مجلة الرسالة/العدد 356/خواطر يثيرها سائل
→ في سبيل الأزهر | مجلة الرسالة - العدد 356 خواطر يثيرها سائل [[مؤلف:|]] |
زفرة مصدور! ← |
بتاريخ: 29 - 04 - 1940 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 2 -
عودة إلى قيمة الإنسان - نظرية النشوء والترقي - سعي
الإنسان للخلود - الانقلاب الإسلامي - انقلاب القرن السابع
عشر - لماذا التشاؤم؟ - دين الله بغير عنوان - بعض أسباب
الإلحاد - ثياب رجال الدين - وحدة التعليم الديني والمدني -
جنايات الجمود في عصر إسماعيل
لما كتبت كلمتي الأولى تحت هذا العنوان آثرت أن أبدأ الحديث فيها بدفاع سلبي عن فكرة الدينية، وطلبت من حضرة السائل (البيروتي) أن يوازن بين حياة الإيمان وحياة الجحود كفرضين عقليين، وهو مجرد من أي تأثر نحو أحدهما، ولم أتعرض للمبحث الإيجابي في الأصول الأولى للدين - وهي: الإلهية، والنبوة، ومصير الإنسان إلى حياة أخرى - إنما أعطت السائل - ويلوح لي من كتابته إلى أنه من الدارسين للدين والفلسفة والتصوف والعلوم - إلى فكره هو أولاً، وإلى المقالات الإيجابية التي سبقت لي عن الإيمان، ثم بسطت الحديث في قيمة الإنسان، لأنها في رأيي أساس الاعتراف بكل الحقائق الدين والعلم والفلسفة.
وكنت أرجو أن تكون قراءة أمثال هذه البحوث، قراءة غير سطحية، حتى يتفطن القارئ لجميع حلقاتها، ويخلص إليه منها نتائج واضحة محدودة، ولكن - مع الأسف - جاءتني رسالة أخرى من مجهول آخر هو (ح. م)، يلفت نظري فيها إلى حياة مجتمعات النحل والنمل، وكثير من الحيوان والحشرات التي تعيش في نظام محكم لا تحيد عنه، ويبدو منها فيه إدراك واختيار. . .
وأنا لم أجهل نظم الحيوان والحشرات التي أشار إليها، بل إني مغرم بقراءة المباحث التي فيها، ولم أنكر عليها الإدراك والاختيار في مرافق معيشتها. وقد قال القرآن قبل أن يق العلم: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم). . .
ولكني أنكرت أن يسوي بين حياتها وحياة الإنسان أبي العجائب. . . الإنسان الذي يفكر فيها ويدرسها ويصورها ويكتب عنها ويتصرف فيها ويتغلب عليها، وهي لا تفعل شيئاً من ذلك! الإنسان الذي يولد وهو أقل منها قدرة على التغذي والدفاع عن نفسه، ثم ينمو ويترقى إلى ما لانهاية له في الفكر والعلم بما يزيد عن ضرورات حياته، بينما هي تقف في نموها وإدراكها عند حدود حفظ حياتها. . . الإنسان الذي خلقت هي له بدليل تسخيره لها في خدمته، ولم يخلق هو لها بدليل أنها لم تتغلب عليه وتسخره وتتصرف فيه. . . الإنسان الذي خطأ في خمسة آلاف سنة - هي عمر التاريخ الذي نعرفه - خطوات واسعة ثابتة متلاحقة، فتغيرت حياته من العرى والبساطة في المسكن والملبس والمدرسة والحرفة والعبادة، تغيراً عجيباً يكاد يجن منه آباؤنا الأولون، لو بعثوا ورأوا ما وصلنا إليه. . . بينما الحيوانات والحشرات واقفة كما هي منذ عهد أجدادنا الأولين بها.
وهنا الدليل القاطع على وجود روح سام من الله في الإنسان يدفعه إلى الأمام دائماً في هذا العالم، حتى يكشف عن كل سر في الطبيعة ويتصرف فيه، يدفعه إلى إدراك الكمال التام الذي ينتظره في عالم آخر.
فإن لم نعترف بقيمة سامية الإنسان خارجة عن نطاق حياته الحيوانية، فسوف تختلط أمام الفكر المثل، وتلتوي السبل، ونضل ضلالاً بعيداً يؤثر في خدمتنا للعلوم والآداب الرفيعة والعمران تأثيراً رديئاً.
وإن سوء الفهم لنظرية النشوء والترقي من أكثر الذين درسوها دراسة سطحية هي التي لونت نظرة الكثيرين إلى قيمة الإنسان بهذه الألوان المزرية التي تبعث على تحقيره وإسقاطه عن العرش الذي أجلسه عليه الدين منذ أقدم العصور. فبناء على تلك النظرة المبنية على سوء فهم للنظرية ذهبت عن الإنسان قداسته، واختلت مقاييس الأخلاق وموازينها، وكان في هذا أكبر دافع إلى التحاكم إلى قوانين الأدغال التي لا مجد فيها إلا للقوة العمياء والشهوات، والسيطرة الوحشية التي لا تعترف بخدمة الفكر، والعلم، ولذة الحياة في مثل أعلى.
وعلى فرض ثبوت نظرية النشوء - وهي للآن لا تزال فرضاً نظرياً يحتاج إلى حلقات مفقودة ليصير حقيقة علمية - لا يجوز لنا أن نخلط بين الحياة الآلية التي هي (مضروب مشترك) في أجسام جميع الأنواع، وبين الروح الإنساني الملموح في رقي الإنسان الدائم السريع، ونزوعه المستمر إلى العالم الأكمل، ونفاذ فكرة في عالم المعاني المجردة، التي تبدو عجيبة رائعة في الرياضيات العليا والخفقات الروحية العليا، والمثاليات العليا التي لا يمكن تفسيرها تفسيراً (بيولوجياً) أو (فسيولوجياً)
ولقد أحس الإنسان حتى في عصوره جهالته بتفرده وامتيازه على سائر ما يحيط به في الطبيعية إذ وجد نفسه أقوى قدرة، وأوسع حيلة في التغلب على المشقات، وفي الرقي بالحياة رقياً مطرداً، ولذلك لم يستطع أن ينظر إلى القبر كأنه نهاية أبدية لتلك الحياة؛ بل وجد في إلهامه أن لابد وراء موته من امتداد لحياته على أسلوب آخر أو على أسلوب الدنيا. . .
فما بال الإنسان يشك الآن في قيمته السامية بعد أن تضخم أمامه ميراث علومه وآدابه، وعمر الأرض عمراناً، وافتن فيها افتناناً وصار فطناً لما فيها من جمال وأسرار؟!
إنه ما فتى منذ وجوده وهو يسعى لخلوده ليظل مغموراً بهذا الإحساس العجيب بالحياة، ولم يكن يستطيع أن يتصور الخلود في أول الأمر بأكثر من أن يعطي شعلة حياته إلى ولده. وقد وجد في ولده أكبر عزاء له عن موته وفنائه؛ ولكنه لم يقنع بهذا بل ظل يبحث جاهداً عن وسائل خلود جسده هو بذاته، فحنطه ونقش صورته على الألواح والتماثيل، ثم خطأ خطوة أخرى فخلد فكره بالكتابة، ثم خطا خطوات متلاحقة في العصر الحديث نحو هذه الغاية فخلد صورته الحقيقية (بالفوتوغراف) وصوته (بالفوتوغراف) وأنغام نفسه (بنوتة) الموسيقى وحركات جسمه بالسينما، ثم تصرف في الصوت والصورة والحركة ونقلها على أمواج الأثير فاخترق الحدود والكثافات بالراديو والتلفزيون في أقل من لمحة، ثم هو الآن يتجه ببحوثه إلى عالم الروح لعله يستطيع أن يتصرف فيها. . . والله أعلم بمستقبل هذا النوع العجيب الذي ارتضاء خليفة له في أرضه. . .!
فأنت ترى أنه مشغول دائماً بخلود حياته إذ يحس إحساساً فطرياً وعقلياً أنها لا يليق بها الفناء الأبدي الذي يرجعها إلى العدم المطلق. . .
