مجلة الرسالة/العدد 355/في أرجاء سيناء
→ في سبيل الأزهر الجديد | مجلة الرسالة - العدد 355 في أرجاء سيناء [[مؤلف:|]] |
على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية ← |
بتاريخ: 22 - 04 - 1940 |
4 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
وفي يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة خرجنا إلى حديقة الدير فدخلنا ساحة ذات أشجار اتخذت مباءة لغنم الدير، رأينا فيها عدة من الضأن والمعز معها سخالها، ورأينا في جانب الحديقة ناقة معها فصيلها، وهي لحمل ما يجلب إلى الدير. هناك بئر واسعة قريبة الماء
ثم دخلنا إلى ساحة صغيرة فيها قبور قليلة هي مزرعة الموتى؛ فأما حصاد هذه المزرعة ففي حجرة واسعة متصلة بهذه المقبرة. في هذه الحجرة أكداس من الجماجم والعظام قد رتبت وصنفت، فالجماجم على حدة، وعظام الأذرع على حدة، وعظام الأرجل على حدة، لم تختلط كما توجس أبو العلاء المعري في قوله:
لا يغيّركم الصعيد وكونوا ... فيه مثل السيوف في الأغماد
فعزيز عليَّ خلط الليالي ... رمّ أقدامكم برمّ الهوادي
ذلكم لأن موتى الدير يدفنون في المقبرة الصغيرة ثم تستخرج العظام بعد حين فتجمع في مكانها وتخلى الأرض لمن يفد إليها من وفود الموتى المتتابعة على مر العصور
ربِّ لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين علي بقايا دفين ... في قديم الأزمان والآباد
ثم خرجنا من دار الفناء والعبر فدخلنا إلى حديقة واسعة فيها أنواع من البقول وضروب من السرو وأشجار الفاكهة، تسقى من آبار فيها، ومما يجلب إليها من آبار داخل الدير
وحديقة الدير مرأى جميل في حضيض الجبال الشاهقة المشرفة عليها
إلى جبل موسى
الجبل العظيم المطل على الدير من الجنوب يسمى جبل موسى ويقال: إنه الجبل الذي تلقى فيه موسى عليه السلام الألواح.
تواعدنا الخروج إلى الجبل بعد الظهر، فسار الرفاق يدلهم أحد الرهبان، فخرجوا من باب صغير في حديقة الدير إلى الجبل ليصعدوا زهاء ثلاثة آلاف درجة منحوتة في الحجر أو مرصوفة، وللجبل طريق أخرى على مقربة من الدير تصعد على السفح متعرجة إلى ثلثي الجبل، ويستطيع الجمل أن يصعد فيها. وقد آثرت أنا هذه الطريق، فركبت جملاً، و صاحبه يقوده. فأما الجمل فاسمه درويش، وأما صاحبه فاسمه حميد من أولاد سعيد
صعدنا زهاء خمسين دقيقة، وأنا مشفق على هذا الحيوان السهلي يكلَّف هذا المرتقى الصعب، بل سفينة الصحراء التي تسام صعود الجبال.
وكان بيني وبين صاحب درويش حديث ممتع:
قلت: ما تسمي هذا الذي أركب عليه؟ قال: الغبيط، والذي تحته البدار، وقد وضعت الغبيط على بدار الحمل، لأني جئت بدرويش إلى الدير محملاً، وما حسبت أنه يركب. قلت: الغبيط بلغة أهل مصر ما يحمل فيه التراب ونحوه على الدابة، ولكنه في الشعر القديم كما تقول. قال: هذا الخشب المكسوّ الذي يركب عليه هو الغبيط، والبدار هذه الحشيّة التي توضع تحت الغبيط. قلت: فما تسمي هذا الحزام الذي على صدر الجمل؟ قال: هو البطان قلت: صدقت. ويقال في المثل التقت حلقتا البطان والحقب. فما الحقب؟ وهل تسمى الحزام الخلفي حقباً؟ قال: لا، هو الحبك. قلت في نفسي: ليس هذا بعيداً من قياس اللغة وسماعها. ثم قلت: فما الحبل الذي في يدك؟ قال: الرسن. قلت: ألا تسميه المقود؟ قال: المقود هذه - وأشار إلى طرف الحبل الذي في يده وقد جعله كالحلقة - قلت: يا حميد! فما الحبل الذي على خدّ الجمل. قال: العذار. قلت: صدقت. تذكرت قول أبي الطيب:
فقرّحت المقاود ذفربيها ... وصعّر خدّها هذا العذار
قلت: فأين الغارب؟ فوضع يده على أمام الغبيط من ظهر الجمل، وقال: والكثَب هذا؛ ووضع يده على ما يلي العنق.
