مجلة الرسالة/العدد 353/رسالة الفن
→ الأدب في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 353 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 08 - 04 - 1940 |
تأملات في الفن
في معرض مختار
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كان الزوار جميعاً في ركن ملتفين حول هدى هانم شعراوي، وسيدتان مفردتان في ركن آخر تحومان حول التماثيل، إحداهما من أصحاب المعرض تشرح للأخرى الزائرة، فعرجت إليهما ووقفت على مقربة منهما أدعى أني أنظر في تمثال، بينما أنا أتسمع إلى ما تقولان، لأرى كيف تتحدث السيدات عن التماثيل. . .
ووقفنا أمام تمثال (المنجد). . . الزائرة تنظر إليه في حيرة كأنها تخاف أن تظهر الإعجاب به، بينما يكون هو مما لا يستحق الإعجاب، وتخاف أن تزدريه، بينما يكون هو من روائع المعرض فوقفت الزائرة ساكتة كأنها مستغرقة في تأمل التمثال، وكأنها ممن لا يتسرعن إلى إصدار الحكم على الأشياء لغرام عندها بالتحقيق والتدقيق، وتقليب أوجه النظر، واستقصاء المحاسن والعيوب، كيلاً يكون حكمها آخر الأمر إلا الحكم الفصل الذي لا يقبل النقض
ورأت صاحبتها أنها لو انتظرتها، حتى تقول كلمة في المنجد أو تعبره من غير كلام، فإنها قد تقضي الدهر واقفة مع زائرها وهي تمثال آدمي لطيف أنيق (أريستكرات)، ينظر إلى تمثال من حجر متواضع ديمقراط. . . فقطعت صاحبة المعرض هذه السكتة الباردة وقالت:
- مدهش التمثال. . .
. . . فبلعت الزائرة ريقها لأنها سمعت كلمة خرجت من فم صاحبتها وفي نبراتها معنى التأكيد فأدركت أن هذه الكلمة حكم على التمثال، ولكنها لم تلبث حتى زاغت روحها مرة أخرى كأنها لم تفهم ما إذا كانت كلمة (مدهش) هذه مدحاً للتمثال أو ذماً، وكادت روحها تتكاسل وتقنع بهذا الزيغ فتظل في التيه الذي انتقلت إليه حتى تستدرجها صاحبتها إلى عالمنا هذا بكلمة أخرى. . . غير أن الله ألهمها أن كلمة (مدهش) هذه قد مرت بها قبل ذلك فقلبت عينها في محجريها فاستدارتا فبان بياضهما وحده، واتجه إنساناهما إلى داخله يفتشان في أعصابها وحنايا نفسها عن كلمة (مدهش) هذه ما معناها. . . وأخيراً اهتدت، وظهر عليها أنها ذكرت، وأغلب الظن أنها ذكرتها بمجلة من المجلات العصرية التي تكتب أنباء الطبقة الراقية فقد خدمت هذه المجلات اللغة العربية إذ حملت بعض كلماتها إلى أهل الطبقة الراقية هؤلاء. . فلها الشكر. . .
وكأن صاحبة المعرض أدركت أن زائرتها قد فهمت أخيراً أن هذا التمثال مدهش، ولكنها إلى جانب هذا أدركت أن هذه الزائرة الصغيرة، لا تزال تريد أن تعرف لماذا كان هذا التمثال مدهشاً، فأسرعت وقالت:
- إنه مدهش لأنه ولأنه حلو. . .
. . . وكانت صاحبة المعرض تستطيع أن تقول (بسيط) و (جميل) ولكنها خشيت ألا تفهم الزائرة من كلامها شيئاً، وهي زائرة عليها مظاهر اليسار، وأمثالها وحدهن هن اللواتي يشترين التماثيل ليضعنها في الصالونات لتكون موضوعاً لحديث الزائرين والزائرات ومجال الإشارة إليهن والتنويه بهن في الصحف والمجلات. . .
وانتقلت الزائرة من أمام تمثال المنجد إلى أمام تمثال بائع العرقسوس وهو تمثال كبير في الحجم الطبيعي وقد صنعه صاحبه من الورق المقوى صناعة اهتم فيها بمظهر التمثال وملابسه وأدواته اهتماماً كبيراً
ورأت الزائرة ألوان التمثال فانبهرت، وكأنها قالت في نفسها لابد أن يكون هذا التمثال هو بطل المعرض فليس غيره تمثال مزوق منمق لابس ملابسه كلها، وليس ينقصه إلا أن يمشي في المعرض يبيع للناس مما يبيع. . . وهنا تفتفت في رأس الزائرة مسألة جديدة هي هذا الذي يبيعه الرجل. . . الورقة مكتوب عليها بائع العرقسوس، ولكن ما هو العرقسوس؟. . . بنات الطبقة الراقية لا يعرفن العرقسوس!. . . فسألت صاحبتها:
- دي جيلاتي. . .؟!
وصدمني هذا السؤال فضحكت، وشعرت الزائرة بأني أضحك ساخراً منها فاصطنعت السعال وأرادت صاحبة المعرض أن تنقذ زائرتها فرطنت إليها بالفرنسية كلاماً قد يكون معناه: لا تعبئي بهؤلاء الشعب. وأدركت أني إذا وقفت بعد ذلك على مقربة منها أو تبعتها فإني سأفسد الشغل على المعرض وأصحابه، وأنا من أول الأمر لا فائدة مني للمعرض ولا نفع فلا أقل من أن أكون غير ذي ضرر. . فانتحيت جانباً أفيض حسرة على متابعة هذا الحديث الشهي الدائر بين هاتين السيدتين. . . أريد أن أسمعه إلى آخره وأن أعتصر كل ما في أسئلة الزائر من بله، وأن أستمتع بكل افي أجوبة صاحبتها من صبر وسخرية. . .
ولكني ابتعدت مجاملاً، وعدت إلى تمثال المنجد عساني أرى فيه شيئاً أكثر مما أشارت صاحبة المعرض لزائرتها. . .
التمثال يمثل شاباً مصرياً منجداً في جلباب قاهري لعله كان من (الزفير) أو (العبك)، وهو جالس على الأرض جلسة المنجدين وفي يده القوي يضرب به القطن. . . وقد كتب عليه أنه من صنع الآنسة جلاديس بولاد وأنه نال الجائزة الأولى
التمثال كله مصنوع بمهارة وحذق ولباقة ورقة، وهو منسجم مستريح سليم لا عيب فيه إلا شيء واحد فقط. . . ذلك أنه إذا أقسم لي أهل الأرض وأهل المريخ بأن الآنسة جلاديس قد نقلت هذا التمثال عن شاب منجد حقاً فإني أصر على رفض هذا القسم ممتنعاً على الاقتناع به. وإنما وجه هذا التمثال منقول عن وجه شاب يخيل أليّ أنه من بيئة مهذبة تهذيباً عالياً، ما يخيل إلى أنه نفسه من المفكرين الذين لا يفتأون يحاسبون أنفسهم ليلاً ونهاراً ويتأملون في كل ما يسنح ويعرض لهم من البوادي والظواهر، كما أني أرى فيه ما هو أعمق من هذا وأشد انطباعاً في نفسه، ذلك أنه لابد أن يكون ذلك الشاب الذي نقل عنه هذا التمثال عاشقاً مدلهاً معذباً أنكسر قلبه من الحب وهو يمسك بعقله خشية أن ينكسر هو أيضاً. . .
كل هذا ظاهر في ملامح الوجه الذي ربط على جسم هذا المنجد، فإما أن يكون هذا التمثال منقولاً عن شاب لا صلة له بالقوس ولا بالقطن، وإما أن يكون هذا المنجد من قراء الدكتور غالي الذين يدوخون في تفهم النسبية والإلكترونات وما إلى ذلك من المصاعب، على أن يكون هذا القطن الذي (ينجده) قطن معشوقته التي ستزف إلى منافسه في الغرام. . .
وعلى وجه غير هذين الوجهين لا أستطيع أن أفهم هذا التمثال ولا أن أستسيغه، فأيهما كان هذا الشاب صاحب هذا التمثال؟ على أي حال إن هذا أمر لا يعنينا وإنما يكفينا أن نلمح هذا اللون أو ذاك من الحياة في التمثال، فليس لنا عند الفنان أكثر من أن يسقينا شهده، وليس لنا عليه أن يكون هذا الشهد ما نعرف أو مما سبق لنا أن ذقناه. . .
إنه (منجد) رأته هكذا الآنسة جلاديس بولاد. . . ولها أن تفخر بأنها رأت شيئاً وبأنها تحس وتدرك ثم تعبر عما تقف أمامه زائرة كالتي رأيناها لا تعرف الفرق بين بائع الجيلاتي وبائع العرقسوس. . .
انتهيت من هذا (المنجد) ونظرت يمنة ويسرة فلفتني تمثال لغجرية تبين (زينا) لامرأتين قرويتين استند إلى كتف إحداهما طفل. . . كنت على بعد خطوات من التمثال أراه ولا أرى تفاصيله وملامح وجوهه، فجذبني إليه (موضوعه) واقتربت منه أبحث عن فعل لفنان فيه، فالغجرية امرأة لها عقل أبرع من بقية العقول، ولها نظرات أنفذ من بقية النظرات، ولها إشارات أكثر امتلاء بالمعاني من بقية الإشارات، والنسوة اللواتي يجلسن إلى الغجرية يستفتينها في شؤونهن لسن هادئات ولا نائمات، وإنما تثور في نفوسهن رغبات، وتصطرع فيها آمال، وتتخبط فيها نزوات ولواعج، والصبي الذي يستند إلى كتف أمه ويقف يسمع الغجرية تحدثها لا يمكن أن يخلو من الفضول وحب الاستطلاع، ولا بد أن يظهر في وجهه تفرس يتتبع به هذا الكلام العجيب الذي يسمعه والذي يحسه لا يشبه غيره من الكلام. . .
دنوت من التمثال لأرى فيه هذا كله فماذا رأيت؟
رأيت الغجرية نائمة والمرأتين ناعستين والصبي المستند إلى كتف أمه شارد الروح. . . بل إن شارد الروح يدل على نفسه، فيعرف الناظر إليه أنه قد سرح إلى دنيا غير هذه الدنيا، فهو موجود فيها، وإن كان مفقوداً في دنيانا. . . أما هذا الطفل، فقد ظهر عليه أنه ابتلع روحه، فهي في بطنه محبوسة لا تكسوه حياة الأرض ولا تنتقل به إلى حياة أخرى. . .
كان هؤلاء الجماعة أشبه الجماعات بتلاميذ المدارس في لحصة الخامسة بعد أكله العدس. . . متهافتين إلى النوم، متبلدين عن الفهم، ولم يكن فيهم ما يكون في غجرية وجماعة مصغين إليها. . . فكسف دخل هذا التمثال هذا المعرض؟ وأي شيء فيه أغرى المعرض بعرضه؟. . . هذا ما يعلمه الله وما يعلمه أولئك الذين يقولون: إنهم يشجعون الفنانين الناشئين. والذين أريد أن أقول لهم: إن تشجيع الفنانين الناشئين لا يصح أن يكون على حساب الفن، ولا يصح أن يتعدى حدود التشجيع إلى أن يكون تحريضاً على الفن، وإكراهاً له أن يخضع ويذل لمن لا يكرمه ويفسح له روحه ونفسه. وهذه كلمة شديدة لا أريد منها إلا أن تحفز صاحب الغجرية على أن يمعن في التأمل إذا تأمل وأن يثابر في تجويد التعبير إذا أقبل على تمثال جديد، فإذا لم يجد في نفسه القدرة على ذلك استرزق الله عملاً آخر غير الفن. . .
وبدأ الزحام الذي كان محيطاً بهدى هانم شعراوي في الركن البعيد ينحل قليلاً قليلاً، فقصدت إلى ذلك الركن فكان أول ما استرعى نظري فيه تمثال آخر صغير لبائع العرقسوس حسبته أول ما رأيته أنه من صنع آنسة أو سيدة لما رأيت فيه من حنان وإعجاب ذاعا في تكوينه ونحته، وتفصيل جوارحه تفصيلاً لا يمكن إلا أن يكون استجابة لطرب كانت ترقص به اليدان اللتان نحتتا هذا الجسم الفارع المشرق الأنيق. حسبت هذا ولكنني علمت أنه من صنع شاب هو سيد زيدان، فهنأته به ولم أكتم عنه ما خطر لي فابتسم في استحياء كمن لم يكن يحب أن يقال له كلام كهذا، ولكني هونت عليه بأنه لا حرج على الفنان الرجل أن يعجبه جمال الرجال. . . وإني أعتقد أنه لو كان زيدان قد اهتم بوجه تمثاله هذا على نحو ما لكان قد عرض إلى جانب هذا الجسم الحلو وجهاً فيه شيء ما نذكره له إلى ما ذكرناه من جمال البدن في تمثاله، ولكنه استغرق في الذراعين والساقين والكتفين، وغير ذلك واكتفى بذلك. . .
واكتفيت أنا أيضاً وهممت أن أنصرف، لولا أني رأيت عبد السلام الشريف ينطلق إلى تمثال (عازف الربابة) ليقرأ اسم صاحبه فقرأت الاسم معه وسألته رأيه في التمثال وصاحبه فقال: التمثال بديع وصاحبه أحمد صدقي مثال محسن
وعبد السلام الشريف فنان في الصف الأول من الفنانين المصريين، له أسلوب في الرسم والزخرفة لم يسبقه إليه إنسان، وقد أحدث القارئ عنه في فرصة قريبة، وفنان هذا شأنه لا بد أن يكون لشهادته قيمتها. والحق أن تمثال العازف على الربابة تمثال بديع ولو أنه لم ينل جائزة، وميزته أنه منحوت على المنهج الفرعوني وفق الطريقة التي أحياها المرحوم مختار، ومع هذا فإن صاحبه احتفظ (بقاهريته) في وجه التمثال فلم ينحته عن واحد من أبناء الصعيد أو أبناء الريف، وإنما صوره وجهاً قاهرياً فيه تأنق القاهريين، ولطربوشه ميلان التأنق الذي يصطنعه أبناء القاهرة، ولشاربيه انتظام شواربهم وإحسان تنظيمها
ولا ريب أن هذا التمثال كان أحق بالجائزة من التمثال الذي نال الجائزة الثانية، ولكنهم قالوا لي: إنهم منحوا الجائزة الثانية لآنسة متعمدين كي يشجعوا الجنس اللطيف على غزو ميدان الفن
وأنا منذ اليوم أنذرهم بان ليس في الجنس اللطيف هذا أمل كبير في الحصول على فن من صنع يديه، فعليهم في المسابقات المقبلة أن يراعوا الحق فذلك خير.
عزيز أحمد فهمي