وأحب أن ألفت الفكر إلى أمر هام جداً وذي قيمة كبرى في النظر إلى قيمة الإنسان: وهو أن الحياة هذا النوع منذ ابتداء تيقظه لها في العصر التاريخي، وتقييد خطواته فيها حياة مطردة الرقي سائرة بسرعة إلى الوضوح والانكشاف وتحقيق الغاية من خلق النوع
ولقد عاش أدهاراً طويلة وهو يجهل أجناسه وأنواعه، غائباً في أوطانه الضيقة يحسبها هي وحدها كل الدنيا، لا يعلم حدود اليابس والماء، منثوراً لا رابطة تجمعه، جاهلاً بما في الكون من عوالم وأسرار، وقد كانت أديانه أدياناً خاصة. كل قرية فيها نذير يسدد حياتها بحسب ظروفها هي وحدها
ولقد كان الانقلاب الإسلامي قمة النضوج في العقيدة الدينية إذ جعلها عقيدة دولية وضع فيها الأسس لوحدة البشر، وتلاقيهم على معان مشتركة حتى يتأتى من وراء ذلك السعي إلى وحدة العمل والخدمة المشتركة، ولذلك لم تقبل الأرض أن يأتيها هدى من السماء على يد رسول بعد رسول الإسلام، وقد علم الله ذلك فأغلق باب الوحي وجعل محمداً (خاتم النبيين)، وقد صدق الزمان ذلك فلا مجال للجدال. ولم تعد الإنسانية تقبل ظهور البطل في صورة نبي، وقد فطن إلى ذلك (كارليل) في كتاب الأبطال، وهذا هو معنى قول رسول الله ﷺ في خطبة الوداع: (إن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) أي أن الإنسانية قد بدأت بعد الانقلاب الإسلامي دورة زمنية جديدة، وحقاً يجد كل من يتفرس ويستقرئ التاريخ أن عصراً عقلياً جديداً قد ابتدأ بظهور الإسلام وانفساح الإمبراطورية العربية التي احتضنت جميع علوم العالم القديم ومعارفه وأنمتها وحملتها إلى العالم الحديث. فالانقلاب الإسلامي ينبغي أن تجعله الإنسانية بدء تاريخ رشد للعقل ووحدة للدين، وستفعل ذلك في يوم لا ريب فيه
والآن صارت الأرض كقطر واحد بأدوات الاتصال السريع وكل أمة تعلمت لغات غيرها، وارتبطت مجموعات كبيرة من الأمم برباط واحد. واختلط الأبيض بالزنجي والشرقي بالغربي وسكان الجزر النائية الغائبة في المحيطات بسكان للقارات، وصار الإنسان العادي يطلع في كل صباح ومساء على أخبار العالم الأرضي كله، ويرى حياة جميع الأمم في السينما. . . وهذه كلها مقدمات لنتائج لا شك فيها عند من يقيس ويعتبر بالماضي
وإذا ثبت أن الانقلاب الإسلامي كان بدء عهد عقلي وقلبي للإنسان، فقد ثبت أن القرن السابع عشر الميلادي كان بدء عهد عملي وعلمي له. وبذلك طار الإنسان بجناحين قويين من الحياة الفكرية والحياة العملية إلى الغاية من خلقه
فليس من الصواب ولا من الإنصاف أن ننظر نظرة تشاؤم إلى حاضره ومستقبله بعد أن رأيناه يبني حياته على العلم والفكر والنظام بناءً كان يعد في الماضي من أعمال السحر والإعجاز وخوارق العادات. . .
ومن النظر العامي أن نزعم أن الإنسانية الآن أحط منها في الماضي. . . ولست أدري ما مبعث هذا الزعم؟ أهو ملاحظة فساد في العقيدة الدينية؟ إن العقيدة الدينية الآن أصح منها في الماضي؛ فهي في أكثر الأمم المتعلمة بعيدة عن الشرك والوثنيات والخضوع الأعمى للكهنة. . . وما أصدق أن عاقلاً يخلي الطبيعة من عقل يدبرها ولكنه ليس إله الكهنة؛ وعما قريب يذهب ما في بعض الأديان من بقايا الوثنية والإشراك ولن يبقى للإنسانية إلا دين الفطرة والعقل بغير عنوان من يهودية أو مسيحية أو بوذية أو غيرها. وهذا هو المعنى الحرفي اللغوي لكلمة (الإسلام) (فالإسلام) ترجمة ل - (دين بغير عنوان). فأي أمري، يؤمن بخالق واحد للطبيعة ويحسن العمل في الدنيا فهو (مسلم) والمعنى الحرفي لكلمة (إسلام) هو الانقياد لحكم الله في الطبيعة
وأقرأ إن شئت: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم. . . قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. بلى من أسلم وجهة لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). . . والآيات كثيرة في هذا، ولا محل الآن للخوض في هذا الموضوع. . .