قلت في نفسي: الذي عرفناه في اللغة الكاثب وجمعه كواثب،
كما قال النابغة:
لهن عليهم عادة قد عرفتها ... إذا عرض الخطّى فوق الكواثب
قلت: فأين الثفنة؟ قال لا أعرف. قلت: ألا تسمى الركبة ثفِنة؟ قال: لا، ولكن الذِّفنة هذه. وأشار إلى ما يقع على الأرض من رجل البعير الخلفية إذا برك. قلت في نفسي: قد قُلبت الثاء ذالاً في لغة حميد وقومه
ثم سألته عن نبات مرَرْنا به حتى قلت: أهنا ثمام؟ قال: لا، ولكن في وادي كذا ثمام كثير. قلت: نحن نقرأ في كلام القدماء: (هذا الشيء على أطراف الثمام). قال: نعم، كذلك نقول إذا كان الشيء كثيراً قريباً، لأن الثمام قصير. قلت: أفادك الله يا حميد
قال حميد: لا يصعد الجمل بعد هذا الموضع. فنزلت وربط هو درويشاً؛ وسار معي يدلني الطريق إلى حيث يصعد المتوقل إلى القمَّة. فمشينا زهاء خمس دقائق، فنادى: هؤلاء أصحابك. فرأيت جماعة من الرفاق قعدوا من الإعياء، فعرّفوني أن جماعة خلفهم وآخرين سبقوهم إلى القمّة. شرعت أصعد في درج متمهلاً أقرأ بين الحين والحين على الصخر ما كتبة أحد الرفاق السابقين من كلمات تواسي الصاعد وتحرضه على المثابرة، وبعد نصف ساعة بلغت القمة
على القمة فجوة بين الصخور قال دليلنا الراهب: إنها حيث رأى موسى الملك. وهناك كنيسة صغيرة جميلة على جدرانها صور متقنة تمثل ما يدور حول هذا المكان من ذكريات منها صورة تمثل موسى يتلقى الشريعة من الله تعالى
وفي جانب من القمة مسجد ساذج جدرانه غير مطلية وسقفه غير محكم وأرضه غير مفروشة. قالت نفسي: هذه أمارة على إهمال المسلمين أمورهم، فخطر لي أنه مع هذا أمارة على يسر الإسلام وقربه إلى الفطرة. وبجانب المسجد عند حافة القمة غار صغير يُهبط إليه درجات قليلة فيه أثر نار. يقول العامة: إنه حيث أقام موسى أيام الموعد، وإن هذه النار من آثار ذلك الزمان
وتشرف هذه القمة العالية على جبال وأودية كثيرة، ومناظر بعيدة وقريبة، وتسمو بجسم الإنسان وروحه حتى يكاد يتوهم أنه من طير الجو أو سكان السماء
أقمنا قليلاً ثم شرعنا نهبط وأمامنا الراهب لم يعيَ بالصعود والهبوط على كبر سنة (وكل امرئ جار على ما تعوّدا)
مازلنا نهبط ثم نهبط؛ كلما رأينا وادياً في الجبل قلنا قاربنا الأرض، فإذا بلغناه وجدناه قمة عالية تشرف على مهاوٍ أخرى بعيدة. وتشرف المخارم فوقنا عالية عاتية مهيبة ملساء صمّاء، ونشرف نحن على هُوى سحيقة وأودية بعيدة، دواليك حتى غربت الشمس وطلع القمر متمهلاً فوق الجبل الشرقي كأنما أصابه من الإعياء ما أصابنا. ثم أشرفنا على الدير وقد بلغ منا التعب مبلغه فتحاملنا حتى هبطنا إلى مستوى الدير بعد ساعة ونصف من مفارقة القمة.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام