الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 357/صفحة من كتاب

مجلة الرسالة/العدد 357/صفحة من كتاب

مجلة الرسالة - العدد 357
صفحة من كتاب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 06 - 05 - 1940


مع الغروب

للأستاذ شكري فيصل

- 1 -

هذا منصرفي الآن من (المكتبة). لقد قرأت الفصل الطويل الذي كتبه (الطبري) عن (صفين). وخرجت منه دامع الطرف، حزين القلب، تعلو وجهي كآبة مرة. . . ولكن الدنيا المشرقة تريدني أن أضحك؛ فكل ما حولي جميل ناعم. . . إن صفحة السماء لتوحي إلى بكثير من المعاني؛ وأنها لتبعث في نفسي ألواناً من الحنان؛ وإني لأشعر بيد ناعمة طرية تدغدغ قلبي فيستكين لها وينبسط معها؛ وتشيع فيه بوارق الأمل. . . كأنها كلمات السماء تُلقي إليه في يأسه وخموله، فيصحو وينتفض ويثب ويهفو مع النسمات البليلة، ويتحسس هذا الجمال المبعثر هنا في أفق السماء وجنبات الأرض

. . . لقد طرق سمعي صوت الساعة الضخمة القائمة في حرم الجامعة، كجرس الكنسية!. . . كأنها كانت تنعى هذا النهار المدبر إلى الناس الغافلين. . . فأنوار الشمس الساطعة تستحيل شيئاً فشيئاً إلى أنوار باهتة ليس لها ذاك الجبروت ولا تلك القوة، والنسمات اللطاف تترنح في هذا الجو، والشجيرات القائمة على حفافي الشارع تبدأ رقصتها الفاتنة، وتثنِّيها الرائع، والعشب النامي يتماوج بكل فتوته الناشئة كأنه يشارك الكون نغمته المتسقة البارعة

- 2 -

. . . لشد ما ازدهتني هذه الأمسية الحلوة. . . فانطلقت معها أطوف في هذه (الضاحية الجامعية) وأنعم بالهدوء الذي يلفها بردائه الرفيق الرقيق في مثل هذه الساعة المتأخرة من النهار حين يفارقها ضجيج المحاضرات وجلبة الطلبة ورنين الأجراس، فلا تحس فيها تلك الحركة، ولا تجد لها ذاك الاضطراب. . . وإنما يغمرك إحساس رفيع من قدسية العلم، وسمو المعرفة، وجلال الطلب

. . . لقد أخذت أذرع هذا الشارع الجميل الذي تنسحب على جانبيه الحدائق، وتنبت في أطرافه الزهور؛ وتتغنى على شجيراته جماعات الطير. . . ولقد كان هذا الشارع إلى ساعات قريبة يمور بالحياة، ويفيض بالنشاط، ويتقد فيه العزم، ويودع طوائف من الطلبة، ليستقبل طوائف أخرى. . . ولكنه الآن ساكن هادئ. . . إني لأخطو فيه وحيداً ليس معي إلا هذه التأملات العميقة التي يثيرها في ذهني السكون الشامل. . . وإني لأهيم بعد. . . فأمضي حيث تقودني قدماي؛ لا آخذ جهة، ولا أحدد قصداً. . .

- 3 -

هاأنذا في منبسط من الأرض، ممتد واسع. . . تنطلق فيه صفحة السماء واسعة عريضة، كجنة الأمل؛ وتتراقص فيه الأرواح مرحة عابثة بسنابل القمح القريبة؛. . . لقد بعدت عن العمران القائم، والأبنية الضخمة. . . لكأني أخطو الخطوات الأولى في الريف. . . فأنا لا أسمع حركة (الترام)، ولا جلبة السيارات. . . وأنا لا أرى من برج الساعة، وقبة الجامعة، إلا القمة العالية التي تشبه رأس الصخرة الطافي على سطح البحر وليس من حوالي إلا مزارع وحقول، وتتبعثر فيها الأكواخ، وتمتد من حولها أبسطة العشب الندى

. . . يا لروعة المساء!. . . كانت الشمس تجمع خيوطها المتناثرة لتنحدر نحو الأفق البعيد. . . وقطع السحاب الرقيق تسربل أجزاء من السماء كأنها ثوب ممزق على جسم إنسانة فقيرة. . . والأكواخ المتواضعة تودع النور الحبيب لتغوص في لجج الليل. . . والأفق الزاهي يصطبغ بهذه الألوان العجيبة الماتعة. . . والدنيا كلها ترقب هذا الخط البعيد الذي تتصل فيه السماء بالأرض

. . . لقد كنت إلى حين أجفو أضواء الشمس، وأنأي عنها وأحتمي منها بالظلال. . . ولكنني الآن أتقرب منها وأتحسسها وألحق بها من مكان إلى مكان، كأني أرثي لها هذا المصير، وأخشى عليها سطوة الليل، وأتمنى لها ألا تزول؛ وأحاول أن أمسك بهذه الشعاعات. . . ولكنها تفر مني حتى لا تبقي منها إلا خيوط واهية على قمم الأشجار السامقة

وتقبل هذه الأشجار الأنوار الآفلة؛ وترتعش أغصانها من حمى الوداع. . . وتنطوي الشمس على نفسها قرصاً رائعاً في الأفق البعيد تلقى آخر نظراتها التي بللتها الدموع القانية على الأرض لطالما أعشت هذه الشمس عيوناً ونواظر؛ كانت تتجه نحوها تحاول أن تنظر إليها، ثم ارتدت عنها خاسئة حسيرة. . . ولكنها الآن في لحظتها الأخيرة تبيح للناس أن يحدقوا فيها فقد ركبها العجز. وما عليها من ذلك! وهي سجينة أسيرة في يد الليل يحاول أن يقذف بها في أحشائها العميقة!. . .

. . . ورقبت هذا الصراع الهادئ بين أضواء النهار وظلمة الليل. . . لقد جمعت له الشمس كل ما تستطيع. . . حتى هذه الأنوار البعيدة التي كانت تغطي رأس (أبي الهول) وقمة (الهرم). . . ولكنها لم تجد سبيلاً إلى النجاة؛ ولا يزال الليل يغير عليها. . . ولا يزال هذا القرص الذهبي يتضاءل ويتضاءل. . . والدماء الوردية تنسكب منه فتتناثر في أطراف السماء. . . لقد أضحى دائرة صغيرة آخذة في انحدار سريع. . . وإن الدائرة لتمس خط الأفق، ثم تغطس في خصمه الهائل. . . وتستسلم. . . وترسل نظراتها الأخيرة في ضراعة وداعة وحب. . . حتى إذا غامت فيه؛ كان جناحاها الهشيمان الممتدان على طرفيه، يضطربان ويهتزان كما يهتز المصباح الضئيل قبل أن ينطفئ

. . . وانطلقت في الدنيا نسمات سريعة كأنها كانت تحمل نبأ الصراع، ونهاية المعركة. . .

. . . وسكنت الطيور إلى أعشاشها تخاف على نفسها شر الليالي السود

. . . وأويت أنا إلى غرفتي مكدوداً. . . بعد الطواف الطويل

- 5 -

سينجاب الليل. . . وستشرق الشمس غداً على العالم. . .

وستتجدد الحياة في أضوائها الساطعة. . . ترى هل تنزاح الظلمات التي تملأ نفسي. . . وهل أخرج من هذا الليل الطويل الذي أخبط فيه. . . وهل يقدر لهذا القلب أن ينعم بالضوء والدفء والحياة المرحة؟!!

. . . ترى هل يقدر؟!. . نورك اللهم!. . .

(القاهرة)

شكري فيصل