مجلة الرسالة/العدد 351/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 351 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1940 |
تضارب في الرأي يؤدي إلى كشف خطير
للدكتور محمد محمود غالي
الفكرة الموجية والفكرة الحديثة - لماذا تمذهب العلماء بالفكرة
الحديثة أو الموجية - ظاهرة التداخل الضوئي والاستقطاب
فيم كان التضارب؟ وفي أي المناحي ظهرت أزمة علمية؟ لقد كان في أهم مرحلة من المراحل العلمية التي تتصل بفهمنا للكون ورؤيتنا له، للقارئ بيان ذلك
حاولنا أن نرجع الكون في مجموعه إلى ظواهر أربع: الكهرباء والمادة والإشعاع والطاقة. وحاولنا أن نرجع كل هذه الظواهر إلى ست وحدات أصلية، وذكرنا أن ظاهرة الإشعاع ترجع إلى ذرة ضوئية يسمونها الفوتون، والواقع أن ظاهرة الإشعاع تتكون من الفوتون ومن موجة مستصحبة له، وذكرنا أن هذه الذرة الضوئية تسافر بسرعة عظيمة تبلغ حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية. ولا نتوسع اليوم مع القارئ في شرح الطرق التجريبية المختلفة التي توصل بها العلماء لقياس سرعة الفوتون الذي لا يمكن أن نعثر عليه إلا وهو في حالة حركة سريعة بالنسبة للمادة، ولكنا نستعرض مناحي التفكير في فهم الظاهرة الضوئية، والوسط الذي ينتقل فيه الضوء، والكيفية التي تصور بها الباحثون هذا الوسط الذي يتصل في أساسه بالكون وبالوجود والحالة التي اضطر لها العلماء في تعديل تصورهم والاتجاهات العلمية التي تناولت هذا التعديل، وبهذا نستعرض موضوعاً تضاربت فيه الآراء، وأزمة كانت من أشد الأزمات العلمية، أزمة لم تنته إلا بتطور علمي جديد، عدل تصوراتنا عن الكون وهذب طريقتنا لمعرفته
ولا عجب في ظاهرة ترجع في تكوينها وفي معرفتنا لها إلى ظروف معقدة يجعل بنا أن نذكرها، فالضوء الذي ترسله إلينا الشمس مثلاً أو المصباح يصل لنا في الحيز من أجسام مادية، لا نعرف على وجه التدقيق ما حدث فيها من عمليات يصل أثرها إلى حاسة من أهم حواسنا هي البصر نعرف به صور الأشياء بالمظهر ذاته الذي يراه كل من وهب هذه العيون كذلك عندما يتلقن الطفل أن هذا اللون هو اللون الأحمر وذاك هو الأخضر، فإنه بعد المران يعرف دائماً الأحمر من الأخضر، ولا يحدث خلاف بين بني الإنسان في تمييز لون معين من بين الألوان، فثمة اتفاق عام على أن هذا أحمر وذاك أخضر، تلك مسألة نقررها بتجاربنا اليومية، ولكنها تجارب بدائية تقف في حد ذاتها عن الكشف عن طبيعة الظاهرة التي تجعلنا جميعاً نتفق في هذا التعيين
وقد يكون غريباً على القارئ أن نقول له إن الضوء عملية موجية، وإن اللون يترجم عدداً من الذبذبات في الزمن، وإنه إنما يميز الأحمر من الأخضر، لأن ثمة عدداً من الذبذبات في الثانية أثرت على العين ليرى اللون الأحمر. وثمة عدد آخر من الذبذبات يختلف عن العدد الأول وصل إلى العين ليرى اللون الأخضر، ذلك أن القارئ لا يرى هذه الذبذبات، وليس في تجاربه اليومية ما يؤيدها، ولكنا نطالبه أن يتبعنا قليلاً ليرى معنا ماذا تكنه هذه الظاهرة العجيبة التي عرف عندها الأشياء بصورها واستوعب الألوان بحالتها
أول معارفنا عن الضوء ترجع لملاحظة الظواهر العادية التي تتصل بما يسمونه الضوء الهندسي يبين مسيرات الأشعة الضوئية. كلنا يعرف أن الضوء يسير في خط مستقيم ما دامت المادة التي يسير فيها لا تتغير، ويعرف أن الأشعة تنكسر عند انتقالها من مادة إلى أخرى، وما السراب إلا ظاهرة حادثة من انكسار الضوء في الهواء الذي يتكون منه في الواقع طبقات تختلف كثافتها لاختلاف درجة حرارتها وقد عرف نيوتن ظاهرة انكسار الضوء في الزجاج، ودرس من ذلك ظاهرة تحليل الضوء الأبيض إلى الألوان المعروفة، وبذلك عرف أ، الضوء الأبيض الذي يصلنا من الشمس خليط من أشعة مختلفة ألوانها وقد أثبت ذلك بأن جعل الضوء يمر في منشور زجاجي فيتحلل إلى الألوان المعروفة: الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والأرجواني، والبنفسجي، وهي ظاهرة الطيف التي نشاهدها أيضاً في قوس قزح حيث تلعب كرات الماء المنتشرة في الفضاء دور المنشور فيتحلل الضوء عند اختراقها إلى ألوانه السبعة
ويرى القارئ في الشكل (1) تحليل الضوء بواسطة المنشور، ويرى المنطقة التي يكون فيها اللون الأحمر واللون البنفسجي، كما يرى المنطقة التي تكون فيها الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية ولو أننا وضعنا - كما فعل نيوتن - أمام الأشعة المبعثرة عدسة فإن هذه الأشعة تتجمع مرة أخرى بعد خروجها من العدسة وتكون الضوء الأبيض من جديد
ولقد كان الانكسار في الضوء الأساس في اختراع كل الأجهزة الضوئية: كالمنظار الفلكي (التلسكوب) والمجهر (الميكروسكوب) والجهاز الفوتوغرافي. بهذه الأجهزة جال الإنسان بنظره وفكره من العوالم البعيدة إلى الدقائق التي لا تراها العين، واستطاع أن يحتفظ بصورة الأشياء والحوادث، اجتماعية كانت أم علمية؛ وهكذا بتعديل في شكل الزجاج خرجت صناعة هامة هي صناعة العدسات، واقترنت هذه بأعمال الإنسان حتى بات فريق كبير يحملها على العيون ليرى للعالم صورة أوضح من التي تسمح له بها حواسه، وكان ذلك امتداداً عجيباً لوظيفة العين البشرية، امتداداً لحياتنا البيولوجية
لم تكن هذه الظواهر: من مسار الضوء في خط مستقيم، وانكساره عند اختراقه المواد، وتحليله إلى ألوان مختلفة - بكافية لنتعرف حقيقة الضوء؛ وكان على الباحثين لمعرفة ذلك أن يدرسوا خواصه دراسة وافية، وهذا ما عكف عليه العلماء الذين ذهب التفكير بهم إلى افتراض احتمالين:
الأول أن يكون الضوء مكوناً من جسيمات صلبة مقذوفة في الحيز
والثاني أن يكون الضوء حادثة وقعت على جسيمات أخرى مادية، وليس هو الجسيمات بذاتها، وفي الحالة الثانية يكون الكون بأسره مملوءاً بهذه المادة التي سموها الأثير وهذه المادة لا نراها بالذات إنما نرى ما يحدث فيها من تعديل أو تموجات، وظل الرأيان يتناوبان المكان الأول عند العلماء الذين اعتقدوا أولاً في الفكرة الشيئية (أي الجسيمية) ثم اعتقدوا ثانياً في الفكرة الحدثية (أي الموجية)، ولأسباب سنذكرها هنا انتصرت الفكرة الأخيرة عهداً طويلاً، وظلت النظرية الصحيحة إلى أن حولت النظريات الحديثة ونظرية الكم مرة أخرى العقائد نحو الفكرة الأولى
أما النظرية الشيئية فقد أسسها نيوتن أن الضوء مكون من جسيمات صلبة صغيرة مقذوفة في خط مستقيم في الفضاء، وكان لما يتكون من ظل لأي جسم موضوع أمام منبع ضوئي دليل عند نيوتن على ما احتجزه الجسم من هذه الكرات التي حال الجسم دون مرورها
أما النظرية الحديثة، فقد أسسها الرياضي الهولاندي ويجانز في المبدأ على اعتبارات نظرية وحسابات قام بها هذا العالم، وكان لابد من أسباب علمية هامة لكي يهجر العلماء نظرية نيوتن الجسيمية ما لمؤسسها من مكانة ليتمذهبوا بالمذهب الجديد.
