مجلة الرسالة/العدد 356/حديث الإسكندرية ذو شجون
→ ساعة مع الأستاذ الأكبر | مجلة الرسالة - العدد 356 حديث الإسكندرية ذو شجون [[مؤلف:|]] |
في سبيل الأزهر ← |
بتاريخ: 29 - 04 - 1940 |
للدكتور زكي مبارك
(في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي أقامت جمعية الشبان
المسيحية في الإسكندرية احتفالاً سمته (عيد الورد)، ودعت
إليه جماعة من أدباء القاهرة، وفيما يلي خطبة الدكتور زكي
مبارك في ذلك الاحتفال)
في هذا المساء أيها السادة يحتفل المسلمون بعيد المولد النبوي، وتحتفلون بعيد الورد، فالمسلمون يحتفلون بعيد الحق، وأنتم تحتفلون بعيد الجمال، والصلة وثيقة جداً بين الحق والجمال
أما بعد، فقد اقترح صديق عزيز أن تكون خطبتي عن الإسكندرية حديثاً ذا شجون، فما الذي ينتظر ذلك الصديق من تلك الشجون؟
أيكون لاحظ أنني كثير الحديث عن الإسكندرية، وأن هواي بها وصل إلى حدَّ الافتضاح؟
هو ذلك، ولكن هل يعرف لأي سبب تزداد شراهتي في انتهاب مفاتن الإسكندرية كلما سنحت الفرص في الصيف أو في الشتاء؟
السبب يرجع إلى أني دخلت الإسكندرية أول مرة وأنا حزين: دخلتها في قفص، دخلتها في سيارة مقفلة من سيارات السلطة العسكرية في أيام الثورة المصرية. دخلتها في الظلام، فلم أر من جمالها غير أطياف، ثم نقلني ذلك (السجن المتحرك) إلى مقرِّ الاعتقال في ضاحية نائية، هي اليوم ملاعب صبابة ومدارج فتون. ومن يصدِّق أن ضاحية (سيدي بشر) كانت معتقَلاً يُسجن فيه من هتفوا باسم الحرية والاستقلال؟
قضيت في هذه المدينة شهوراً طوالاً بدون أن أشهد من جمالها غير ما يطوف بالأوهام والظنون. ولن أنسى أبداً كيف كان هدير البحر يقرع سمعي وقلبي في غفوات الليل. ولن أنسى كيف فرحت يوم خرجت من المعتقل لأرى الإسكندرية بعينيّ، ولأطوِّف في رحابها حيث أشاء بلا حارس ولا رقيب، ولأقول لنفسي: إن شهور الاعتقال قد ذهبت إلى غير مَعاد. . .
هذا هو السبب في هيامي بالإسكندرية، ولن أشبع منها أبداً. فجنوني بها هو انتقام من الزمن الجائر الذي قضى بأن أراها أول مرة في ظروف أفظع وأشنع من أعمار الأحزان
أحب أن أفرح في الإسكندرية. أحب أن أرى فيها أيام نعيم بعد أن رأيت فيها شهور بؤس. أحب أن أراها وتراني في بشاشة وأريحية وصفاء. فخذي بزمامي إلى حيث تشائين، يا مهد الشهامة والنضارة والجمال
لك قلبي، يا إسكندرية، فامنحيني من العطف ما أنسى به تلك الأيام السود، أيام الاعتقال. واصفحي عني، يا إسكندرية، إن افتضحت في هواك، فما يكون تلاقينا إلا بَلْسماً لجرح عميق تعتادني آلامه من حين إلى حين. . .
