ثم يصلي ركعتين لله تعالى بنية قضاء الحاجة أيضاً، وهو عاري الرأس، في مكان متوسط بين الضريحين، وبعد تمام هاتين الركعتين يأخذ عمامته في يده وحذائه تحت إبطه، ويتوجه إلى ضريح سيدي عبد الرحيم، ثم يتجه إلى القبلة، ويدعو بالدعاء الآتي عاري الرأس أيضاً: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بحبيبك محمد ﷺ، وبأبينا آدم، وأمنا حواء، وما تناسل بينهما من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، وبعبدك هذا سيدي عبد الرحيم، أن تقضي حاجتي، وهي كذا. . .)
قال السائل: ولكن ظهر في هذه الأيام عالم من المتصدين للوعظ والإرشاد، ينكر هذه الفائدة قائلا: إن هذه الفائدة لم تكن في عهد رسول الله ﷺ، ولا في عهد خلفائه الراشدين. ولقد حدثت فتنة كبيرة بسبب ذلك بين المعتقدين لها، وبين العالم المذكور، لذلك رأيت أنا ولفيف من إخواني المسلمين أن نلجأ إلى فضيلتكم لتفتونا في هذه الفائدة لنكون على بصيرة منها لما نعهده فيكم من العلم، والحرص على نفع المسلمين، وتعريفهم أمور دينهم الخ)
هذه هي القضية! فماذا قال فيها (أبو حسن!)؟
قال - نفع الله الناس بعلمه -:
(الجواب عما سألت عنه من فائدة يوم الأربعاء، أن ذلك جائز لا شك فيه، بل هو مرجو البركة، وبركة الأولياء لا ينكرها إلا مخذول. ولست أدري: أي شيء في ذلك؟ وهل فيه إلا عدة أمور بعضها جائز، وبعضها مندوب إليه؟ ولا شك أن المساجد محل الرحمات والبركات، والتوسل بالأولياء والصالحين جائز لا شيء فيه، وقد ورد الأمر به، وفي الحديث عن عثمان بن حنيف وأظنهم يعرفون!) ولست أدري من هم الذين يظنهم مولانا؟؟
ولعله يريد الواعظ المسكين الذي يشير إليه صاحب السؤال!
قال الشيخ: وتوسل عمر بالعباس، ولو كان الأمر على ما ظن هؤلاء ما صح أن يقول عمر: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس، والمتوسل طالب من الله، مستشفع إليه بأحبابه فلا معنى لتلك الترهات، لأن لهم منزلة عند الله، وسيشفعون بمقتضاها في الآخرة، والأولياء أحياء عند ربهم يرزقون، ومن اعتقد أن من ينتقل من الدنيا يلتحق بالعدم فهو مكذب أو جاهل بما ورد في ذلك من المتواترات. . . الخ. . . الخ
ثم قال بارك الله للمسلمين في حياته:
(وبعد، فلست أدري لماذا لا يشنون الغارة على المنكرات في المجمع عليها؟ وما أجدرنا أن نخاطبهم بقول الشاعر:
أفتتركون المنكرات سَبَهلَلاً؟ ... وتحاسبون على اقتراف الذَّرَّةِ
أفتصلحون البيت من شرفاته؟ ... ما أنتمُ إلا كأهل الكوفةِ الخ
عفواً، يا قراء الرسالة وصبراً، فإنما أردت أن أهدي إليكم طرفة من الطرف التي وعدتكم بها يوم كتبت مقالي الأول (في سبيل الأزهر) وقد أبى الله إلا أن تجيء هذه الطرفة من حيث لا أحتسب، على يد أستاذ مبرز من جماعة كبار العلماء في الأزهر الشريف!
ولست أريد أن أنقد هذه الفتوى، لأني رجل من صغار العلماء، وليس من الأدب الذي درجنا عليه وأخذنا به أن يتطاول الصغير إلى مقام الكبير. وفي منصب الإفتاء رجل علاّمة ثَبَت محقق، هو صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم، يعرفه الناس فقيهاً جيد الفقه، وبصيراً بما يتناول منه؛ وعند جهينة الخبر اليقين!
