مجلة الرسالة/العدد 358/في سبيل الأزهر
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 358 في سبيل الأزهر [[مؤلف:|]] |
إذا شبت الحرب في البحر الأبيض ← |
بتاريخ: 13 - 05 - 1940 |
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
أعتقد أني لا أتجاوز الحقيقة حين أقول إن كلمات الأستاذ الزيات تنزل برداً وسلاماً على قلوب المخلصين للأزهر؛ وإنهم يرون فيها بريقاً من النور يضئ لهم سبيل الإصلاح فيما يبتغون للأزهر من إصلاح.
وللرسالة في الأمة المصرية وفي الشرق الإسلامي جميعاً مكانتها السامية الممتازة التي تجعل لكل ما تعالج من موضوعات أهمية خاصة، لا يستطيع أحد معها ألا يعطيها ما هي حقيقة به من التقدير والعناية
لذلك كانت دعوتها لإصلاح الأزهر جديرة بألا تمر كغيرها من دعوات الإصلاح، وكانت جديرة بأن يتجاوب صداها في أجواء الأزهر مدوياً عالياً، فيردده رجاله عارضين صوراً من أدوائه راجين أن تعالج علاجاً ناجعاً، حتى تنحسر عنه ولا تنتقل عدواها إلى أبنائه الناشئين.
الأزهر من غير شك محتاج إلى الإصلاح في كثير من نواحيه، والأزهريون الآن متطلعون إلى من يداوي ما يحسون به من علل ليست من صنيعهم ولا يد لهم فيها، وإنما انحدرت إليهم مع الزمن ميراثاً ثقيلاً؛ وما دامت النفوس مستعدة والنيات خالصة فسيأتي اليوم الذي ينفض فيه الأزهر عن نفسه كل ما يشوه جماله أو يسئ رسالته
وإن من البشائر التي تطمئن على نجاح هذا السعي ونفاذ هذه الدعوة إلى القلوب، اشتراك الأزهريين أنفسهم في معالجة هذه العيوب ومحاولة التخلص منها؛ ولن يقدر أحد على إصلاح الأزهر كما يقدر عليه أبناء الأزهر؛ فقد حاولت ذلك حكومات فيما مضى فلم يتأت لها ما تأتى لابنه البار (محمد عبده) ولم يقدر أحد على ما قدر عليه في هذا الشأن مع ما وضع في سبيله من عراقيل وما أرجف به عليه من ترهات وأكاذيب؛ لأن دعوة الحق لابد أن تجد سميعاً ولا بد أن تتغلغل في النفوس وأن ينصرها - من حيث لا يشعر - أولئك الذين يعملون جاهدين على كيدها والصد عنها، ودعوات الإصلاح يخدمها خصومها كما يخدمها أنصارها
وها قد أصبح يؤمن بمبادئ الأستاذ الإمام ويتتبع مناهجه، ويدل بذلك حتى صار من فخ الرجل في الأزهر الآن أن ينتسب إلى الأستاذ الإمام تلميذاً أو مسترشداً أو صديقاً، بعد أن كان في حياته هدفاً لسهام الطاعنين ونبال الحاقدين.
وفي يد الأزهر الآن فرصة ثمينة لا يسوغ له أن يضيعها أو يهمل استغلالها، هي قيام الإمام الثاني الأستاذ المراغي على رياسته وتوجيهه، ومن ورائه في ذلك طائفة من المخلصين للأزهر المقتنعين بفكرة الإصلاح قرأت خطبه وأحاديثه ودرستها دراسة فاحصة ممعنة فاتخذت لنفسها وجهة الخير منها، وحرصت أن تهتدي إلى طريق النجاح بها. ولست أحب أن أسمي هؤلاء كما سماهم الأستاذ الزيات (شباب المراغي) فإن روح المراغي لم تكن قاصرة على التأثير في شباب فحسب، وإنها لأشد قوة وأبعد أثراً من ذلك فقد أثرت فعلاً في شيوخ قد جاوزوا عهد الشباب وخلفوه، فأجدر بنا أن نسمي هؤلاء وهؤلاء (مدرسة المراغي)
ولسنا نلقي هذا الكلام على عواهنه فإن الأستاذ المراغي حينما خطأ خطوته الجريئة في إصلاح بعض القوانين المتصلة بالأحوال الشخصية وقف في طريقه إذ ذاك كثير من العلماء، وعلى رأسهم عالمان فاضلان ألفا رسالة ذكرا فيها أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة التي أجمعت عليها الأمة؛ فهل تدري أيها القارئ أنهما الآن يعملان عضوين بارزين في لجنة الأحوال الشخصية التي لا تقف فيما تختار عند المذاهب الأربعة! أليس هذا أثراً لروح المراغي واستجابة لرجة الإصلاح التي يستوي عندها الشيب والشباب؟
هذه المدرسة الصالحة يعلق عليها الأزهر الحديث آمالاً جساماً وتنتظر منها الأمة نهضة قوية تساير نهضتها في كل نواحي التقدم؛ تنتظر منها أن تخرج للناس كتباً واضحة الأسلوب جديدة المعنى خالية من التعقيد والغموض، وأن نفهم الجو المحيط بها فهماً صحيحاً فلا تكتفي بالعيش في ظلال كتب تمثل عصوراً خلت، ربما كانت هذه الكتب صالحة لها موفية بحاجتها، وهي الآن عاجزة عن حل المشاكل التي تعترض الناس في معاملاتهم ونظم حياتهم؛ تنتظر منها اشتراكاً فعلياً في توجيه الثقافة القومية في البلاد، في الأحاديث التي تذاع، والمقالات التي تنشر، والمحاضرات التي تلقى، وفي تعليم الشعب وإرشاده بأسلوب لا يجافي روح العصر الذي نعيش فيه؟ فقد مضى عهد الجمود والوقوف عند النصوص من غير مراعاة لروحها وظروف أحوالها والعوامل التي أثرت فيها، تنتظر منها كذلك أن تبين بالعمل لا بالقول أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان حتى ينخلع من أذهان الواهمين ما اعتقدوه من تنافر الدين مع ألوان الحضارة ومجافاته أساليب الرقي العلمي والفكري
إن الأمة تضع الأزهر في مكان القيادة منها، أو هي ترجو ذلك فيه؛ فليعرف هذه المنزلة وليحرص عليها، وليعمل على الاحتفاظ بها، ولا يمتعض رجاله من كلمة الحق تقال في صراحة سافرة على منبر عام أو خاص، فإنها إنما بإخلاص لمصلحة الأزهر وخيره، والإبقاء على منزلته ومكانته
إن النفور من دعوة الإصلاح، والهرب من مواجهة العلل وإغماض العين ولوى العنق سياسة غير صالحة في هذا العصر، وإنه لا يكفي أن تقنع في نفسك بأنك خير الناس ليعتقد الناس فيك هذا، ولكن يجب أن تبرهن لهم عملياً على ذلك وتشعرهم بأنك تحس بإحساسهم وتفكر في حل مشكلاتهم، ولعلنا ننتفع بما أرشد إليه أستاذنا الأكبر في خطابه الأخير من قوله: (إني أرحب بالنقد البريء، وأنصح لكم ألا تضيق به صدوركم، فإن كان حقاً فاشكروا الناقد وأعملوا على الخلاص من الخصال التي كانت سبب النقد، وإن كان غير حق فادفعوه بالحسنى وأظهروا براءتكم مما وجه إليكم)
لقد كان للأزهر فيما مضى موقف سلبي فيما يتصل بتنظيم الفقه وتحويره وتعديله للانتفاع به في القانون والتشريع؛ ومازال هذا الموقف السلبي وصمة في تاريخ الأزهر، تغمض العين منها على قذى موجع، وتنطوي الأحشاء منها على ألم ممض؛ ولقد كان من أثر هذا الموقف المعيب الذي حرص أصحابه عليه (تورعاً) فيما زعموه أو فيما زعم لهم بعض الناس، أن تحاكم المسلمون إلى غير شريعتهم، وألزموا بغير قوانينهم، وهو ما نأسف له جميعاً؛ فهل يكون موقف العلماء اليوم كموقف أسلافهم بالأمس؟ أو هم مستعدون لإصلاح هذا الخطأ وإقناع الناس بأن الشريعة الإسلامية السمحة غير عاجزة عن مسايرة المدنية في أجلى مظاهرها، وإدراك غاية الإصلاح الاجتماعي وتلبية حاجاته ومطالبه، فيصدروا في فقههم عن هذه الروح التي لا تغفل ما جدّ للناس من نظم ومعاملات؟
إن اليوم الذي يخرج فيه العلماء للناس بهذه الفقه النافع لهو النصر الذي يتمناه المسلمون جميعاً؛ وهو اليوم الذي يصل فيه الأزهر - كما يقول الأستاذ المراغي - إلى الغاية التي يرجوها من أداء الرسالة الإسلامية على الوجه الملائم لطبيعة العصر وعقلية الناس
وكم نرجو أن يتحقق ذلك في هذا العهد المبارك لنمحو من الأذهان موقف السلبيين، وليشهد التاريخ أن الأزهر في عصر فاروق غيره في عصر إسماعيل، وأنه على عهد المراغي غيره كذلك على عهود من سبقه من الشيوخ
عبد العزيز محمد عيسى
مدرس بمعهد القاهرة