مجلة الرسالة/العدد 359/عنان
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 359 عنان [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 20 - 05 - 1940 |
للأستاذ مراد الكرداني
كن أربع غيد عذارى فاتنات ناعمات يتحدثن ويسمرن في مجلس خامستهن، وقد جئن يهنئها بخطبتها وكن أخص صواحبها
قالت حورية - وهي غرة صغيرة، خفيفة الظل - تخاطب العروس: فعلِتها يا عنان؟
فابتسمت عنان بفمها وعينيها ابتسامة أشرق بهاؤها وقالت في حياء وفرح: العقبى لكن جميعاً
فاندفعت ثريا - وهي ضاحكة تحب عنان وتؤثرها - تقول وتضحك: تلك حال الدنيا يا عنان. . . وكلنا لها، فضحكن جميعاً ضحكاً حلواً مُرِنَّا كالغنم الأغن. فإجابتها عنان:
- هذا عزاء يقال للمسكين الذي يبتليه الله بك يا خرقاء. . . ثم لما صفا المجلس من هَذَر ثريا ومجونها أقبلن على عنان ورجونها في شغف أن تحدثهن كيف أتم الله نعمته عليها. فبدأت تقص عليهن وقلبها يقفز من الفرح، فتسَّاقط الألفاظ من فمها الصغير مبتورة ضائعاً نصفها في شهقة خفيفة ما كانت تقوى أن تخفيها من فرط ما تحس به من سرور وفرح. . . ولم تفت حالها ثريا فقالت: ما هذا يا عنان؟! اثبتي لو رآك خطيبك لطمع فيك ولا استثمر لنفسه تلك الفرحة التي تفيض من عينيك فَذَلَّكِ وخضَّعك. . . أنت فرحة أكثر من اللازم كل جارحة فيك تهتز حتى كلامك يخرج مهتزاً مدغوماً. . . انظرن قلبها كيف يرقص من خلال عينيها، ووجهها كيف يضحك كله كأن قد انتخبت نائبة في مجلس النواب أو سفيرة لبلادها!! خفضي عليك يا عنان فهو رجل. . . رجل لا أقل ولا أكثر. . .
فقالت عنان في نشوة ظاهرة وإيمان صادق:
- اسكتي يا مجنونة اسكتي. . . حين ذهب عنكن الرجل، وحين تبيَّنُتن أنه جاد ولن يرجع، رُحُتن تنشدن السلوى عنه في السفارة والنيابة. . . والله لو أنا أبوك لبحثت أنت عنه في النواب ثم خرجت به. ما كان أجمل أن يبحث هو عنك. . . أما أنا فلقد ظفرت برجل يا ثريا
فناصرت هدى - وكانت قد عنَّست - رأي عنان
-. . . في زمن عز فيه الرجال يا ثري وكانت حورية قد تركتهن يصطخبن كما يحلو لهن، وأعملت أسنانها في الطبق المثقل باللذيذ من الحلوى، حتى إذا أتت عليه رفعت رأسها وقالت لعنان، ولا تزال تمضغ وتتمطق:
- أوَ يكون في ليلة العرس عشاء؟ لعله عشاء كامل مسمن، لا أن ندور لنلْتقم من كل صنف لقمة، كأنما جئنا لنتسلّف أو لنتقصى أنواع الطعام!
فالتفتت لها ثريا ودارتْ عينُها لما رأت الطبق فارغاً، ثم نهضتْ فضربتها وجعلت تدسُّ لها الطبق فارغاً في فيها تريدُها أن تمضغه هو الآخر. فانفجرن جميعاً ضاحكات، ونهضتْ عنانُ فعوضتهن وأجزلت
قالت هدى لعنان وكانت أشغَفهن بسماع الحديث:
- حدثينا كيف ظفرت برجلك ولا تلْتفتي للمجنونة ولا للمنهومة. . .
فقالت عنان:
- والله إن الأمر يا هدى عجبٌ من العجب، لعله لا يصدق أو لعله هَيَّن نادر، ولكنه وقع لي على أي حال. . . كان جالساً بجواري في مركبة عامة لا أعرفه ولا يعرفني، فَلَفَتَ فيَّ فقبَّلني في زحمة الناس وعلى عيونهم! ثم تبعني لما نزلت. . ثم جاء فخطبني!