وقد صارت الأديان التي تحتضن بقايا الوثنيات تختفي وتفر من نور العلم والفكر الحر ويزعم سدنتها أن الدين لا مناقشة، ولا تحاكم للعقل فيه. . . وهذا أول الاعتراف منهم بأنهم على باطل عما قليل يذهب مذموماً مدحوراً إلى قبور الخرافات والأباطيل
وأؤكد أن كثرة حوادث انفلات المتعلمين من العقيدة الدينية ليست ناشئة من أن عقولهم لم تقتنع بالأفكار الأولية الرئيسية فيه. . . وإنما منشؤها أن هذه الأفكار الرئيسية قدمت لهم في هلاهل من الخرافات والمتناقضات والألغاز، ولأنهم وجدوا أن تاريخ رجال الدين مع الأسف الشديد تاريخ مملوء بالجمود ومواقف العداوة للعلماء الطبيعيين الأولين الذين كان لهم فضل الاهتداء إلى مفاتيح العلوم التي نالت الإنسانية منها كثيراً من الخير والبركات وصار رجال الدين الحاليون أنفسهم يتمتعون بها ويأخذون بمنافعها كما يأخذ سائر الناس بعد أن كان أسلافهم يصبون عليها شآبيب السخط واللعنات ويحرقون وينكلون بمن يجرؤ على التحدث عنها في الفلتات بعد الفلتات. . .
ومنشؤها كذلك أن رجال الدين منعزلون عن حياة أكثرية الناس لهم لباس خاص ويكادون يكون لهم منطق خاص بهم وحدهم. والحياة الحالية حياة عظيمة السلطان على النفوس تغري جميع بنائها بالاندماج في موجاتها، وتعد من يعتزلها وينأى عنها رجلاً فيه مس ونقص وشذوذ. وكل مخلص للدين مقدر آثاره في الحياة وفقرها إليه وفسادها بدونه، يرى من الخطر أن يظل لرجال الدين ثيابهم الكهنوتية وطقوسهم التي ما أنزل الله بها من سلطان لأنها توهم الناس أن الدين في تلك الثياب والرسوم العجيبة، ويرى من الخطر أيضاً أن يفرق شباب الأمة فئتين: فئة لعلوم الدنيا منذ التعليم الابتدائي وفئة لعلوم الدين منذ التعليم الابتدائي. وليس بين الفئتين مرحلة يسيرون فيها جنباً إلى جنب حتى يتنفسوا في جو واحد ويقيسوا بمقياس واحد. وإذا كان هذا التفريق قبيحاً في أي أمة فهو في الأمة الإسلامية أقبح القبح! لأن الإسلام هو المعيشة بالجسد والروح عيشة متناسبة، وهو دين يجعل التمتع باللذات المحللة عبادة إذا ذكر اسم الله فيها. . . ويجعل خدمة العلوم الدنيوية المفيدة فرضاً يحاسب الله على إهماله، ويطلب من الإنسان أن يعيش عيشة رحبة عميقة بكل قوة في تكوينه. فلماذا التفريق في التعليم وفي اللباس تفريقاً يوحي إلى النفوس بمعان من التعصب والانحياز، ويلقى في روع الناس أن حياة الدين منفصلة عن حياة الدنيا؟!
