مجلة الرسالة/العدد 358/الأدب في الأسبوع
→ سمفونية شعرية | مجلة الرسالة - العدد 358 الأدب في الأسبوع [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 13 - 05 - 1940 |
نجوى الرافعي
أيها العزيز!
(في القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفنَى وفي القَلبِ تُحْفَرُ القبورُ العزيزة التي لا تُنسى)
هكذا قلت (وعواطفي تشيِّع الميت الحبيب مطرقة صامتة) واليوم ماذا أقول؟ أما إنك لتعلم - أيها الحبيب - أن الذي بيني وبينك دنيا تمشي الأحزان في أرجائها نائحة باكية. . . لستُ أكفر بأنعم الله عليَّ أو عليك. . .، كلا، كلا!! لقد ذهبتَ إلى ربك راضياً مرضياً فرحاً بلقائه، مؤمناً بما زَّين في قلبك من الإيمان، وبقيتُ أنا لأبحث عن أحبابي بعدكَ،. . . لأفقِد لذَّة المعرفة التي يفيض فيضها من الصداقة والحب،. . . . لأتلدَّدَ هاهنا وهاهنا حائراً أنظر بمن أثق،. . . لأجدَ حَرَّةَ القلب وكَمد الروح وألمَ الفكر من حبي وصداقتي،. . . لأسير في أوديةِ من الأحزان بعيدة: أمشي وحدي، وأبكي وحدي، وأتألمّ وحدي. . . لا أجدُ من أنفُضُ إليه سرَّ أحزاني،. . .
ذهبتَ وبقيتُ. . . لأتعلَّم كيف أُنافق بصداقتي بعضَ النفاق لأنهم يريدون ذلك. . . لأُجيد مهنة الكذب على القلب لأنهم يجيدون ذلك،. . . . لأتعلَّم كيف أنظر في عيونهم بعينين لئيمتين يلتبس في شعاعهما الحب والبغض، لأنه هو الشعاع الذي يتعاملون به في مَوَداتهم،. . . لأفْنِيَ بقائي في معانيهم المتوحشة إذ كانوا هكذا يتعايشون،. . . لأحطم بيدي بنيان الله الذي أَمرنا بحياطته، وأتعبد معهم للأوثان البغيضة الدميمة التي أنشأتها أيديهم المدنسة القذرة،. . . لأجنِي الثمار المرّة التي لا تحلو أبداً ولكنهم يقولون لي: هذا ثَمَرٌ حُلْوٌ، فلماذا لا تأكل كما يأكل الناس؟
ذهبت - أيها الحبيب - وبقيت. . .، في الحياة التي أولها لذةٌ وآخرها لذْعٌ كأحرِّ ما يكون الجمر حين يتوهج، بقيتُ للحياة التي تريد أن تسلبَ القلبَ براءةَ الطفولة لنملأه إثماً وخداعاً وشهوةً. . . بقيتُ على الحياة في الأرض التي تميد وترجف وتحتدم من تحتي، لأنها تنكر الإيمان الذي يمد بسبب إلى السماء. . . بقيتُ بقاءَ حبة القمح في رمال الصحراء المجدبة لا أجد مائي ولا تربتي. . . ولا من يزرَعُني. . .
شدَّ ما اختلفتْ عليَّ أحداث الحياة من بعدِكَ أيها الحبيب!
كنتُ أشكو إليك ما أُلاقي من ظمأ الروح الهائمة، وهي تطوف بحسراتها على ينابيع الحياة لا تنتهي ولا تستطيع أن ترِدَ. . . كنتُ أبثّك كأحزاني وهي جالسةٌ توقِد النارَ على نفسي وتؤرِّثها بأفكاري القلقة التي لا تهدأ ولا تنقطع. . . كنتُ أشكو إليك آلامَ الشَّوْكِ الذي تنْبِتُهُ في قلبيَ الشكوك العاملةُ الناصبة التي جعلتْ همَّها تعذيبي بالحيرة والخوفِ والحرمان. . . والحقيقة المؤلمة أيضاً. . . كنتُ أجدكَ حين ينبغي أن أجدَك، لأقول لك ما يجب عليَّ أن أقول. . .
شدَّ ما اختلفتْ علي أحداثُ الحياة من بعدك أيها الحبيب! وهاأنذا أريد أن أجدَ بعدكَ من أضعُ في يديه الرفيقتين هذه الجروح الدامية النابضة التي أسمِّيها قلبي. . . أريد أن أضع أفكاري التائهة في بيداءِ الظنون المغفرة، بحيثُ تجدُ مَن يتولى أمر إرشادها إلى رَوضَة اليقين الناضرة. . . أريد أن أجدَ مَلْجئ المؤمن حين تطارِدُني من الظنِّ صعاليكه الكافرة. . . أريد أن أعرف لذَّة الصداقة والحبِّ حين لا أجدُ من الحياة إلاَّ آلام صداقتي وحبي. . أريد. . أُريدُ!. . . أُريدُ مَنْ أقول له: ها أنذا بعذابي وضَعفي وخُضوُعي؛ فيقول: وها أنذا بصبري وقوَّتي وحبي لك. . أُريد من أقولُ له: هذه جروحي التي تَنْفُثُ الدمَ لا ترقأُ ولا تستريحُ ولا تبرأ إلا على وعي من دَمِها؛ فيقول لي: وهذا طِبِّي الذي يحسمُ هذا الدم لتستريحَ وتبرأَ من أَلم النزيف، يا بنيَّ. . .!
(يا بني. . . .) هذه طفولتي، أريد من يحنو علي بها حنو الأم على صغيرها الذي هو كل أشواقها الرقيقة من قلب نبيل رقيق. . . (يا بنيَّ. . .)، هذه طفولتي، أريد من يمسح بها أحزاني التي حيَّرت بصري لأعرف من بعد طريق رجولتي التي تريد أن تعمل وأن تسير وأن تصل إلى سر أشواقها البعيدة الجميلة. . . (يا بنيَّ. . .)، هذه طفولتي، أريد من يعرف أني طفل وديع حين أؤوب من كدي وكدحي، فيتلقاني بين ذراعيه إلى قلبه لأشعر بحنان من الروح يطفئ غُلتي، ويرسل في أعصابي ريها من الحب، الحب الذي هو فجر الحياة بنعومته ورقته وطهره، الحب الذي يرد القلب الظامئ زُهرة تتفتح في جو من النور والندى والشباب. . . (يا بني،) من يقولها لي يضع في نبض أحرفها نبض الحب. . .
أين أنت أيها الحبيب؟ كنتَ أخي وصديقي ومن أستودعه سر قلبي المعذب في تنور الحياة المتوحشة التي يضطرم جوها بالصمت المتوهج والوحدة المستعرة. . . كنت أخي وصديقي، وأنا أبيد كما تبيد الأيام والليالي في كهوف الحياة الدنيا. . . كنت أخي وصديقي، وعواطفي تزأر وتجأر في باطني كأنها وحش جريح متألم ثائر لا يرى من جرحه لينتقم. . . فالآن وقد جددت الدنيا أساليب تعذيبي عذاباً ضعفاً من الآلام. . . الآن وقد أوجدتني الحياة ما أريده، ثم وضعت بيني وبينه سداً يصف ما وراءه من أشواقي ويقف دوني فلا أنفذ منه. . . الآن وأنا أشتعل وأتفانى من جميع نواحي. . . الآن وأنا أتوثب في قيود مرخاة تمنحني الحركة وتمنعني دون الغاية. . . الآن وأنا أمزق جو حياتي بزئيري وأنيابي ومخالبي، وأحرقه بوجدي ولوعتي واشتياقي. . .
الآن أين أنت أيها الحبيب؟ يا أخي وصديقي
أنظر إلي - أيها الحبيب - من وراء هذه الأسوار المنيعة التي تفصل بين الحياة والموت. . . الأسوار التي تمشي إليها الحياة كلها ساعة بعد ساعة دائبة لا تقف، فإذا بلغتها ابتلعتها من حيث لا تشعر ولا تتوقَّعُ. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وتكلَّم بكلامٍ من شعاع مضيءٍ حيٍّ يُفهمُني حقيقتي الحية، ويضئ لعيني هذه الظلمات التي تعتبرك بين يدي في مد عيني. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وأسكبْ في قلبي وروعي حقيقة الإيمان الحيّ الذي لا يموت. . . أنظر إليَّ واصحبْني فأنا الذي لا يصاحبُ الأحياء من الناس، لأنهم لا يعرفون معنى الحياة إلا فائدة تلد فائدة، كما يلد بعضهم بعضاً في مشيمة من الكره والعنت وآلام المخاض وأمشاجٍ من الدم يشخب من حولها ويتضرجُ ويقبحُ بعضه في بعض
ولكن. . . ولكن ما أكذب النَّفس على النفْس! أنت هناك بحقيقتك الخالدة التي تحيا بأمر الله في جو السماء، وأنا هنا بحقيقتي الفانية التي تموت يوماً بعد يوم بأمر الله في جو هذه الأرض. . . أنت هناكَ وأنا هنا، بينهما البرزخ الذي لا تجوزه الروح إلا بعد أن تتطهر من أدران هذا الدم المتجسِّد في أجلاد الإنسان. . . أنت هناك وأنا هنا، فكيف أنخلعُ من ثروتي التي أنا بها أنا؟ كيف أنخلع من جسدي؟ ومع ذلك. . .
(ففي القلب تعيشُ الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تفنى وفي القلب. . . تحْفَر القُبُور العزيزة التي لا تُنسى لم أفقدكِ - أيها الحبيب - ولكني فقدتُ نفسي)
ذكرى الرافعي لستُ أدري! فأنا أذكر الرافعي. أعرفهُ أدبياً شاعراً فيلسوفاً. . . رجلاً قد انصرف بهمّه إلى الأدب والفكر يجيدُ فيما ما يجيد، ولكني حين أذكره لا أجده في نفسي إلا الصديق وحده. لم أعاشره طويلاً حتى أقول إني أعِي للناس خبره وأعرف عنه ومن أمره مالا يعرفه غيري، كلا لست أدعي ما ليس عندي ولكني كنت أبداً معه بحبي له وصداقتي، وكان هو أبداً يحوطني بروحه في أنفاس من حنانه وحبه. كنا روحين تناظرتا من بعيد وتناسمتا من قريب فعرفته وعرفني. كان بيننا سرٌّ جامعٌ لا أدري كيف أصفه، ولكن كان من يعرفني ويعرفه يجد آثاره ويرى من بعض بيناته ما لا أُحبُّ أن أحدِّثَ به. ومع ذلك فأنا أقصر في حقه ما لم يقِّصر أحد ممن توجبُ عليه الصداقة بعض واجباتها، ولم يكن ذلك، لأني لا أريد، بل لأني لا أستطيع ولا أطيقُ. فما زالت كلما ذكرتُ الرافعي - وقد مضت سنوات - أجد لذعةَ حُزن في قلبي تُرسل آلامها في كلّ سابحة من دَمِي
ولكن الله لم يُخلِ حقَّ الرافعي من رجُلٍ يقوم عليه ويحسن النظر فيه، فهيأ له الأخ (محمد سعيد العريان) يردُّ - بوفائه لذكرى الرافعي - كل ما وجب على أصدقاء الرافعي وأبنائه وتلامذته والمتبعيه. فقد بادر (سعيد) بعد وفاة الرافعي، فأنشأ يحث الناس أخباره ما دق منها وما جلَّ، ويضع بين أيدي الأدباء أكثر العوامل التي يتكون منها تاريخ الرافعي، والتي كانت تعمل في إنشاء أدبه وتوجيه بيانه. وفتح (الزيات) باب القول في الرافعي له وعليه حتى اجتمعت من ذلك طائفةٌ من القول صالحةٌ لدراسة أدب الرافعي دراسة جيّدة لمن ينصبُ نفسه لها. ولكن الأخ (سعيد) لم يرض أن يقنع بما كتب هو عن الرافعي وجمعه في كتابه الذي طبعه بعد وسماه (حياة الرافعي)، فدأب على إظهار ما لم يظهر من آثار الرافعي قديمها وحديثها، وقد كان آخر جهد بذله في ذلك سعيه لإنقاذ مؤلفات الرافعي كلها من الضياع. فانتدب لجمعها وتصحيحها ومراجعتا وطبعها بعد ذلك سلسلة واحدة تقوم بنشرها (المكتبة التجارية) وقد كاد يفرغ من طبع أكثرها، وأنا أعلم أن بين يديه الآن كتاباً من كتب الرافعي التي لم يتمها وكان أصولاً مبعثرة رديئة الخط كثيرة الإضطراب، وهي أصول الجزء الثالث من كتابه الجليل (تاريخ آداب العرب) واستخراج هذا الجزء وحده دون سائر كتب الرافعي يعد عملاً عظيماً ووفاء نبيلاً لرجل هو كسائر الأدباء: حياته حياة أدبه، فإذا مات لم يجد في هذا الشرق الغافل من ينفخ الحياة في آثاره الأدبية مرة أخرى إن هذا التراث الذي خلفه الرافعي للأدب العربي، قد جعله الله أمانة بين يدي (سعيد) فهو يؤدي اليوم إلى الناس هذه الأمانة وافية كاملة لم ينتقص منها شئ - إلا شيئاً يعجزه أن يهتدي إليه أو يقع عليه، وغداً يجد الناس بين أيديهم كل ما كتبه الرافعي حاضراً لم يضيع شئ منه وكذلك يجد من يريد سبيله إلى معرفة الرافعي من قريب وتقديره والحكم إما له وإما عليه
