مجلة الرسالة/العدد 357/إشعاع الإيمان
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 357 إشعاع الإيمان [[مؤلف:|]] |
صوت فضولي! ← |
بتاريخ: 06 - 05 - 1940 |
لكل إنسان إشعاع ينتشر عليك من روحه كلما جلست أليه أو دنوت
منه. وهذا الإشعاع يختلف في القوة والضعف وفي الكثافة واللطف
باختلاف الروح في أولئك كله. ولكن لرجل الدين ورجل الحكم إشعاعًا
عرضيَّا آخر ينبثق عن العالم مادام متصلا بالله، ويصدر عن الحاكم
مادام متصفاً بالسلطان. فإذا انقطع ما بين أحدهما وبين هذه القوة
السماوية أو الأرضية انقلب كسائر الناس يُشع على حسب اقتداره
واعتباره
تدخل على رجل السلطان أو تلقاه فتغشاك منه مهابة تطأطأ من نفسك وتكسر من نخوتك، فإذا خرجت من مدار هالته، أو خرج هو من ملكوت سلطانه، وجدته في رأيك الحر أشبه بالجذوة الواهجة إذا ما تحولت إلى رماد بارد
وتجلس إلى رجل الدين أو تراه فتغمرك منه جلالة تثلج صدَرك بالرضا وتنقع نفسك بالسكينة، فإذا قمت عن مجلسه بقى في بصرك نوره وظل في بصيرتك هداه. وذلك هو الفرق بين قوة تسيطر بمادة الإنسان وقوة تؤثر بروح الله
كان هذا الإشعاع الإلهي من رجل الدين يفعل فعله في القلوب والأبصار من إرشاد ولا وعظ. كان العالم أو شبه العالم إذا دخل قرية أشرقت أرضها بنوره واهتز أهلها لمقدمه، فيهرعون إليه ويعكفون عليه ويجدون فيه الدليل إلى الله، فمصافحته عهد لا ينقض، وإشارته حكم لا يرد، ودعوته بركة لا تنقطع. وكنا في ذلك العهد أحداثا ننظر إلى الشيخ وهو بُهرة المجلس كأنه برهان الله، وهو صامت، ويؤثر وهو ساكن، والقوم من حوله مطرقون مستغرقون فرغت قلوبهم من مطامع الدنيا، وخلت صدورهم من وساوس الشر. فإذا ترك القرية خلف بها عهد الله يتصل به ما انقطع من الأسباب، ويقوى عليه ما وهن من المودة
ذلك لأن الشيوخ كانوا يومئذ يسمتون سمت الأنبياء فيجعلون دينهم ودنياهم وحدة لا تتجزأ؛ فإذا قالوا وعظوا، وإذا فعلوا أرشدوا، وإذا صمتوا كانوا كأعلام البر تدل بالإشارة، أو كمنائر البحر تهتدي بالشعاع. فلما تشوف العلماء إلى زهرة العيش، واستشرفوا لعزة المنصب، انطفأت من حولهم هالة الورع فأصبحوا كالناس يفعلون فيرمُون بالرياء، ويقولون فيُتهمون بالكذب.
تعال أقص عليك حديثاً من أحاديث لواقع لا يزال الناس يرونه كلما حلا لهم أن يوازنوا بين عالم يجري دينه على لسانه فيذهب في قوله، وعالم يجري دينه في قلبه فيشع من مسامه:
كان الشيخ. . . ففيهاً من النمط القديم، قد شغل فكره بالدين، وقصر جهده على العلم، وهب وجوده للأزهر، فهو يقضي النهار وطرفي الليل في التدريس والمطالعة والصلاة؛ لا يكاد يخرج من درس إلا إلى درس، ولا يترك ملزمة إلا إلى ملزمة. فإذا جاء يوم الجمعة خرج ماشيا إلى زيارة الأولياء في المقابر أو في المساجد، ثم يعود مع المساء قرير العين مطمئن النفس إلى حجرته الأزهرية ذات الفراش الخشن والضوء الشاحب ليعدّ درسه الذي سيلقيه في فجر السبت
وفي ذات يوم من أيام الجمع وقع في نفسه أن يصلي الجمعة في مسجد أبي العلاء ببولاق، فخرج من الأزهر في ضحوة النهار وأخذ يسأل عن الطريق إلى المسجد والناس يدلونه أو يضلونه حتى دفعه القدر إلى المكان الرسمي للمومسات
كان الشيخ يسير في هذا الشارع العاهر بعمته العظيمة وجبته الفضفاضة كما يسير الجمل في شارع من شوارع لندن!
كان موضعاً للنظر الساخر وموضوعاً للتنادر البذيء؛ ولكنه كان يمشي ناكس للطرف مشغول الخاطر فلم يفطن إلى شيء. نعم فطن إلى انتقاض وضوئه حين لمست يده بغي من البغايا تريد أن تعبث به. فاستغفر الله وحوقل، ثم سأل صبياً من صبيان ذلك الحي أن يدله على مسجد يجدد فيه وضوءه، فقد كان يكره أن يمشي على غير وضوء؛ وكان الصبي خبيث الفطرة فاحش الدعابة فدله على بيت مومس وقال له: هذه يا سيدي دورة المياه!
دخل الشيخ الدار فإذا فتاة كصورة (القارئة) في متحف اللُّفر قد اضطجعت على كنبتها الوثيرة وهي نصف عارية. فلما رآها أسبل عينه وغمغم بالاستغفار والدعاء ثم قال لها:
- استري نفسك يا بنيتي فقد قربت الصلاة وأوشك المصلون أن يجيئوا فنهضت الفتاة وقد اعتراها نوع من الوجوم ينشأ بين الدهش والعجب فوضعت عليها بعض ثيابها وقالت:
- ماذا تريد يا سيدي الشيخ؟
- أريد أن أتوضأ. نادي أباك يقودني إلى الحنفية!
ألست ابنة خادم المسجد؟
فأجابت الفتاة وقد أدركت كل شيء:
- بلى يا سيدي أنا ابنته؛ وسأقودك بنفسي إلى الحنفية.
فافتح عينيك واتبعني فقد لبست
وأرشدت المومُس العالمَ إلى مكان الطهارة وهو مغْسلها الوردي الأنيق، فوقف أمامه ذاهلاً يرى أداة الزينة ويجد رائحة العطر، ولكنه لم يسترب. ولم يستريب؟ أما يجوز أن يكون في القاهرة طراز من المساجد لم يره؟
وفتح الشيخ الحنفية وتوضأ، وجاءته ببشكير أوبرَ فأمَّره على وجهه فسطعه أريجه. ثم أقسمت عليه المرأة ليجلسن على الكنبة ريثما تهيئ له فنجاناً من القهوة. فجلس الشيخ يذكر الله، وجلست هي بجانبه تغلي الكنكة وتديم النظر إلى وجهه. فلما تمزز الفنجان سألته: إلى أين يذهب؟ فقال لها: إلى مسجد السلطان أبي العلا. فخرجت أمام الدار ونادت عربة من عربات الركوب فأجلست الشيخ فيها، ثم أعطت الحوذي الأجرة وأمرته أن ينزله أمام الجامع. ورغبت الفتاة أن تقبل يد الشيخ، ولكنه أدخلها مسرعاً في ثوبه وقال: لقد ضاق الوقت يا بنيتي عن وضوء جديد. أسأل الله لك الهداية والمغفرة
قالوا: ورجعت المومس إلى دارها وعليها من الشيخ شعاع نفذ إلى ظلام نفسها فأشرقت بالصلاح والخير؛ ثم لم تُرَ بعد ذلك اليوم إلا في ثوبها الأسود قاعدةً تخيط أو قائمة تصلي!
احمد حسن الزيات