إن اليوم الذي توحد فيه برامج التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية في جميع المدارس المدنية والمعاهد الدينية بحيث تحتوي البرامج على التربية الروحية التهذيبية والعلوم المفيدة للجميع. ويوحد فيه الزي بين أبناء الأمة جميعاً سواء أكان عمامة للجميع أم أي لباس للجميع، هو اليوم الذي تصير فيه الحياة الفكرية والروحية مزيجاً مؤتلفة فيه جميع عناصر الحياة اللازمة لكل نفس بدون تكلف أو احتراف. وهذا هو ما كان عند الرعيل الأول من المسلمين في زمن الرسول وخلفائه. فقد كان الرسول جندياً مع جنوده، وعاملاً بيده مع عماله، وعابداً وحاكماً ورجلاً يعيش بجميع قوى جسده ونفسه، يلبس جميع ألوان ثياب قومه، ولم يكن يتميز على أصحابه في شئ من السمات الظاهرة. فمن تبعه صار يلبس مثله. ولذلك كانوا كلهم في مظهرهم رجال الدين ودنيا يتفاضلون ويتمايزون بالعقل وكثرة العلم لا بالسمات والشارات. فمن كان عنده علم من الدنيا أفتى فيه وبذل منه وعرفه الناس به فقصدوه من أجله، ومن كان عنده علم من الدين أفتى فيه وبذل منه عرفه الناس به فقصدوه. وليس وراء ذلك فارق ما. فلا جرم بعد ذلك ألا تكون هناك شقة خلاف وهوة شقاق بين الدين والدنيا عند المسلمين الأولين بمثل ما هما عند المسلمين المتأخرين الذين ورثوا ميراث هذا الخلاف عن أمم الغرب، وزعم المبطلون أنه أصل عندنا كما هو عندهم
وقد كان من الواجب - لو فطنت الأمم الإسلامية - أن تظل الدراسات الكونية ضمن نطاق العلوم التي تدرس في المعاهد الدينية، كما كان الشأن عند المسلمين في الدولة العباسية والدول التي تلتها إلى أن جاءت نظم العصر الحديث في عهد محمد علي. إذاً لظل العلم بما في الدين وما في الدنيا وحدة غير مجزأة يخرج الإنسان المتحلي بها كامل القلب والعقل تلتقي عنده الثقافات ويمرن على التوفيق بينها، وبناء الحياة الاجتماعية عليها. فما كان عند المسلمين سبب يدعو إلى التفريق في المعاهد وإخراج علوم الدنيا عن نطاق الدراسات الدينية. وقد ظل الأزهر والنجف والزيتونة، وجامع القيروان، ومساجد بغداد، ومعاهد الشام يدرس فيها الفلك والحساب، والرياضيات والطب، والطبيعيات والموسيقى إلى أن أتى العصر الحديث.
وقد كان المتعلم لا يخرج إلا من هذه المعاهد وأمثالها. ولذلك أخذ محمد علي - منشئ دراسات العلم الحديث في البلاد العربية - أغلب أفراد بعثاته إلى أوربا من طلبة الأزهر، إذ كانوا هم الطبقة المثقفة من الشباب. وقد كان بعض العلوم الدينية يدرس في عهد محمد علي في المدارس التي أنشأها للهندسة والطب وغيرهما
ولكن جمود بعض المشايخ في عصر إسماعيل وامتناعهم عن إدخال العلوم الحديثة بنظمها الأوربية في الأزهر، هو الذي جني على الإسلام كما جني عليه امتناعهم عن إنشاء قانون مستمد من جميع مذاهب الشريعة الإسلامية يساير روح العصر الحاضر ويكون منطبقاً على ما جد في الحياة من مشاكل ومطالب. حتى اضطروا إسماعيل إلى فتح مدارس خاصة وإنشاء محاكم تحكم بغير الشريعة الإسلامية
إن الأوربيين اضطروا إلى انتزاع دراسة العلوم الكونية من أحضان الأديرة والكنائس، لأنها لا تسمح بالاعتراف بالحقائق التي تناقض وتهدم تعاليمها، بل كانت تئدها في مهدها، حتى جاءت الثورات الإصلاحية التي ألزمت الكنيسة حدودها، وجعلت الناس يدخلون الكنيسة بعقل خاص، ومعاهد العلوم بعقل آخر. ونحن المسلمين ولله الحمد لم تحدث عندنا معارك وخصومات بين الفريقين تجعل العلاقات بينهما مستحيلة، وليس في ديننا ما نخاف عليه من حقيقة كونية، بل بالعكس ديننا يخدم بالعلم الطبيعي. فلا يصح أن نفرد هذا بمعاهد خاصة وذاك بمعاهد أخرى. بل الواجب أن يسير جميع التعليم في مجرى واحد إلا في مرحلة التخصص
وفي هذا تدارك سريع لحالة تخشى عواقبها على الدين والأخلاق، وفيه توحيد وتوجيه لقلوب الشباب وعقولهم إلى مثل أعلى واحد. وفيه توكيد لذلك المعنى السامي العظيم: وهو أن الدين عندنا عقل وعلم، والعلم عندنا دين وخلق.
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف