الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 352/فقهاء بيزنطة

مجلة الرسالة/العدد 352/فقهاء بيزنطة

مجلة الرسالة - العدد 352
فقهاء بيزنطة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 04 - 1940


فقهاء بيزنطة هم الذين كانوا يجادلون في البيضة والدجاجة: أهذي أصل تلك، أم تلك أصل هذى، بينما كان محمد الفاتح يرسل الصواعق دراكاً على أسوار القسطنطينية، فلا يخرجهم من شدة الخلاف وحدة الجدل ما فوقهم من حمم المنايا، ولا ما حولهم من صرخات الفزع!

وفقهاء بيزنطة هم الذين يجادلون اليوم في محراب المسجد بعد ألف ومائتي عام: أهو سنة فيبقى، أم هو بدعة فيزول؛ وفي محمل شجرة الدر: أهو موافق للشرع فيسير، أم هو مخالف له فيقف! يجادلون في هذا وفي ذاك بين أعمدة الجرائد والمساجد، ويسرفون في الجدال حتى يتشعب الخلاف ويتمادى، ويتقسم الرأي ويتعادى، فيكون لكل شيخ شيعة، ولكل شيعة عصبية جاهلة تمزق ما وصل الدين به القلوب من وشائج الإخاء والمودة

نعم يجادل فقهاء بيزنطة اليوم في المحراب والمحمل، ومن قبل كانوا يجادلون في زر العمامة أيبتر أم يضفي، وفي شعر الذقن أيحفى أم يعفى، وفي قبر الميت أيسوى بالأرض أم يقام؛ حتى أدخلوا في روع العامة من طول ما شغلوهم بهذه الصغائر أن الدين هو هذا وليس غير هذا. فلو تسنى لك أن تكشف عن عقيدة الإسلام في ذهن العامي أو شبهه لما رأيت إلا صورة مشوهة من رسوم العبادات وأوضاع العادات وألوان الأدعية. أما الإسلام الذي وضع الدساتير الخالدة لسعادة الفرد والأسرة والأمة والإنسانية في كل زمان وفي كل مكان، فذلك معنى لم يجر في شعوره ولم يدخل في علمه. والعوام وأشباه العوام هم جملة الأمة الإسلامية اليوم، فما تسمعه من هذا تسمعه من ذاك، وما تراه هنا لابد أن تراه هناك. وعلة هذه الجهالة الفاشية هي طريقة أهل الدين في تعلمه وتعليمه ونشره، فهم يقفون في تحقيقه عند النقل، ويقتصرون في تطبيقه على الشكل، ويكتفون في نشره بهذه المظاهر الصوفية الباطلة؛ فكان من جرائر ذلك عليهم أن قصرت مداركهم عن مداه، وبان على القدر الذي شدوه منه الضيق والضحل والجمود، ووهم الناس أن ما عندهم هو الدين كله فزهدوا فيه ونفروا منه.

إي والله تزال فقهاء بيزنطة يفرقون بين الناس بصدعات الرأي والهوى في المحراب والمحمل، وفيما هو أدنى عن المحراب والمحمل، وهم يعلمون أن الأديان البشرية التي وضعها الطغاة تحدياً لله وتهجماً على دينه، تحاول بقوة الجيش وحجة المدفع ودعاية المذياع أن تخفت ذكر الله في كل أرض، وتطفئ نوره في كل سماء. وهذه المذ الأرضية إنما تجادل خصومها فيما تزعمه لنفسها من قتل البؤس ومحو الفروق ونشر العدالة، لا فيما تتخذه بشعائرها من بنىً، أو تبتدعه لمظاهرها من شكول

ثم جعلوا غاية الدين أن يتزيوا بالورع، ويتفقهوا في علومه بتشقيق الجمل وتوليد الألفاظ وتعديد الفروض، فإذا زادوا على ذلك شيئاً فهو الوعظ الذي يميت الطموح ويخمد العزيمة ويحقر الدنيا ويهيئ النفوس المثقفة التي أعوزها النور الهادي والصوت المهيب لأن تصغي لما يتقوله المبشرون على الإسلام من الأباطيل ويزورونه عليه من الشبه.

ليس من البر بالدين يا ورثة الأنبياء أن تخذلوا دعوة الله لتنصروا دعوة الإنسان

إن الدعوات السياسية التي تتخذ شعار الإصلاح، أو تلبس مسوح الدين، تسلك إلى النفوس المؤمنة المطمئنة سبل الغرور والغي في غفوة من العقل أو سورة من الجهالة، فتزعزع إيمانها بالشكوك، وتذهب اطمئنانها بالفتن. فماذا أعددتم لحماية هذه النفوس الغريرة الغضة من وساوس الفتنة وهواجس الجهل؟ إنني ألقي هؤلاء النشء في كل يوم، وأحدثهم في كل لقية، وأكشفهم في كل حديث، فلا أجد عندهم من الإسلام إلا ما كان عند نصارى القرون الوسطى منه؛ ثم لا تسمع منهم إلا غماغم من الألفاظ المنكورة المكرورة عن الزواج والطلاق وحرية الفكر ومجافاة التمدن. فإذا أخذت تقرر لهؤلاء كيف كان الإسلام بتوحيده بين الدين والدنيا علاجاً لأدواء المجتمع ونظاماً لفوضى الطبيعة، وتدلل على أن ميزة الإسلام التي تفرد بها هي أنه يساير التطور ويطاول الزمن، فلا يمكن أن تكون فيه مناقضة للمدنية الصحيحة ولا معارضة للتقدم الحق، سألوك دهشين: وأين نجد بيان هذا؟

والمعضلة التي لم نجد لها إلى اليوم حلاً هو إجابتهم عن هذا السؤال: وأين نجد بيان هذا؟ الواقع الذي يكسف البصر ويرمض الفؤاد أنك لا تجد في مكتبة الدين الإسلامي على ضخامتها وسعتها كتاباً واحداً يشرح للناس عبقرية هذا الدين وفلسفة تشريعه ووجوب إصلاحه وأسباب خلوده، على ضوء العلم الكاشف ونظام التأليف الحديث. وما أظن ديناً من الأديان قد نكب في نفسه وفي أهله بمثل هذه النكبة!

فلو أن الله وفق (جماعة كبار العلماء) فألفوا هذا الكتاب بدلاً من تأليفهم في (المياه التي يجوز بها التطهير) مثلاً لدفعوا عن أنفسهم معرة الجود وعن دينهم نقيصة التخلف.

ولكن كبار العلماء لم يدخلوا هذه (الهيئة) إلا ليعظم القدر ويضخم المرتب، فكيف نجشمهم أن يبطلوا كيد المبشرين بوضع هذا الكتاب، أو يفصلوا بين المجادلين المتقاتلين في المحمل والمحراب؟

أحمد حسن الزيات