مجلة الرسالة/العدد 353/من وحي الحنين
→ تأملات | مجلة الرسالة - العدد 353 من وحي الحنين [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 08 - 04 - 1940 |
آذار. . . حدثني. . .
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
للأستاذ شكري فيصل
آذار. . . يا مُطلِق الحياة من قيود الشتاء. . . وباعث النور في أرجاء الكون. . . حدثني. . . كيف ضمعت إليك (دمشق) بعد هذا الفصل القاتم، وذاك الجو الغائم؛ وتلك الليالي القريرة؟!. . . هل أزحت عنها أثقال السحاب. . . وجبت ظلام الضباب. . . ونشرب الروح في جنباتها الحلوة. . . أم أنها لا تزال بعدُ غارقة في صمت الشتاء، صابرة على أذى الفرّ. . . تنذرها السماء؛ وتهددها العواصف؟!. . .
آذار!. . . أيها المنطلق هنا على حفاحي النيل. . . تستمع إلى أنشودته الصامتة؛ وهمسه الخفيف. . حدثني عن (بردي) هذا النهر الوادع. . . ألا يزال ثائراً مضطرباً. . . يحمل الخوف، وينشر الذعر، ويبث الاضطراب، ويفيض على أطرافه وجنباته كأنما ملّ مظاهر الجور ومهازل الحياة. . . أم أنه عاد سيرته الأولى. . . يحمل الأمان إلى النفوس، ويشع الحياة في المهج؛ وتصطفق أمواجه الفانيات وتنصت إليه أفئدة وقلوب. . . لتسمع أغنيته الخالدة، ولحنه البارع. . . وتنتشر على ضفتيه طوائف الناس تنعم بهذا الرحيق السلسل، وهذا الصفاء الجميل. . . وتقرأ في صفحاته آيات المجد الذي انبثق مع (الغساسنة) وترعرع في جنبات قصورهم الناعمة؛ وتكامل في عهد (أميَّة) وفي ظلال سلطانهم الواسع. . . ثم غاب حيناً من الدهر. . . فبكاه هذا النهر. . . بدموعه وعبراته. . . حتى إذا ولد من جديد في تاج (فيصل) وملك (فيصل). . . وفتح عينيه للنور، ومدَّ ذراعيه يريد أن يحبو. . . انتزعه الدهر؛ في ليلة سوداء كالحة، ورمى به في صحراء اليأس المجدب. . .
آذار!. . . أيها المرح هنا في ربوع (الأرمان)؛ وملاعب الجزيرة، وحدائق النيل. . . حدثني. . . هلا حملت المرح إلى وطني الآخر. . .؟ هلا زرعت البسمات على الشفاه. . . ودفعت الدم في العروق، وأحييت موات الأمل في القلوب. . . .؟ أم أن القوم في شغل عنك. . . يقارعون الدهر العصيب، ويجالدون الزمن الغادر، ويدارون الأحمق السفيه؟ آذار. . . أيها الضاحك هنا على شفاه الأزاهير الفوّاحة. . . حدثني. . . عن أزاهير دمشق. . . هل تفتحت عنها براعهما بعد هجعة طويلة ثقيلة. . . وهل نشطت الحياة في هاته الشجيرات الفتية القائمة في وسط الحدائق كأنها زمرة غانيات في موكب زفاف. . . ترقص مع خطرات النسيم، وتهتز مع أنداء الفجر، وتصفق كلما ذهب بها الهواء هنا وهناك؟. . . وهل استفاقت هذه الجنات الفيح يا آذار. . . فنثرت الزهر، ونشرت العطر، وطبعت على وجه الدنيا قبلتها الضاحكة. . . كأنها تنفخ فيها روحاً من النشاط؟
والغوطة. . . هل اكتست الغوطة ذاك الثوب الزاهي يا آذار! بعد عرى طويل. . . فنبت في أرضها العشب الأخضر. . . ريّان نديَّاً. . . ينفح الفتوة، ويمور بالحياة، ويستقبل الشمس مع الصباح بقطرات من الندى المبعثر. . . البراق كالماس. . . ويودعها مع المساء وهو يقبلها كأنه يتمنى ألا تزول عنه. . . ثم يبكي فراقها في الليل بدموعه الصافية اللألاءة؟!. . .
. . . والزهر المتشقق على مبسم الغصن يا آذار!. . . هل رقت أوراقه الملونة لنجوى المحبين، وآهات الشاكين، وقلوب المتيمين؟ وهل خرج الناس يشهدون هذا السحر الحلال، وهذه الروعة الضاحكة. . . وينعمون بهذه الأجواء المعطرة، والدنيا المتأنقة، وينشقون في هوائها الأرج والعبير، ويطوفون بها كما يطوفون في جنات الخلد. . . ويقرءون آيات الله البارعات في الغصن المائس والفروع المهتزة، والماء الذي يخرج به نبات مختلف ألوانه؟!
. . . . ومواكب الزهر يا آذار!. . . هل شهدت (دمشق) هذا العام مواكب الزهر؟. . . وهل ضحكت هذه الدنيا الصابرة لصروف الزمان وعبث الدهر. . . وهل صافحت عيناها من جديد. . . هؤلاء الفتيان الذين يذهبون هنا وهناك. . . مع شعاعات الفجر الأولى، يستقبلون الصباح، ويرتعون في الحقول، ويمرحون في الجنان، وينتقلون. . . كالفراشات الطائرة. . . من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن. . ويصفقون مع أمواه النهر، وينتشون من هذا السحر؛ ويقضون يومهم لله ولأنفسهم. . . ثم يعودون. . . وفي أيديهم هذه الحمالات من الورد؛ وهذه الباقات من الزهر؛ ينشرون عبيرها في رحاب المدينة وأحيائها. . . في صدورهم البشر، وفي وجوههم المرح؛ وعلى ألسنتهم نشيد الوطن الغالي؟!. . .
والريف البعيد يا آذار!. . . هل انتفض من نومه العميق. . . وهل فتح أهلوه أبواب دورهم بعد أن سدتها الثلوج، فحالت بينهم وبين الخروج. . . فظلوا في حصار الطبيعة شهراً أو بعض الشهر لا يغادرون هذه المدافئ المبنية في زاوية من زوايا الغرفة. . . وهل بدءوا حياة الربيع الوادع. . . يتفقدون زرعهم الذي دفنوه في الأرض، ووكلوه إلى الله، وانتظروا موسم حصاده؟!
وهل خرج أطفالهم يتسابقون في طرق القرية، ويتسلقون قمم الجبل؛ ليظفروا بالثلوج المتجمدة. . . يتراشقون بها، ويتزحلقون عليها، على طريقتهم الساذجة الأولية؟!. . .
. . . وفتيات القرى يا آذار!. . . هل انتصبت قاماتهن؛ بعد أن حناها الشتاء؛ في طريقهن إلى ماء القرية، يستقين منه، وقد علتهن الجرار، ولثمت خدودهن هذه النسمات العليلة؛ وعبثت بخمرهن؛ فحركتها ذات اليمين وذات الشمال. . . واجتمعن حول الورد ينشدن في همس خفيف، وتمتمة ناعمة، ويتحدثن حديث القرية وضيوفها ومواسمها وأعراسها. . .؟. . .
وحديث الجبال يا آذار!. . . هل اتشحت بوشاحها الأخضر الزاهي؛ وهل نبتت فوق تربتها هذه الحشائش القصيرة، على أنقاض الثلوج، وبقايا السيول. . . وهل خرجت القطعان تسرح في شعاب هذه الجبال؛ وفي صعابها؟. . . وهل سمعت يا آذار. . . أصوات أجراسها حين تتضيَّف الشمس إلى الغروب. . . وتنسحب غلائلها على صفحة الأفق الوردية. . . وتتراءى صفحة السماء رائعة جميلة. . . وتظهر الشمس كدائرة من النار الملتهبة، تغطس في بحر الظلام فيخمد لهبها ويطفأ نورها، وتمَّحى شعاعاتها من السماء. . . فتبكيها هذه القطعان. . . بأصوات أجراسها الحزينة؛ وتلتفت لتعود إلى القرية. . . في جنح الليل، وستار الظلام. . . والرعاة، يا آذار. . . هؤلاء الذي شرفهم الله، فجعل منهم الأنبياء. . . هل تسلقوا الجبل مع قطعانهم، وحملوا مزاميرهم في أيديهم، ووقعوا عليها نشيد الحياة الهادئة التي تتعالى عن الأرض، فلا تعرف المكر والغل. . وتتقرب من السماء، فلا تعرف إلا الإيمان والنور والحق. . . وهل أنصت إلى نغماتهم الحلوة يا آذار التي يرسلونها في هذه الوحدة كأنها وحي السماء، ونغمة الكون المتسقة، فتنتقل أصداؤها في الجبال مع خفقات الريح. . . ويلقنها الطير ليذهب يرتلها على الناس في الوديان والحقول والبساتين. . .
. . . حبذا يا آذار. . . حبذا لو استطعت أن تحملني على جناحين رفيقين من نسماتك اللطاف. . . إلى مجالي الأنس، وربوع الحياة إلى مطارح الصبا وملاعب الفتوة. . . أطفئ هذا الحنين الذي يأكل كبدي، وأقنع هذا الشوق الذي يضطرم في صدري. . . برشفات من بردي. . . ونسمات من (قاسيون)
حبذا يا آذار. . . حبذا. . .
(القاهرة)
شكري فيصل