مجلة الرسالة/العدد 357/النقابات الإسلامية
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 357 النقابات الإسلامية [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 06 - 05 - 1940 |
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري
- 3 -
انتشرت حركة الأخوة بسرعة كبيرة في المدن والأرياف - بالتكتل والكرم - كدستورهم، وطبقة أصحاب الحرف كأساس اجتماعي لهم، وقتل الطغاة وصنائعهم كواجب من واجباتهم؛ فكانت حركة اجتماعية سياسية دينية عسكرية في نفس الوقت. وقد لاحظ أحد الزائرين في عهد متقدم أن أعضاء كل جمعية من جمعيات الأخوة كانوا أصحاب حرفة واحدة. ولابد من أن الاتحاد التام لجمعيات الأخوة مع الطوائف قد حصل في زمن متقدم، وربما كان ذلك في بدء حركة الأخوة. كما أن حركة الأخوة لم تكن مجرد تنظيم لأصحاب حرفة واحدة، وإنما جعلوا واجبهم حفظ العدل ووقف الظالم عند حده، واتباع قانون أخلاقي وديني، وتنفيذ واجباتهم العسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن حقوقهم، ولم تكن العضوية مقصورة على المسلمين فقط إذ نجد عدد المسيحيين عظيماً جداً في طور متأخر
وهكذا تحقق في حركة الاخوة لأول مرة اتحاد الطوائف والفتوة والطرائق الدينية. وقد أتى كورد لفسكي ببينة ممتعة تؤيد تأثر الطوائف بالنفوذ الإسماعيلي إذ يلاحظ الأستاذ أثراً قوياً لآراء ابتداعية (لا توافق قواعد الإسلام) عند الأخوة، ويرجع أصل ذلك إلى إخوان الصفا. ويذهب (كوبرولو) إلى أبعد من ذلك ويؤكد أن الأخوة كانوا في الحقيقة متطرفين ملحدين في بدعتهم وخروجهم وأنهم من طراز القرامطة أنفسهم
ولدينا وصف هام للأخوة في الأناضول ورد إلينا في رحلة ابن بطوطة من أهالي طنجة زار الأناضول في القرن الخامس عشر الميلادي
وبظهور السلطنة العثمانية وتوحيدها فقدت الأخوة كثيراً من سلطتهم ونفوذهم، وبعد مقاومة عنيفة غير ناجحة اضطروا إلى التخلي عن مهمتهم السياسية والعسكرية، ولكنهم لم ينحطوا أبداً إلى درجة أصحاب حرف عادية فقد استمرت بينهم روح العصر الأول. وحافظت الطوائف حتى القرن العشرين على حياة روحية داخلية وقانون أخ وامتزجت نظم الطوائف والفتوة والأخوة في الأناضول بسرعة وتم ذلك في كل البلاد الإسلامية المتوسطة (مركزاً) في القرن الخامس عشر. وقد جاءت معظم وثائقنا عن النظام الداخلي لهذه الطوائف بوساطة طوائف الفتوة. فكان لكل طائفة قانون يحتوي على قواعد وعادات وشعائر يتلى شفهياً عادة. وكان هذا القانون يعرف بالدستور (كلمة فارسية معناه: إذن. مؤخراً. نظام) وكانت تكتب هذه القوانين في بعض الأحيان وقد وصلنا عدد كبير من هذه الكراريس ترجع إلى القرن الرابع عشر وما بعده. ويعتبر كتاب الفتوة أو (فتوت نامه) كما تسمى هذه الكراريس بالعربية والتركية على التوالي مع عدد من كتب الرحلات والجغرافيا المصدر الأساسي لمعلوماتنا وتتألف جميع هذه الكتب تقريباً حسب خطة واحدة من ثلاثة أقسام. القسم الأول يحوي أساطير تتعلق بأصل الحرفة ومغامرات مؤسسها الذي تنتمي إليه، وهي تعطى عادة حلقة من التنشيئ مثلاً: الله علم جبريل، جبريل علم محمد، محمد علم علياً، عليّ علم سلمان الفارسي، وسلمان علم الأبيار (وهم حماة أصحاب الحرف حسب تقاليدهم) والأبيار علموا الفروع (وهم الحماة الثانويون للشعب المختلفة لأصحاب الحرفة الواحدة). وهؤلاء الفروع علموا بدورهم رؤساء الأصناف العاديين. وهذه الأساطير تظهر عادة تأثيراً قوياً للإسماعيلية والصوفية. القسم الثاني: يحوي عادة قائمة بأسماء الأبيار والفروع لمختلف الحرف، وهؤلاء عادة أشخاص اقتبسوا من التوراة والقرآن ومن التاريخ الإسلامي، وهكذا نجد آدم حامي الفلاحين والخبازين، وشيت حامي الحياكة والخياطين، ونوح حامي النجارين، وداوود حامي الحدادين والصياغ وإبراهيم حامي الطباخين وإسماعيل حامي صناع الأسلحة. والقسم الثالث يحوي التعاليم لتثقيف المبتدئين، والأسئلة فيه تظهر اتصالاً قوياً بآراء الدراويش. ويمكننا من هذه الكراريس (كتب الفتوة) أن نصور نظام الطوائف لحد ما. ويحسن بنا أن نتذكر في عملنا هذا أن وثائقنا جاءت من حقل تاريخي يمتد منذ القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين ويشمل كل البلاد الإسلامية. ومهما كان التغيير قليلاً خلال القرون، فإنه يوجد تباين محلي عظيم. لذا سنحاول أن نعطي صورة شاملة مع ملاحظة الفروق الأساسية تبعاً للمحل والزمن
يرأس الطائفة الشيخ ينتخبه الأساتذة من بين رجال الحرفة، وبعد انتخابه يكون حاكم الطائفة الأوحد ويجمع وظائف رئيس وأمين صندوق وكاتب، وهو (أي الشيخ) موجود في جميع الطوائف الإسلامية وفي بعض الطوائف مصر في القرن السادس عشر الموصوفة في (مخطوط كوثا) ونجد له مساعداً، وهو النقيب، ومنزلته بالنسبة إلى الشيخ (كمنزلة الوزير من السلطان) ويظهر أنه كان رئيس التنفيذ لأوامر الشيخ ومنظم الحفلات أيضاً. ويليه الاختيارية أو المسنون بين الأساتذة الطائفة يتعاونون معه على إدارة الطائفة؛ ثم يأتي الأساتذة ويدعى الواحد عادة أسطى أو أحياناً (معلم)، وهم يشكلون القسم الرئيسي من الطائفة. أما الصانع فلا يلعب دوراً هاماً في الطوائف الإسلامية ولا وجود له عادة إذ يكون الانتقال من مبتدئ إلى أسطى رأساً؛ ويوجد في بعض النقابات دور وسط يدعى العامل في خلاله خلفه أو خليفة، وهذا الدور وقتي فقط
وتتم الحلقة بالمبتدئ وفي أغلب الحالات لا يحدد وقت الدور الذي يقضيه المبتدئ ولا يطلب منه صنع شئ مثالي متقن جداً بالمعنى المفهوم عند الأوربيين. فزمن الدراسة والإجازة يعين من قبل الأستاذ الذي يشتغل معه المبتدئ. وتختلف النصوص في مسالة تطبيق النظام فيقول البعض إن الشيخ يطبقه أو ينفذه منفرداً. ويقول آخرون إنه يفعل ذلك بمساعدة الاختيارية
هناك نوع آخر من التنظيم في الطوائف الأناضولية المتأخرة وصفه كورد لفسكي إذ يطلب هنا من المبتدئ قضاء ألف يوم ويوم في هذا الدور. كما أنه لا يأخذ في هذا الدور أي أجر ولكن له الحق أن يحصل على بعض المكافأة (البقشيش) ووليمة عند انتمائه إلى الطائفة، ويدربه أستاذ في شئون حرفته كما يحصل على دراسة أخلاقية في الزاوية في نفس الوقت. وإذا تتلمذ الجراق لأستاذ معين، فعليه أن يبقى مع أستاذه ولن يقبله أستاذ آخر كتلميذ له. وفي نهاية هذا الدور يطلب منه عمل شئ مثالي متقن في صناعته ثم يجاز في حفلة عامة من قبل - الأصناف باشى - أي شيخ الحرفة، وال - يكيت باشلرى - أي الاختيارية، وبعد هذا يصبح خلفه ويجب عليه أن يبقى ستة أشهر على الأقل وبعد انتهائها يستطيع أن يمارس حرفته كأستاذ - وفي هذا يساعده أستاذه وغيره من الأساتذة من الوجهة المالية عادة.
وترأس الطائفة هيئة تدعى لونجة هيئتي تتشكل من شيوخها أي الرجال المسنين ويكون القرار النهائي للرئيس الذي ينتخب عادة لتقواه. وتجتمع الهيئة مرة كل أسبوعين، وينفذ الأوامر والعقوبات الجاويش أوال - أوش باشي - وتحرص الطوائف كثيراُ على كيفية نوع المنتج ويعاقب صاحب الإنتاج الرديء بطرده مؤقتاً من الطائفة تشتري المواد الأولية تحت رقابة الشيخ، ولأصحاب الحرفة الفقراء حق الأقدمية في هذا على الأغنياء، ويعقد اجتماع عام سنوياً.
يمكننا أن نلاحظ الدور الهام الذي يلعبه اللباس الخاص لرجال الطوائف في حياتها. فميزة الفتوة الظاهرة في أوائل عهدها كانت السروال، ويتكلم الكاتب العرب عن لبس السروال كعلامة للانتماء إلى الفتوة، ثم أصبحت هذه العادة متبعة في الطوائف، وصارت حفلة الانتماء إلى عهد قريب تتصف بارتداء بعض الملابس: والسروال والشد والحزام والبشتمال أو الصدرية. هي من الأهم بين الملابس.
لدينا وصفان مفصلان للطوائف الإسلامية يستحقان الفحص كل على انفراد أولهما وصف في رحلة سائح تركي يدعى - أوليا جلبي - الذي صنف قائمة مفصلة بأسماء الطوائف وهيئات أصحاب الحرف في أوائل القرن السابع عشر بناء على طلب السلطان، وفي هذا المؤلف نجد لأول مرة وصفاً كاملاً لنظام الطوائف في مدينة إسلامية. ويبدأ أوليا جلي وصفه للطوائف بفتوت نامة - كتاب الفتوة - الذي يظهر أنه نص منقول يحتوي على الأساطير والتعاليم الاعتيادية وكذا وصفه حفلة الانتماء إلى الطائفة. أما تركيب الطائفة الذي يحويه الوصف فهو الشيخ الرئيس) والنقيب (نائب الرئيس) والجاويش والأوسطة (الأستاذ) ثم الشاكرد (المبتدئ). أما الصانع أو العامل البسيط فيلاحظ أنه لا ذكر له.
ثم يعدد (أوليا جلبي) جميع الطوائف الموجودة تحت سلطة لملالي (جمع مُلاّ) الأربعة في القسطنطينية مع عدد حوانيتهم برجالهم وشيوخهم إذ ينقسمون إلى سبع وخمسين شعبة تحتوي بمجموعها على ألف طائفة وطائفة تحوي الشعبة الأولى طوائف لجواويش (ج جاويش) وموظفي البوليس والغلمان والانكشارية لجدد (أكم أو غلان) والزبالين والقندلفتية (حفار القبور - الحانوتية -) وعمال المناجم، والبلطجية والأحداث والنقاش. وفي المعارض العامة يتقدم هؤلاء في السير لأن من واجبهم تنظيم أو تسوية الطرق التي يسير الآخرون بعدهم. أما الشعبة الثانية فهي تحت إدارة رئيس الطوائف - الذي عين لهذا المنصب من قبل السلطان محمد الفاتح (1451م - 1481م) وهي تحتوي على أصناف العسس والشرطة والجلادين، واللصوص، وقطاع الطرق، وزمرة المسخرين في العسكرية أو البحرية) وسواس الخيل، وممرني الخيل، الحرس. ويبين أوليا أن أصناف اللصوص، وقطاع الطرق، كذلك المفلسون وغيرهم من وضيعي الأخلاق لا يظهرون في المعارض العامة، ولا يعرفون شخصياً، ولكنهم يدفعون خوة (ضريبة) لرئيسي الشرطة المدعوين (أسس باشي) (وصوباشي)
لا يتسع المجال هنا للنظر في وصفه للسبع والخمسين شعبة، ولنلاحظ كمبدأ عام أن كل شعبة يرأسها شخص واحد، وهو عادة رأس الطائفة المهم في الشعبة ووظيفته أرفع وظيفة. أما الشعب القليلة التي يترأسها موظفون كـ (صوباشي)، فهي مستثنيات، والسبب هو كون الحرف نفسها رسمية أو شبه رسمية، وتعمل الطوائف عرضاً تاماً على هيئة استعراض مرة واحدة سنوياً، ووصفه أوليا كما يأتي: (يبدأ الموكب الملكي بالسير وقت الفجر ويستمر الموكب في السير طول النهار، حتى الغروب، يفتتح الاستعراض من قبل الجاووش لر المسمى الآي جاويش ويناهز الموكب ألفي رجل والكل مدجج بالسلاح كأنه بحر زاخر، ومن العادة المتبعة أن كل طائفة عند الرسول قرب الحديقة الجديدة أمام تذكار خسرو باشا تعرض نفسها أمام قاضي استانبول لأنه صاحب السلطة لتفتيش جميع الأوزان والمقاييس، وجميع الطوائف. وهناك قاعدة أخرى وهي أن كلا من هذه الطوائف يهدي إلى قاضي القسطنطينية البضائع التي عرضوها في معرض عام. ولكن بعض هذه البضائع كان يخفى بهذه المناسبة، وبعد تقديم الاحترام لأول حاكم في العاصمة تصحب الطوائف رؤساؤها إلى محلاتها المختلفة وينصرف كل إلى بيته. وتتوقف كل تجارة وحرفة في القسطنطينية بمناسبة هذا الاستعراض لمدة ثلاثة أيام يملأها ضجيج وفوضى الاستعراض). ويظهر أن أهمية عظمى كانت تعلق على نظام الأقدمية (في السير). ويعطي أوليا جلبي وصفاً ممتعاً لنزاع من هذا القبيل (أي حول حق الأقدمية) بين. القصابين وبين تجار مصر، ثم صدر الحكم النهائي من قبل السلطان في جانب التجار.
(يتبع)
عبد العزيز الدوري