مصر المريضة
ألقى الدكتور عبد الواحد الوكيل بك، أستاذ علم الصحة بكلية الطب، في المؤتمر الحادي عشر للمجمع المصري للثقافة العلمي - محاضرة هي تصوير للآلام التي تعانيها الصحة في مصر، وتمثيل للحقائق المؤلمة المخيفة التي تعمل عملها في هدم البناء الصحي للأبدان المصرية. وقد نشر صديقي الأستاذ (فؤاد صروف) قسماً من هذه المحاضرة في مقتطف مايو سنة 1940، فأخذتها وقرأتها وأنا أرجف بالرعب والفزع لما مثل لعيني من تلك الحقائق البشعة الشنيعة، وهي على بشاعتها وشناعتها متفشية منتشرة تغزو مصر من جميع نواحيها غزواً مهلكاً مبيراً، ثم لا تجد من يرده عنها من الجنود المجندة المقالة التي هي كل صناعة الطب وأسباب صناعته
لقد عمد الدكتور الوكيل إلى الإحصاء الصحي في مصر، فبان منه أن البلاد إذا لم تتدارك أمر الصحة بأوثق العزم وأحكم التدبير وأسرع العمل، فسوف تنتهي إلى فناء محقق يأكل القوة المصرية كما تأكل النار يبس الهشيم. ونحن في فاتحة عصر رهيب قد بدأ بالحرب المجتاحة، تأتي معها الأوبئة والأمراض وتجر في أذيالها أوبئة أخرى وقحطاً ومجاعة - إلا أن يشاء الله - والعالم كله يخشى ويتأهب ويستعد، فهل عمدتْ مصر إلى جعل الوقاية الصحية تدبيراً ممتداً مع أسوأ الفروض التي يمكن أن توحي بفرضها أوهامنا ومخاوفنا وتشاؤمنا من الأيام المحاربة والأيام التي تلْقي عن عواتقها أوزار الحرب بعد أن تأكل القوة بعضها بعضاً في ميادين البغي والقتال؟
يقول الدكتور الوكيل: (ونحن إذا رجعنا إلى نسبة الوفيات العامة سنة 1937 في مصر وثلاثين دولة أخرى في مختلف القارّات متدرجين من الأسوأ إلى الأفضل، اتضح لنا أن مصر في رأس هذه القائمة؛ ومن هذه البلدان: الهند واليونان وبلغاريا وفلسطين). . . لا، بل أكثر من ذلك، وهو أن الإحصاء دلالة على أن الأطفال هم 55. 8 ? من مجموع الموتى، وأن هذه النسبة في صعود متواصل حتى في هذا العهد الذي نحن فيه. بل انظر إلى الأصل فالدكتور الوكيل يقول: إنا إذا أخذنا الأمراض المتفشية كالبلهارسيا والأنكلستوما والرمد والسل والأمراض العقلية والملاريا والتيفوس والتيفود والدفتيريا والأنفلونزا الحادة والحمرة وغيرها، ثم جمعنا بعضها إلى بعض مرضاً مرضاً كانت ما يربو على 50 مليون مرض، فإذا وزعت هذه الملايين على المصريين أصاب كل شخص ثلاثة أمراض في وقت واحد
وهذه النتيجة المؤلمة قد أفضت إلى هذه الغاية باهتمام القائمين على أمر الصحة والتعليم بالحضر دون الريف، وبالذي كان من طغيان الجهل واستبداد الفقر بطبقات الشعب التي يتكون منها السواد الأعظم. وقد وضع الدكتور الوكيل مشروعه لمكافحة هذه الحالة، فهل يمكن أن تكون الوزارات المختصة قد عرفت حق مصر فهبت إلى القيام بواجبها في الدفاع عن البلاد لإنقاذها من براثن هذه الأعداء المتعادية المتحالفة على قتال الروح والحياة في الشعب المصري؟ ذلك ظننا، والله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
محمود محمد شاكر