مجلة الرسالة/العدد 354/العقيدة الساذجة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 354 العقيدة الساذجة [[مؤلف:|]] |
بابر ← |
بتاريخ: 15 - 04 - 1940 |
تلك هي الكثرة الكاثرة من مسلمي اليوم! وربما كان الأشبه بالحق أن نصفها بشر من السذاجة؛ فإن أيلولة الدين في نفوس أهله إلى هذا القدر العامي من العبادة الشكلية، والزهد الكاذب، والتفويض الذليل، والورع المنافق، والتصرف المشرك، هي الفساد بعينه. وماذا بعد أن ترى كتاب الله وسنة رسوله يقرآن لالتماس البركة لا لاكتساب الفقه، ودستورَ الإسلام وفلسفة وحيه يدرسان لمجرد العلم لا لإرادة العمل؟
وماذا بعد أن ترى الأحكام والآداب والأنظمة التي أصلحت الأرض ومدنت الخليقة، تصبح في الجوامع والمجامع رهبنة وشعبذة لا يستقيم عليها فرد ولا تنتظم بها جماعة؟
لقد كان من أثر فساد العقيدة في النفس أن فسدت آثارها في الناس؛
فالفقه في الدين تفيهق وجدل، والصلاح في الدنيا تبطل وفشل، والعبادة
مظاهر آلية لا أثر فيها للروح ولا صلة لها بالقلب، والأخلاق مياسم
وراثية تنطق بالحق على ذلة الماضي وجهالة السلف، والمعاملة
ألاعيب اجتماعية تخادع الله وتزعم لنفسها الرضى والسكينة!
تذكر معنى الزكاة في دين الله ثم قل لي أين منها ما كان يصنع أحد شيوخ الأزهر وقد كان يملك في القاهرة شوارع بما عليها من البُنى عن شمال ويمين؟ لقد حدثوا أنه كان يجعل زكاة ماله كلما حال الحول في قفة؛ ثم يغطي الذهب والفضة بطبقة من الحنطة؛ ثم يأمر فيأتونه بأحد المساكين الذين يتكففون على حاشية الطريق، فإذا أدخل عليه قال له:
(هذه زكاتنا يا رجل آثرناك بها ابتغاء مرضاة الله)
فيدعوا المسكين ويهم بأخذ القفة؛ ولكن الشيخ قارون يريد أن يخفف عنه ويختار له، فيبادره بقوله: (وماذا تصنع بها يا رجل وليس عندك من تطحن وتعجن وتخبز؟ أتبيعني إياها بكذا قرشاًً؟) فيلهج المسكين بالدعاء، ويبالغ في الحمد والثناء، ثم ينصرف بالقروش وتعود مئات الدنانير المروّعة آمنة إلى صدر الخزانة الحنون!
تدبر فكرة الصدقة الجارية في سنة الرسول ثم أخبرني أمنها ذلك البناء المربّع الذي أقامه أحد القضاة المتقين قي وسط شارع حسن الأكبر، ثم أجرى في قلبه الماء، وأوقد على رأسه النور، ووقف على نفقته المال، وجعله مورداً للسابلة فكان مزرعة للجراثيم ومصدمة للناس!
تصور حكمة الإنفاق في سبيل الله على قواعد الدين الذي شُرع ليضمن للفرد السعادة وللأمة السلامة وللبشرية الألفة، ثم تعال أنقل إليك ما روته (الدستور) في يوم الاثنين الماضي عن مراسلها ببغداد:
كان من ضيوف العراق لعامين مضيا الزعيم الشعبي الهندي السردار طاهر زين الدين، وهو من أنداد أغا خان في الزعامة المقدسة والثروة العريضة، فلما زار ضريح الإمام عليّ رضوان الله وسلامه عليه، نشأ في نفسه أن يقيم للخليفة الراشد ضريحاً يكون مضرب الأمثال على تعاقب الأجيال في نفاسة المادة وبراعة الصنعة وضخامة النفقة. ولم يكد يرجع إلى الهند حتى استحضر أمهر الصناع وأقدر الفنانين وتقدم إليهم بما أراد، ووصل أيديهم بكنوزه العجيبة، فصنعوا ضريحاً من الآبنوس سَمْكه إحدى عشرة قدماً وقطره عشرون، ثم زخرفوه بروائع النقش الهندي، وغشوه بخمسة عشر وطلاً من صفائح الذهب وبمثلها من سبائك الفضة حتى بلغت تكاليفه اثنين وأربعين مليون جنيه على ما روى المراسل، أو اثنين وأربعين مليون رُبيّة على ما أرجح!
هل قرأت؟ اثنان وأربعون مليون جنيه كميزانية مصر، أو اثنان وأربعون مليون ربية كميزانية العراق، تنفق في مقصورة تقام على ضريح الإمام الزاهد المجاهد الشهيد علي كرم الله وجهه! فهل تحسب أن هذا المؤمن الساذج قد بلغ بما أنفق مكانة الزلفى من الله وموضع الرضا من إمامه؟ لا والله! إن الله الذي يقترض من عباده القرض الحسن ليضاعفه لهم لا يقبل هذا القرض العقيم، وإن الإمام الذي كان يطوي الأيام ليطعم على حب الله المسكين واليتيم والأسير لا يرضى هذا الإحسان الميت. لو كان هذا الغني الأمي صحيح الفقه في الدين، واسع الأفق في الفكر، بعيد النظر في الإصلاح، لعلم أن عليا كان سيف الإسلام ولسان الدعوة وإمام القضاء، فكان خير ما يتقرب به إليه أن يعطي حكومة العراق هذه الملايين لتنشئ بها أسطولاً جويا في بغداد على حب فاتح خبير، ومعهداً علمياً في الكوفة على ذكر صاحب نهج البلاغة
لذلك وشبهه يكون القرض حسناً والإحسان جميلاً يا سيدي الزعيم. أما أن تصفّح الضريح بالذهب والفضة، وترصعه باللؤلؤ والجوهر - وفي وطن الإمام الفقيرُ الذي لا يجد القوت، والمريض الذي لا ينال الدواء، والجاهل الذي لا يستطيع التعلم، والجندي الذي لا يملك السلاح - فذلك فن من العمل الباطل لا يليق أن يجترح باسم الدين في سبيل إمام أئمته وقطب أبطاله!
لقد قرأت في أنباء اليوم أنهم فضوا وصية المحامي الأمريكي اليهودي صموئيل أونترماير منذ أيام فإذا به يوصي بجزء عظيم من تركته الضخمة لبضع جامعات أمريكية؛ ثم كان نصيب الجامعة العبرية في القدس منها مائة ألف دولار!
فليت شعري متى يعلم هذا الذي ينفق دماء الشهداء على ملاهي القصور، وذلك الذي يبذر أموال الأحياء على شواهد القبور، أن الحياة من غير إحسان موت، وأن الإحسان في غير موضعه إساءة!
احمد حسَن الزيات