مجلة الرسالة/العدد 357/دعوة الرسالة إلى تجديد الدين والأزهر
→ شبلي | مجلة الرسالة - العدد 357 دعوة الرسالة إلى تجديد الدين والأزهر [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 06 - 05 - 1940 |
للأستاذ محمود أبو رية
لما قرأت مقالكم الممتع (فقهاء بيزنطة) في العدد 352 من الرسالة، أعجبني أيما إعجاب ما وصف قلمكم البليغ من الأمور التي يجادل فيها مشايخنا فشغلوا الناس بها، وأوقعوا الفرقة بينهم من أجلها؛ ذلك بأن من يطلع من أهل البصر على أكثر أبحاث شيوخ الدين عندنا ومجادلاتهم، سواء أكان ذلك في مجتمعاتهم أم على صفحات مجلاتهم لا يصدق أنهم يعيشون في هذا العصر، أو أن الدين الذي ينتسبون له ويناقشون في مسائله هو الدين الإسلامي الذي جاء به محمد (ص). ولكني - ولا أكتمك الحق - قد وقفت عند جعلكم البحث في أمر تسوية القبور أو إقامتها من هذه المباحث البيزنطية، لأن هذا الأمر إنما يتصل بأصل الدين الإسلامي وهو (التوحيد) الذي هو أصل رسالة محمد (ص) وقاعدة دينه، بل هو أول ما يدعو إليه كل رسول بقوله: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) وذلك بأن يعبد الله وحده ولا يعبد غيره بدعاء ولا بغيره، وروح التوحيد كما لا يخفى على كل مسلم صحيح الإيمان، هو إخلاص العبادة لله تعالى والاستعانة به والتوكل عليه والنذر له، وما نكب المسلمون بشيء نكبتهم بالقبور المشرفة والأضرحة العالية فقد أصابتهم من نواح كثيرة في دينهم ودنياهم. أفسدت عقائدهم فأصبحوا كما قال الله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، وأذهبت أموالهم فيما لا خير فيه ولا نفع منه وذلك بما يبذلونه في إقامة القباب ورفع الأضرحة؛ وشلت قواهم، وكبلت هممهم، وهذه الناحية هي أشد ضرر اجتماعي ضرب في مفاصل الأمة، ذلك بأنهم قد تركوا الأسباب التي من كسبهم ودابروا سنن الله في عملهم، تلك السنن والأسباب التي أخذت بها الأمم، فكانت سبب نهوضها ومرقاة سعادتها. أرتكنوا على أصحاب هذه الأضرحة ليقوموا بشؤونهم ويقضوا من حاجهم حتى صرنا في ساقة الأمم لا حول لنا ولا قوة، ورحم الله حافظ إبراهيم في قوله يخاطب الأستاذ الإمام محمد عبده:
إمام الهدى إني أرى القوم أبدعوا ... لهم بدعاً عنها الشريعة تعزف
رأوا في قبور الميتين حياتهم ... فقاموا إلى تلك القبور وطوفوا
وباتوا عليها جاثمين كأنهم ... على صنم الجاهلية عكف ويرحمه الله إذ قال:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات
للسيد البدوي ملكٌ دخله ... خمسون ألفاً والحظوظ هبات
وأنا أعذب في الوجود وليس لي ... يا أم دَفْر ما به أقتات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أرجائها الصلوات
يسعى الأنام لها ويجري حولها ... بحر النذور وتقرأ الآيات
ويقال هذا القطب باب المصطفى ... وسيلة تقضي بها الحاجات
وقفت عند هذا القول في مقال صاحب الرسالة وعجبت أن يصدر منه وهو جد خبير به وبضرره حتى قرأت مقاله البليغ (العقيدة الساذجة)، ورأيت في القول المحكم عن الضريح الذي أنشأه بالعراق السردار طاهر زين الدين الزعيم الهندي لعلىّ رضي الله عنه؛ فوجدت قلمه قد ضرب في الصميم ومسَّ أصل الداء الذي أصاب بلاد الإسلام جميعاً وقلت: لقد اقترب صاحب الرسالة من العمل الحق للدين - لما لم يجد أهله يعملون له - بعد أن كان أكثر عمله للأدب، ولا غرو فإن الدين الإسلامي لكما قال هو: (ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب وقيام معجزته على البلاغة) ثم وددت لو أني قرأت في هذا المقال أدلة النهي عن إقامة القبور وزخرفتها من لسان صاحب الشريعة ﷺ ومن عمل رضي الله عنه في مثل هذا الأمر نفسه لا ليشد مقاله بها فإنه شديد متين ولكن ليعرف المتعصبون والقبوريون أن ما تدعو إليه الرسالة إنما هو دعوة محمد (ص) فلا يفتروا الكذب بأنه رأى مفتجر لا يؤيده دليل ولا يظاهره نص. كنت أود أن يقرأ الناس في هذا المقال الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني على رسول الله (ص)؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبر مشرفاً إلا سويته - وفي رواية ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)
وقد ذكر الإمام الشافعي في الأم ونقله عنه النووي في شرح مسلم أنه رأى الأئمة بمكة يهدمون ما شيِّد من القبور ويسوونها بالأرض عملاً بهذا الحديث، والحديث الآخر الذي رواه مسلم عن جندب قال: سمعت رسول الله ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)
وما أخرج ما لك في الموطأ أن رسول الله ﷺ قال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
نعم. وددت ذلك وتمنيت لو أن صاحب (الرسالة) قد نهض كذلك، وهو ذو القول البليغ المسموع والرأي الموفق المقبول فواصل الكتابة في هذا الأمر، حتى جاء العدد 355، ورأيت صدره قد تحلى بمقاله (في سبيل الأزهر الجديد)، حينئذ طابت نفسي وانشرح صدري وقلت: لقد وضعنا أيدينا على المفتاح الإصلاح، لأن هذا المقال، إنما هو الصيحة المباركة لا في سبيل تجديد الأزهر فحسب، ولكن في سبيل تجديد الدين.
لقد ضرب قلمكم البليغ في صميم الإصلاح الديني فقال: إن إصلاح الأزهر من ناحية الدين إنما هو في العودة إلى استنباط الدين من منابعة الأولى (من صريح الكتاب وصحيح السنة)
إن الدعوة التي تقوم بها الرسالة اليوم هي التي اتبعها خبر القرون واستمسك بها من بعدهم العلماء المحققون أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وهي التي وضع بذرتها في العصر الحديث جمال الدين وأنبتها الإمام محمد عبده، وقام على تربتها السيد رشيد رضا حوالي أربعين سنة والتي أفصح عنها بكلمة حكيمة يجب أن تكون أساس كل إصلاح ديني في هذا العصر وهي:
(أقول في الدين بقاعدة الإمام مالك وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن، وبيان السنة النبوية له، وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع ومراعاة مصالح الأمة العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها؛ وأما ما فوضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم ووكله إلى علمهم وتجاربهم في قوله ﷺ: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله (ص): (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه
أما هذا فأنا أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها وإلى ما لا يعرف له حد من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها) هذا هو منهج الإصلاح الديني الذي بينه أفصح بيان السيد رشيد رضوان الله عليه
فسر يا صاحب الرسالة بتوفيق الله في هذا الطريق حتى يتجدد الدين ويبلغ مكانته اللائقة في هذا العصر وفي غيره، وبذلك تكون الرسالة قد نهضت بخير عمل ثوابه عند الله أكبر ونفعه للناس عظيم
(المنصورة)
محمود أبو ريه