فشُدْهن كلهن، وشاع فيهن حنين خفيف، وثارت فيهن أنوثتهن المحرومة والمنتظرة. . . فأصْغَين إليها وأقبلن عليها وهي تفصَّل ما أجملت:
- كنت أترقب السيارة الصاعدة إلى (مصر الجديدة) وكانت الزَّحمة بالغة، وتدافع الناس على باب الدرجة الأولى. فهداني ربي أن أدلف إليها عن طريق الدرجة الثانية، ولكني - وقد استويت راكبة - عجزت أن أبلغها، فوقفت أهتز وأتدافع وسط الرجال. فتضاغط الجالسون إلى يساري ووسعِوني، فجلستُ خامسة في مقعد يسع أربعة وكان هو إلى يساري يتأملني ويختلسني بأطراف عينيه. أفجأه فيغض، ثم يعود فأعود. . . ولما شعرتُ بدقَّ قلبه. إذ كان جسمه لصق جسمي تركته فلم ألفِتْ فيه. . . ثم بدا له أن يرسل عينيه في الطريق من ناحيتي في نفس اللحظة التي بدا لي فيها أن أرسل عيني أنا الأخرى من ناحيته. فَرَفَّ شفتي بشفتيه! وتلاقت عينانا في نظرة داهشة ثم عاتبة وغاضبة. وكانت قبلة ضاعت حلاوتها في حَرةَّ الخجل التي تنفَّثَتْ فيَّ فأطرقت مضطربة محمومة لم أدر ما حدث بعد ذلك ولكنه خبرَّني. قال وهو يعيد الذكرى على سمعي:
. . . لم أستطع أن أواجه أعين الناس. وحنقت على نفسي أشد الحنق، وأحسست أن الدم قد تصعد وفـ. . .
وأمسكت عنان عن حديثها بغتة لأنهن لفتن نحو الباب ففوجئن - ما عدا عنان - برجل يقتحم عليهن فألفينه شاباً موفور الشباب رائع الرجولة، فجأت رجولته أنوثتهن فتمنَّيْنَه، وثار عليهن نقصهن فغبطن عنان التي وجدت كمالها
ونهضت تقدمه لهن وتقدمهن له، فرحب وهو يبتسم ويجلس جنب عنان جلسة يزحمها بها، كأنما يعاود على فؤاد منها ذكرى اللقاء الأول والقبلة الأولى. فتضاحكن من ظرفه ومن جِلسته ثم اندفع هو مستطرداً كأنه الذي كان يتحدث:
- لقد حنقت على نفسي وأحسست الدم. . .
فشرعت فيه عنان عينيها، فغضَّ، فقال:
- من غير إذن. . .! ثم من أدراك أنهن يسمعن لك؟
فقال: من التوفيق وحسن الحظ أنني أقبلت حين بدأ الحديث يكون عني، أعني في شأني، فأنت التي يجب أن تنأذني، لأن الذي حنق هو أنا، ودمي أنا - لا دمك أنت - هو الذي تصعد في وجهي وفي قنة رأسي فجعل يخزني كأن إبراً تتوالى على صفحة وجهي وفي هامتي، فجعلت أتحسس مواضع الوخز وأنا مطرق لا أجسر أن أرفع، ولكني عدت فاختلستها - وهي مطرقة مثلي - فرأيت الوجه الجميل قد تورد كله. ثم تجمع ورده وزكا في الخدين فوهجا وأضاءا. فسلبتني روعة حياءها قسوة حيائي. فلم أعد أحفل بالناس، إذ لم يعد في وسع عيني ولا في أقطار نفسي سواها
ثم تكشفت على فؤادي من عينيها - لحظة شرعتهماُ فيَّ - فتنة جديدة أشد وأروع كانتا مسبلتين فنجلتهما في، فكأنما - والله - سلت الأهدات الطَّوال المشرَعة في كبدي فسيَّلتها!
لم أستطع أن أحتمل أكثر من ذلك. فهامستها - من غير وعي وأنا لا أعرفها - أن من الأوفق أن ننزل. . .
فقطعت عنان حديثها قائلة في تتايه ودلال:
- كنت وإياها كوسيط مسحور يصرفه المنوم كيف شاء - فقال أأذنت لك أن تقاطعيني.
اسكتي. فهذا حديث كبار فبسمن جميعاً وعاد يقول:
- نزلنا ولم يبلغ واحد منا وإنما هربنا من فضول الناس. لم ندر كيف، ولم تدر هي كيف أطاعتني. فكلانا ذاهل غائب فتى يقبل فتاة لا تعرفه ولا يعرفها في جمع الناس وعلى عيونهم ثم ينهضان معاً. . . إن هذا لشيء عظيم!
ولبثنا وقوفاً زماناً ثم جمعت بدد ذهني قليلاً حين دار في أذني سبابها خفيفاً حلواً يتندى على فؤادي كحبات الماء على جبين محموم.