ولكني أقتصر فيما يتعلق بهذه الفتوى على تسجيل بعض (الظواهر) واستجلاء بعض (الغوامض)
السؤال الذي بنيت عليه الفتوى يعرض المسألة على أنها عقيدة لإقليم من أقاليم مصر العليا، ويذكر أنها أمر من أمور الدين وأنه حدثت بسببها فتنة كبيرة بين عالم واعظ وبين معتقديها: هم يتمسكون بما يعلمون منها، وهو يقول لهم: لم تكن على عهد رسول الله ﷺ، ولا خلفائه الراشدين
فكيف عالجت الفتوى هذه النواحي:
إنها أقرت المعتقدين على ما يعتقدون، فذكرت لهم أن هذا جائز لا شك فيه، واستدللت على ذلك بأن هذه العملية ما هي إلا مركبة من أمور بعضها جائز، وبعضها مندوب إليه، وأن التوسل على هذا النحو وغيره مأمور به في الحديث
أما ما يخص العالم الواعظ منها فهو قول الشيخ: (وبركة الأولياء لا ينكرها إلا مخذول) و (أظنهم يعرفون!) و (لا معنى لتلك الترهات) و (ومن اعتقد كذا فهو مكذب أو جاهل بما تواتر. . . الخ)
وتخرج الفتوى بعد ذلك عن نطاق ما هي فيه، فتنكر على الناس أن يتعلقوا بصغائر الأمور دون كبارها، وأن يتركوا المنكرات المجمع عليها (سبهللاً) ويحاسبون على اقتراف الذرة. الخ
هذا ما أردت أن أسجله من ظواهر الفتوى. ويجب أن يفهم هنا أنه لا شان لي بالتوسل بالأولياء جائز أو غير جائز، ولا بأنه قد أمر به في الحديث أو لم يؤمر به في الحديث
ولا شأن لي بحياة الأولياء عند ربهم، ولا بكيفيتها، ولا بنوع العمل الذي يدخل في قدرتهم بعد موتهم، أو الذي لا يدخل لا شأن لي بشيء من ذلك كله، فقد تكلم فيه الناس كثيراً وللشيخ فيه جولات، ولخصومه جولات! كما للشيخ في حياة الأرواح وعجائب الأرواح جولات، ولا نحب أن نشغل بشيء من ذلك قراء الرسالة
ولكني أتساءل: أيكفي أن يكون شيء مركباً من أشياء بعضها جائز وبعضها مندوب إليه ليكون حقيقة معترفاً بها من الشرع؟ حتى لو لفق ملفق بين عدة مندوبات وعدة واجبات أو جائزات، وأنشأ من ذلك عبادة يلتزمها ويتقرب إلى الله بها على وضع خاص لما كان في ذلك ملوماً؟
ثم ما هي المسائل التي هي منكرات مجمع عليها، وقد تركت من غير بيان حتى صارت (سبهللا) بهذا التعبير الظريف؟
وما الموازنة بين هذه المسائل المعروفة التي أجمع الناس على تحريمها، والمسائل التي شغف كثير من الناس أن يلبسوها ثوب الدين وما هي من الدين؟
وإني لأتوجه بعد ذلك إلى أستاذنا الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف دراز مفتش الوعظ والإرشاد لأساله: ماذا فعل الله بهذا الواعظ المسكين الذي أنكر (فائدة الأربعاء)، وأثار عليه الشيخ هذه الحرب الشعواء؟ أتركته إدارة الوعظ بين هؤلاء القوم محصوراً لعلهم يقضون عليه، أو يسيئون إليه. أم أنقذت المسلمين في قنا وضواحي قنا منه إن كانت تعتقد أنه شر ووبال؟
أما بعد:
فإني أقول لأصدقائي وشيوخي الذين أثارتهم كلمتي السابقة، فعلقوا عليها قولاً وكتابة بأقوال وألوان شتى من (التعليقات): إني أحب الأزهر كحبكم، وأنا فيما اعتقد أشد له حباً، ولكني أكره هذا اللون من ال. . . ولا أقول كما قلت في المرة السابقة من التسكع العلمي، ولكني أقول: من (التلطف العلمي!)
في الوقت الذي يشتغل العالم فيه بحرب عامة، أقامت الدول وأقعدتها، ويوشك لظاها أن يأتي على الأخضر واليابس من الأموال والأنفس والثمرات
لا تشغلوا الناس بهذا النوع من الأبحاث في الوقت الذي يستمعون فيه كل يوم إلى أخبار الطائرات التي تمخر عباب الجو، والمظلات الواقية التي تتساقط بها الجنود جيوشاً من السماء!
إننا نسمع ذلك، ونسمع من ورائه أحاديث الناس فينا، وأقوالهم عنا، فهل يجوز مع هذا وذاك أن تشغل الناس (بحديث الأربعاء)؟
استغفر الله العظيم! فإن (حديث الأربعاء) عنوان قديم لكاتب لا أحبه، كان يتحدث فيه عن الأدب والأدباء، وإنما أردت أن أقول: (فائدة الأربعاء) فنسيت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره!
وعلى ذكر الشيطان، أهمس في أذن الذين ما زالوا يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بأمره: لست صاحب الموضوع، وإن صاحبه لمعروف لكم غير مجهول، فناقشوه صرحاء، ولا تجعلوني بينكم وبينه ترساً إن كنتم تجدون
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة