الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 356/النقابات الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 356/النقابات الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 356
النقابات الإسلامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 04 - 1940


للأستاذ برنارد لويس

ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدروي

- 2 -

كانت الحركة الإسماعيلية قوة تهذيبية عظيمة، اختصت بإنشاء مدارس وجامعات أشهرها جامعة الأزهر في القاهرة وبتصنيف دائرة معارف واسعة تذكرنا بحركة التأليف الأنسكلوبيدية في فرنسا في القرن الثامن عشر. وفي هذه الموسوعة المسماة (رسائل إخوان الصفا) نجد تقريباً كل الآراء التقدمية في ذلك العصر وإشارات قليلة ثمينة إلى نظم تشكيل الجمعيات، ومنها نعلم بوجود جمعيات لإخوان الصفا في جميع أنحاء الإمبراطورية تعمل لبث آرائها بين كل طبقات الشعب وخاصة بين الصناع وأصحاب الحرف

يرى الأستاذ ماسنيون أن الحركة الإسماعيلية هي التي أوجدت الطوائف الإسلامية وأعطتها ميزتها الخاصة التي حافظت عليها حتى الآن، إذ يقول: إن الطوائف الإسلامية كانت قبل كل شئ سلاحاً شهره الدعاة الإسماعيليون في كفاحهم لضم الطبقات العاملة في العالم الإسلامي لتكوين قوة منهم تستطيع قلب الخلافة وكل ما تمثله؛ وللتوصل إلى استغلال أصحاب الحرف أوجدوا الطوائف وسيطروا عليها. وهكذا أصبحت لها خاصيتان: (أولاً) كونها أصنافاً للحرف و (ثانياً) كونها مؤسسات أخوية إسماعيلية

دعنا نفحص الدلائل التي تؤيد هذه النظرية. يجب قبل كل شئ ملاحظة اهتمام الإسماعيلية العظيم بطبقات أصحاب الحرف فقد خصص فصل كامل في رسائل إخوان الصفا للنظر في الحرف اليدوية وتبويبها وتصنيفها ونبلها. وتهمنا بصورة خاصة الفقرة التي قسم فيها الذين لا يمتهنون الحرف كما يلي: قسم لا يمتهن الحرف كبرياء وأنفة، وقسم لزهده كالأنبياء، وقسم يقلدهما لكسله وقلة نشاطه كالشحاذين وغير الماهرين من الصناع أو لتراخ في الطبيعة وضعف في العقل كالنساء وما يشبههن من الرجال. فالإشادة المقصودة بأصحاب الحرف بينه، والأمثلة الأخرى على اهتمام الإسماعيلية بالحرف كثيرة. وهناك عامل ثان وهو الفرق بين وضعية الطوائف في عهد الفاطميين وبينها في عهود الدو السنية. إذ كانت الطوائف تحت الحكم السني مضطهدة وخاضعة لقيود لا تعد، ومحرومة من حقوق قانونية. وكان هناك موظف حكومي يدعى المحتسب مهمته الأساسية مراقبة الطوائف وقتل أية محاولة للعمل المستقل فيها منذ المبدأ، ولدينا أدب ممتع ضد هذه الطوائف يظهر قلة ثقة الدول السنية بها، ويظهر ذلك خاصة في كتب الحسبة أي الكتب التي كتبت لفائدة المحتسب عن أخطر أهل الصنائع وعن احسن الطرق للسيطرة عليهم، وقد وصلتنا هذه الكتب من محلات متباينة كالقاهرة وحلب ومالقة

نلاحظ الفرق في وضعية الأصناف تحت حكم الفاطميين، إذ كانت تتمتع برخاء عظيم. فقد كانت معترفاً بها من قبل الدولة، ويظهر أنها كانت تتمتع بامتيازات كثيرة، وأنها لعبت دوراً هاماً في النشاط التجاري الذي حصل في العهد الفاطمي، ففي هذا العصر نشأت نقابة الأساتذة والطلاب التي تؤلف الجامعة العظيمة أي الأزهر الذي مر ذكره. ثم قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية 1171م، وأعيدت مصر إلى حكم السني وفي الحال جردت الطوائف من أكثر حقوقها وامتيازاتها وأخضعت لنظارة دقيقة

وهنالك عامل ثالث يؤيد هذه النظرية، وهو الأثر القوي الذي تركه النفوذ الإسماعيلي في الطوائف بعد اختفاء الدعوة الإسماعيلية بزمن طويل. إذ يقول الأستاذ كوبريلي إن الطوائف في أناضوليا في القرن الثالث عشر كانت لا تزال تحتفظ بنظام متدرج في التنشيء يشبه بدقة النظام الإسماعيلي، كما أن دراسة أصناف مختلفة في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي أظهرت آثاراً مماثلة. وتظهر رسالة لأحد الأصناف المصرية كتبت في القرن السادس عشر - كتاب الذخائر والتحف في بير الصنائع والحرف - كرهاً شديداً للحكم العثماني الذي يعتبر سبب تعاسة رجال الأصناف، ونجد في الرسالة فكرة انتظار المهدي لينقذ البؤساء

وهكذا نجد الآثار الإسماعيلية التي هي ضد التعاليم السنية تستمر بين الأصناف، ونلاحظ العبارة التالية في هذه الرسالة (إن العلم يعطلونه وبعد أن تذهب دولة العثمان يطلبونه ويقوم سيدي محمد المهدي لكل حرفة لها صدر في الصحابة ويأمرهم بإتباع الطريق فيدخلون السياج ويسألون كل نقيب عارف يصير الأمر له محتاج حتى يقوم الدين ويصلح اليقين ويبطل العقد والثلاث ويضرب أعناق النقباء الجاهلين والمشايخ المتلبسين) وأهم من ذلك وجود أفراد من طوائف مختلفة بين أفراد الأصناف، وهي خاصة تميز هذه الأصناف بدقة عن النقابات الأوربية، إذ يقبل المسلم والمسيحي واليهودي تحت نفس الشروط فيها، حتى إن بعضها يغلب فيها غير المسلمين كأصناف الأطباء والمتعاملين بالمعادن الثمينة. . . الخ. وهذا يظهر الرابطة الدقيقة بين الأصناف والدعوة الإسماعيلية

يتضح من كل هذا أن الحركة الإسماعيلية لعبت دوراً هاماً في تطور الأصناف الإسلامية، وأنها تركت أثراً عميقاً خالداً في حياتها الداخلية، وإن لم يوجد برهان واضح يبين أن الحركة الإسماعيلية أوجدت الأصناف، ولكن الأكثر احتمالاً هو أن الإسماعيلية أعطت مصدراً جديداً ومعنى جديداً لتشكيلات كانت موجودة من قبل. فهل كانت هذه التشكيلات من أصل بيزنطي، أو كانت تقليداً لمؤسسات بيزنطية معاصرة خارج حدود الإمبراطورية الإسلامية؟ هذا ما يستحيل البت فيه. فأثار تشكيلات الحرف في الفترة التي سبقت الحركة الإسماعيلية والعامل الإغريقي العظيم في الأفكار يؤيد تفسيراً من هذا القبيل

وهكذا تكون النقابات الإسلامية عبارة عن نظام يتركب من هيكل موروث من العالم اليوناني الروماني وسلسلة من الآراء جاءت على الأخص من الحضارة الفارسية الآرامية وأنتجت حركة إسلامية إغريقية تهذيبية فلسفية تكتلية (على هيئة جمعيات) في نفس الوقت

وفي أوسط القرن الثالث عشر حدثت فاجعة الفتح المغولي الذي حطم الخلافة وأخضع المسلمين من سنيين وغيرهم على السواء إلى سيطرة شعب أجنبي كافر، وأفضى إلى طمس التمييز الاجتماعي بين الاثنين (السنة وغير السنة) وسهل نوعاً ما اعتناق الجماهير للمذهب السني. وباختفاء الحركة الإسماعيلية تحرج مركز الأصناف في المجتمع السني، إذ بقيت بعض الصعوبات، فأصحاب الحرف بقوا غير آمنين في نير الطبقات الحاكمة في الدولة. وربطوا أنفسهم بميول دينية هي وإن لم تكن خارجة عن الدين لم تكن دائماً فوق الشك، وهذا هو التصوف، فإلى زمن قريب كانت تصدر بعض التهم من علماء السنة ضد الأصناف كالأحكام التي أصدرها الفقيه السوري العظيم ابن التيمية، أو التي أصدرها الشيخ العثماني (منيري بلغرادي) في القرن السابع عشر. وعلى كل فبالرغم من كل هذا العداء كانت حالة الأصناف في الفترة التي تلت الفتح المغولي متوطدة، واستمرت كذلك حتى حركة الإصلاح التركي في القرن التاسع عشر التي انتهجت خطة أدت إلى انحطاط الأصناف بصورة عامة. وترجع أكثر الوثائق وكل الأخبار التي لدينا عن النظام الداخلي للأصناف إلى فترة التي تلت العهد المغولي

وقبل النظر في النظام الداخلي يجدر بنا أن نفحص مشكلة هامة في تاريخ الأصناف الإسلامية. فحوالي نفس الوقت الذي نجد فيه الأصناف تختلط بطرائق الدراويش والصوفية نجدها على اتصال أشد بنظام جديد وهو الفتوة. أما أصل حركة الفتوة فغامض جداً، وليس هذا بمحل البحث عن ذلك. ويكفي القول بأن تشكيلات الفتوة انتشرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في جميع البلاد الإسلامية. وجمعية الفتوة هي مجموعة شبان (فتيان) يربطهم قانون أو دستور ديني وأخلاقي يحتوي على واجبات وشعائر منظمة. فهم مسئولون عن ممارسة بعض الفضائل والقيام بخدمة عسكرية لخير الإسلام. ويظهر من هذا أن الفتوة تشكل نظاماً إسلامياً يوازي الفروسية عند الأوربيين حتى أن فون همر ذهب إلى أن أصل الفروسية الأوروبية إسلامي

وفي الفترة التي تلت الفتح المغولي مباشرة نجد الفتوة تميل أكثر فأكثر إلى الاتصال بالطرائق الصوفية وبأصناف الحرف بواسطة رابطة العضوية (أي الانتماء إليها في نفس الوقت). بدأ هذا التطور في الأناضول، وأنتشر بسرعة في أنحاء العالم الإسلامي، ولم يمضي زمن طويل حتى أصبحت كلمتا صنف وفتوة ذاتي مدلول واحد. أما كيف بدأ هذا الامتزاج، وعلاقة هذه التشكيلات المختلفة، فأمر غامض لم يوضح بصورة كافية حتى الآن

يلاحظ تشنر ثلاثة أدوار في تاريخ الفتوة، وهي ثلاث خطوات لانحلال اجتماعي مطرد: فيقول إن حركة الفتوة بدأت كحركة فروسية أرستقراطية، ثم تحولت فصارت حركة الطبقة المتوسطة في القرن الثالث عشر، وأخيراً انحطت في القرن الخامس عشر إلى أكثر من ذلك وأصبحت حركة للعوام. وهكذا اندمج الفتيان في أصناف الحرف. ومن جهة أخرى يقول ثورننج أن الصوفيين وأصحاب الحرف قلدوا جمعيات الفتوة مقتبسين شعائرهم ومثلها العليا وأخيراً اسمها. وأكثر هذه التعليلات إقناعاً هو تعليل (كوردلفسكي) الذي يتفق مع كوبرولو على أن زمن اندماج مجموعات الفتوة بالأصناف هو في القرن الثالث عشر في الأناضول، ويربط ذلك بنظام هام هو نظام (أخيان روم) أو (أخوة الأناضول). فقد ظهرت أخوة في أناضوليا لأول مرة في السنوات التي تلت الفتح المغولي مباشرة، إذ كانت الفترة فترة فوضى واضطراب عام؛ فالمغول الذين دحروا الدولة السلجوقية عجزوا عن التعويض عنها، وبذا اضطربت الإدارة. وفي هذا الدور الحرج تظهر الأخوة كمؤسسة قومية واسعة لها الرغبة والقدرة على التنظيم.

(يتبع)

عبد العزيز الدروي