وقلت: إنها غلطة يا آنسة وإنها - ولا يد لي فيها - لأحب إلى نفسي من عملي كله
فعبس فمها. . . فمها فقط. . . عبسة أشهد ما رأيت أحلى ولا أروح منها، وعاد سبابها العذب يتوثب حول شفتيها ثم يتسامى إلى قلبي نغماً قصيراً رقيقاً يحمل في وهن رقته قوة فتائه. . . فابتسمت ثريا وقالت:
- مرحى. مرحى. هذا منطق عاشق يسمع بقلبه سباب حبيبه نغماً كحباب الكأس ما تسمو واحدة حتى يعالجها فناؤها الكامن فيها
فأمن على تشبيهها واستطرد عليه يقول: أي والله يا. . . ونسي فأدركته عنان قائلة. . . يا ثريا
- أي والله يا ثريا إنه لكذلك على فؤادي كان يوقظ حنينه ولا يشبعه! ولكنه لم يكن سباباً. أنه - يا آنسة - غضبةُ جمال شق عليه أن يمتهن على أعين الناس
وكانت إفاقتي على حلو سبابها ردة على جمال جديد تجلى على فؤادي من قوامها المعتدل سحرتني وحيرتني فلم أدر أياً أطيل فيه النظر ولا أياً أقصر عنه. . . كانت فتنة مجسدة، وكنت من فمها وحده بين ثلاث متن: أكبرها وأقتلها أنني قبلت هذا الفم وأوسطها أنني نعمت به حين عبس فبدا بشفتيه - العليا على السفلى - كفراشة حمراء قانية بسطت جناحيها الصغيرين ثم نامت على لفة وردة تترشف رحيقها. . . وأنني سحرت حين ترسل على فؤادي منه نغم حبيب. وأهونها - وتلك من عجائب القلب - أنني فزت بعد ذلك برضاه. . . إنه حلو فاتن حين يرضى، وإنه لأحلى وأفتن حين يعبس
فضحكت ثريا وقالت:
- الأمر بيدك. . . اغنم لنفسك الأحلى! فقال وهو يبتسم: هذه أنانية يا آنسة!
وقالت عنان تُتم الحديث من حيث قطعتْه ثريا:
-. . . وفرغَ سبابي فَمدَّ إليَّ يده في ضراعة وقال لي:
- إنه خطأ هين، وإني لمصلحٌ ما كان بجمال ما سيكون، ولذلك لن اعتذر، وعاد هو يتم لها:
-. . . قلتُ لها: ولذلك لن أعتذر؛ فعقدت حاجبيها وتغَضَّبَتْ بعينيها، ولكنها ابتسمت على رغمها ابتسامة كانت تمنعهاُ جهدها وتخفيها، ففهم قلبي معاني قلبها، وناجت روحها روحي، وانسرقتْ حواسها بجملتها على غفلة منها فألقت في حواسي رسالة فرحتُ بها فاتَّزنت واطمأن قلبي
وجاءت سيارة فقفزت إلى الدرجة الأولى لتواصل طريقها وقفزت أنا في الدرجة الثانية، ولما نزلتْ هي نزلت أنا وتحاشيتها وعرفت من بُعدٍ منزلها. . . ثم. . . ثم اقتحمت على أبيها فأسعدني وأسعدها
فبسمت عنان ابتسامة أشرقت في قلب خطيبها هذه المرة، وقالت في دلال وتخابث: في (وأسعدها) بحثٌ وكلام
فأخذ وجهها بين يديه وقَبَّلها على مرآي منهن قبلة عاجلة وهو يقول:
- لا كلام ولا حديث لقد ظفرت بالدنيا يوم ظفرت بك يا عنان وخرج يجري فائزاً بقبضة يدها تهوى على ظهره جزاء ما فعل
- أما هن - كان الله لهن - فقد تخاجلن وتضاحكن.
ثم نظر بعضهن إلى بعض، وقمن لينصرفن. فقالت لهن والدنيا لا تسعها: إنه خفيف الظل وأنا أعبده
فقالت ثريا:
- إنه رجلٌ يُتَمَّنى يا عنان، وإنه لحقيق أن يحبَّ ويعبد، لو كنتُ مكانك. . .
وعَىَّ على المسكينة أن تزيد. فَجَرَّتْ هدى وزاملْتها وأرسلتا - حين صارتا في الطريق - زفرة حارة، وزادت هدى أن عبرة فرَّت منها برغمها
وقالت ثريا: - تعالي يا هدى سنركب الدرجة الثانية من سيارة مزحومة وبعداً - منذ اليوم - لسيارتي وللدرجة الأولى. . . ولتحرص كل منا أن تجلس - منذ اليوم أيضاً - خامسة في مقعد يسع أربعة. . . لعل وعسى. . .
مراد الكرداني