أيها السادة
لمدينتنا هذه تاريخ وتواريخ
فيها وقعت أعظم فاجعة غرامية، وهي فاجعة صيرت الحب شريعةً من الشرائع. ألم يكف أن يصل اسم كليوباترة إلى جميع البلاد وأن تؤلف فيه المئات من الأقاصيص؟
ومدينتنا هذه هي التي حفظت ذخائر الفلسفة اليونانية بعد غفوة العقل اليوناني
ومدينتنا هذه هي التي عرفت الاستشهاد في سبيل المسيحية أعوامَ اضطهاد المسيحية
ومدينتنا هذه هي التي استقبلت طلائع الجيش الإسلامي وجعلت للإسلام دولة على شاطئ المحيط، وقد كان بحرنا هذا أول بحر خفقت فوقه الراية الإسلامية، وسيظل إلى الأبد صلة الوصل بين حضارة الإسلام في الشرق وحضارة النصرانية في الغرب، ولن تكون شواطئه الشرقية إلا بأيدينا مهما بغى الاستعمار واستطال
ومدينتنا هذه هي التي خلدت اسم من نسبتْ إليه. وما بناها الاسكندر كما يتوهم الجاهلون، وإنما بنى حيَّا من أحيائها، وسيأتي يوم لا يُعرف فيه مَن الإسكندر إلا بوصل اسمه الفاني بهذه المدينة الباقية على الزمان
وقد سميت باسم الإسكندرية مدن كثيرة في المشرق والمغرب، ولكنها ذهبت جميعاً، ولم يبق غير مدينتنا هذه لأنها مصرية، ومصر عريقةٌ في الخلود
أيها السادة
كتب أحد أدبائكم يقول إن الإسكندرية تقتل الروح الأدبي، وهو أديب لا أسميه لئلا أعرِّض سمعته للإيذاء، فهل ترونه على حق؟
اسمعوا ثم اسمعوا
في مدينتنا هذه خُلقت المعارضة السياسية بطريقة صريحة لأول مرة بعد الثورة المصرية. وفي مدينتنا هذه وجد الناس من الشجاعة ما يقاومون به سعد زغلول وكان اسمه قد ملأ جميع الأرجاء
وما يهمني أن أقول إن تلك المعارضة كانت بحق أو بغير حق، فلذلك حديث غير هذا الحديث، وإنما يهمني أن أقول إن أول معارضة ثارت في مصر بطريقة صريحة كانت المعارضة الموجَّهة إلى مشروع ملنر، وتلك المعارضة لم ترفع رأسها إلا في الإسكندرية بجريدتين سيذكرهما التاريخ وهما جريدة (الأمة) وجريدة (الأهالي)
فكيف جاز أن يسيطر سعد زغلول على سائر المدن المصرية ولا يجد مقاومة في غير هذه المدينة؟
لا تتهموني بالعصبية للحزب الوطني، فأنا في نفسي أعظم من كل عصبية وإن اعتمدت على الحق، وإنما يهمني أن أسجل محامد مدينتنا هذه فأقول إن سكانها الوطنيين يرجعون في الأغلب إلى عنصريين اثنين: العنصر الوافد عليها من الصعيد وهو عنصر معروف بالعناد، والعنصر الوافد عليها من المغرب بعد سقوط الأندلس في أيدي الأسبان وهو معروف بقوة المراس، ومن أجل هذا ترون الإسكندريين الوطنيين قوماً غلاظ الأكباد يغضبون بسرعة ويستوحشون من الدخلاء كأهل المغرب وأهل الصعيد، أما سكان الإسكندرية من أهل الوجه البحري فهم أقلية، وهم مصدر اللطف الذي نلمحه في الإسكندرية من وقت إلى وقت في غبية الغضب واللجاجة والعناد
وهنا يسمح المقام بتسجيل خاطر غريب
في هذه المدينة الثائرة بالفطرة وبوحي البحر نرى شواهد من النظام لا نجده في أية مدينة مصرية
في هذه المدينة وضعت قواعد النظام للمعاهد الدينية، فأول معهد ديني نظامي هو المعهد الإسكندري، وقد أشرف عليه رجل صعيدي حادّ الطبع،، ولكنه في روحه مفطور على نظام هو أستاذنا الجليل المرحوم الشيخ محمد شاكر الذي كان يرضي ويغضب في لحظات، والذي كان يمثل قلق الإسكندرية، وحمية الصعيد، وسكينة القاهرة، ومن الإسكندرية نقل النظام إلى سائر المعاهد الدينية، وهو نظام ثار عليه الأزهر ثورة عنيفة لن أنساها ما حييت لأنها عطلتني من الدرس أسابيع وأسابيع قبل أن تولد عرائس هذا الحفل البديع
والمعهد الإسكندري ُمنسيٌَ في هذه الأيام، ولكن الذين عاشوا قبل الحرب الماضية يذكرون كيف استطاع أستاذنا الشيخ عبد المجيد اللبان أن يقيم به زعامة دينية يصل روحها إلى أكثر المدن المصرية
وإن كشف غطاء التاريخ فستعرفون أن الشيخ اللبان كانت له يد في تأريث الثورة المصرية، فهو الذي جمع بين أعضاء الحزب الوطني وبين حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، ومن تلك الحركة تهيأ الجو لحركات شهدتها سنة 1918 ثم استفحلت في سنة 1919 ثم ما كان إلى أن شهدتم سقوط الحماية وإعلان الاستقلال
فما معنى هذا؟ معناه أن الإسكندرية التي ألقى فيها مصطفى كامل أعظم خطبة وطنية هي الإسكندرية التي سبقت إلى الثورة على الأحكام العرفية في أعقاب الحرب الماضية والتي سنت لأهل مصر شريعة النضال في سبيل الاستقلال
وهل سمعتم بحديث الدكتور محجوب ثابت؟
بفضل الإسكندرية جاز أن يكون في مصر نائب عن العمال، وهذا شيء غريب في بلادنا ولم يقع أول مرة إلا في الإسكندرية. وله مدلول يشهد بأن مدينتنا هذه مدينة أصيلة في قوة الشخصية. ألم يكف أنها تحتفل الليلة بالمولد النبوي احتفالاً أفخم وأعظم من جميع الاحتفالات بسائر المدن المصرية؟ ألم يكف أنها أول مدينة في الشرق بعد القاهرة مع أن القاهرة تملك من السحر ما تعجز عنه جميع المدائن في الشرق؟
أيها السادة:
إن الحديث ذو شجون، فهل سمعتم أن الإسكندرية تسيطر في هذه الأيام على وزارة المعارف؟
قيل إن النقراشي إسكندري المولد. وقيل إن السنهوري إسكندري المولد. وقيل إن شفيق غربال إسكندري المولد، فهل هذا صحيح؟ إن صح هذا فانتظروا متى ثورة تزلزل رواسي الجبال، فما يرضيني أن يكون لمدينتكم كل هذا السلطان؟ ولكن ما الموجب للثورة وأنا أعرف مقاتل هؤلاء الرجال؟ فالنقراشي العنيد اسكندراني تأسره قوة المنطق، والسنهوري أضعف الضعفاء أمام القانون، وشفيق غربال يعجز كل العجز عن مقاومة الحق
وأرجوكم باسم الذوق ألا تظنوا أنني أجامل رؤسائي، فما خُلقت للمجاملات، وإنما أدلكم على مقاتل هؤلاء الرجال، وهذا ينفعكم أجزل النفع، يوم يبدو لأحدكم أن يستفيد من قوة الحق والمنطق والقانون
ومدينتنا هذه التي وضعت قواعد النظام للتعليم الديني هي أول مدينة بعد القاهرة تقوم فيها جامعةٌ مَدَنيّة في العصر الحديث فكان لها فضل السبق على المنصورة وأسيوط، مع الاعتراف برشاقة المنصورة ورزانة أسيوط
ولأول مرة في تاريخ مصر يُحرَم الوزراء بَدَلَ السفر حين ينتقلون لشأن من الشؤون، وما حُرَّم ذلك إلا بالنسبة إلى الإسكندرية، فهل كان ذلك لأن الإسكندرية تستهوي الوزراء فتحملهم على تكلف أسباب الانتقال؟ لا، إنما كان ذلك التحريم لأن الإقامة في الإسكندرية غنيمة من الغنائم، ومن واجب الدولة أن تمنّ على الوزير بأن مصالحها هيأت له الفرصة للإقامة يوماً أو يومين بالبلد الذي يَفتن في الصيف وَيشُوق في الشتاء
ومع أن الإسكندرية سبقت القاهرة إلى البلاء بقسوة اشتباك المنافع مع الأجانب فقد صحّ للإسكندرية أن تسبق القاهرة إلى استخلاص بعض المنافع من الأجانب، فأول (تِرام) سيطرت عليه الحكومة هو ترام الإسكندرية، وفي ذلك ما فيه من قوة الشخصية
والإسكندرية تفوق القاهرة في أشياء
فالوافد على الإسكندرية من الجنوب تَلقاه المنازل البيض الخفيفة الروح، وتَلقاه نخلاتٌ بواسق تأنس برؤيتها العيون، أما الوافد على القاهرة من الشمال فتلقاه منازل مهدَّمة تقبض النفس، فمتى تفطن حكومتنا إلى هذه الظاهرة؟ ومتى تمدَّ يدها لرفع تلك الخرائب وتحويلها إلى حدائق ورياض ليشعر الوافد على القاهرة بأنهُ مقبلٌ على مدينة تفهم قيمة الجمال؟
آن للقاهرة أن تعرف أنها تسئ إلى سمعة مصر بالعفو عن تلك الخرائب التي تواجه من يَقْدَم عليها من الشمال. آن للقاهرة أن تعرف أنه لا يجوز أن تلقى القادمين بغير الابتسام، وتلك الخرائب الشبراوية تُدخل على أرواح القادمين أثقالاً من الانقباض البغيض أتذكرون المحطة القديمة، محطة الإسكندرية؟
لقد كان الداخل إليها يشعر بأنه يفد على أطلال، وقد عزّ ذلك على الملك فؤاد رحمه الله فأشار بأن يكون للإسكندرية محطة تناسب ماضيها الجليل وحاضرها الجميل
ومحطة القاهرة هي رابع محطة في العالم من حيث الفخامة والرونق، فكيف يجوز أن ندخل إلى القاهرة في مضايق محفوفة بمنازل محرومة من نضرة النعيم؟
يجب أن تسارع الحكومة إلى تجميل مدخل القاهرة، فمن العيب أن تكون لها تلك الحواشي المطرَّزة بأكواخ البائسين
ويوم يتمّ ذلك أستطيع أن أتحدث في موضوع جديد هو تغيير الشاطئ الذي تدخل فيه البواخر إلى (عروس الماء)
فالشاطئ الذي يستقبل البواخر مطرَّزٌ بحواش يُقْذِى مرآها العيون. ويجب تغييره أو تجميله في أقرب فرصة، فما يجوز أن يكون أول ما يقع عليه البصر عند دخول الإسكندرية شوارع ضيقة ومنازل دميمة وحوانيت ترجع في تكوينها إلى ما قبل التاريخ
الجَمال، الجَمال، الجَمال!!!
ليس الحديث عن الجمال هزلاً، وإنما هو جِدٌّ صُراح، والأمم التي لا تقدِر الجمال لا تستحق نعمة الوجود
فهل خطر في بال من يثورون على التبرج في شواطئ الاستحمام أن من واجبهم أن يثوروا على الدمامة في مراسي السفائن؟
وهل فيهم من حدثته النفس بأن ينظر في البقعة الموحشة التي تستقبل الوافدين من روما ولندن وباريس وبرلين؟
أين المحافظ وأين مدير البلدية وإليهما يتوجه من يتألمون من التبرج في الشواطئ؟!
هل عند هذين الرجلين علمٌ بما نعانيه حين ندخل مدينتنا هذه بعد قضاء شهور أو أعوام في ديار الغرب، الغرب الذي يرى الزينة مطلوبة في جميع المواطن وجميع الأشياء؟
قلتم في الدعوة إلى (عيد الورد) إن الإسكندرية لها حقٌّ على الجميع. فمن حقي عليكم وعليها أن تسمعوا وتسمع هذا القول وأنا أدعو إلى تغيير أو تجميل موقع الميناء، فأين من يسمع وأين من يجيب؟ الحديث ذو شجون، أليس كذلك؟ فما الذي يمنع من القول بأن مدينتكم أخلفت الظن بها كل الإخلاف؟
هل تصدقون أن مدينتكم هذه كان لها صوت صحفي مسموع في أيام مصطفى كامل وأيام سعد زغلول؟ فأين صوتها اليوم وهي صدى لأصوات القاهرة؟
أنا أعرف أن الساعة الثامنة صباحاً والساعة السابعة مساءً موعدان لقدوم الجرائد والمجلات وأُحسُّ لوعة الشوق إلى هاتين الساعتين لأنهما موعد اتصال الإسكندرية بالقاهرة، ولكني أتوجع كلما تذكرت أن الحكومة المصرية التي تُعسكِر بالإسكندرية في الصيف لا تسمع صدى أصواتها إلا بفضل جرائد القاهرة، فمتى يستيقظ النائمون من أهل هذا الثغر الجميل؟
أيها السادة
أترك حديث المؤاخذات إلى حين، والتفت إلى حديث القلب فأقول: سيأتي يوم قريب يجتمع فيه زعماء مصر حول شواطئ بحر العرب الذي سُمِّيَ خطأ بحر الروم، وسيقام في الإسكندرية مؤتمر يؤلف بين أهواء الرجال ويغسل الضغائن ويدفن الحقود
ويومئذ نقيم (عيد الورد) وفي ليلة الاحتفال بعيد (المولد النبويّ)
ويومئذ نطمئن إلى أن بحرنا يسمى (البحر الأبيض المتوسط) لأنه جمع بين بياض القلوب، وتوسِّط في جمع أهواء النفوس
ويومئذ ننسى أن الهيام بشواطئ الإسكندرية يجرح رجال الدين، لأننا سنكون يومئذ ملائكة رفع الله عنهم إصر التكليف المستقبل لنا، بإذن الله صاحب العزة والجبروت
وهذا البحر لنا، بإذن فاطر الصباحة والملاحة والجمال
ومصر لنا، بفضل سواعدنا وعزائمنا وقلوبنا
فمن أراد بنا السوء فلينتظر غضبات الأسود عند جياع الأشبال.
نحن حفظنا مصر للعروبة والإسلام ثلاثة عشر قرناً، وسنحفظ لأبنائنا وأحفادنا وأسباطنا هذا التراث الغالي. والله مع المجاهدين.
زكي مبارك