على أننا نلخص المهم من هذه الأسباب التي خرج بها علينا العلم التجريبي:
السبب الأول كان في ظاهرة يسمونها (التداخل الضوئي) والسبب الثاني كان في ظاهرة يسمونها الاستقطاب وللقارئ نوجز الظاهرتين:
عندما يقع شعاع على جسم يضيئه شعاع آخر، فإنه من البديهي أن يزداد توهج الجسم بهذا الشعاع الثاني، وهي نتيجة حتمية لنظرية (نيوتن) التي تقول بازدياد عدد الجسيمات الضوئية الواقعة على الجسم، وبرغم هذه الحقيقة التي نشاهدها في تجاربنا العادية توصل العلماء إلى تجارب من نوع معين يتبين منها أن هذه الإضافة لشعاعين من الضوء ينتج عنها ظلمة حالكة بدل أن ينتج عنها زيادة في الضوء
وقد كشف هذه الظاهرة الطبيب والطبيعي المعروف توماس يونج وتتلخص تجربته في أنه وضع حاجزاً به ثقبان أمام منبع ضوئي وشاهد على حاجز آخر موضوع خلف الأول سلسلة من الخطوط المضيئة والمظلمة المتجاورة، ذلك أن هذا الحاجز يضاء بما ينبعث من ضوء خلال الثقبين، وفي الشكل (2) يرى القارئ صورة لهذه الظاهرة التي لا يمكن تفسيرها بنظرية (نيوتن) ويمكن تفسيرها بالوسائل الرياضية إذا اعتبرنا الضوء ظاهرة موجية، ذلك لأن موجتين متضادتين وحادثتين في مكان واحد تمحو إحداهما أثر الأخرى، ويظهر ذلك في هذه الخطوط السوداء التي رغم تعرضها للمنبعين لا يظهر عليها أثر للضوء. وليس المجال هنا لنذكر التجارب المختلفة التي وفق فيها العلماء لرؤية هذه الظاهرة، ولابد أن يكون قد رآها كل من أتيحت له فرصة عمل تجارب في إحدى كليات العلوم، مثل التجارب المعروفة باسم حلقات (نيوتن) أو (مرآة فرنل) وغيرها. كذلك لا ندخل في تفصيل التطبيقات العديدة التي استخدمت فيها ظاهرة التداخل لكل مهندس تتاح له الفرصة في معرفة ما تقدمه العلوم الطبيعية من تطبيقات مفيدة يعلم أنه يستطيع أن يعرف درجة تمدد أو ضغط إحدى الأعتاب الحاملة للجسور الحديدية بواسطة أجهزة ضوئية تستند إلى ظاهرة التداخل الضوئي، كما يعرف أنه من السهل الآن تعيين سمك لوحة رفيعة أو دراسة ما على سطحها من تعاريج أو حركة بالالتجاء إلى أمواج الضوء، واستخدام ظاهرة التداخل في القيام بما يصعب قياسه بالطرق العادية
أما الظاهرة الثانية فهي ظاهرة الاستقطاب التي تفرغ لدراستها أيضاً المهندس والعالم (فرنل) ونشرحها هنا في كلمتين:
ثمة نوعان من الأمواج في الظواهر الطبيعية المختلفة، أمواج طويلة حيث تتذبذب الجسيمات في اتجاه سير الموجة، وأمواج مستعرضة حيث تتذبذب الجسيمات في اتجاه عمودي على سير الموجة. وأظهر مثال للأخيرة تلك الأمواج التي نشاهدها على سطح المياه حيث يرتفع الماء ويهبط في مكانه عموديا على الاتجاه الظاهري لمسار الموج دون أن يتحرك الماء من مكانه نحو هذا الاتجاه، ولقد أثبت (فرنل) أن الضوء ظاهرة موجية من النوع الأخير فهي كموجة الماء تتذبذب في اتجاه عمودي على مسار الموجة، ولا تختلف عنها إلا في أنها مع مرور الوقت تدور هذه الذبذبة في المستوى العمودي الذي تتذبذب فيه، وقد لاحظ (فرنل) أن الضوء عندما يخترق نوعاً من البلور فإنه يتذبذب عمودياً كما كان قبل اختراقه البلورة، ولكن الذبذبة تتخذ صفة جديدة، ذلك أنها تتذبذب في اتجاه واحد، ويسمى هذا الشعاع مستقطباً وقد بين (فرنل) أن ظاهرة التداخل لا تحدث بين شعاعين من هذا النوع إلا إذا كانا مستقطبين في اتجاه واحد. وظلت فكرة (فرنل) التي تتلخص في أن الضوء ظاهرة موجية مستعرضة تستلزم وجود مادة أثيرية لحدوث هذه الموجات فكرة غير مقبولة من العلماء الذين لم يؤمنوا بوجود مثل هذه المادة في الكون، وهي المادة التي لجأ إليها كل من (فرنل) و (ويجانز) لتفسير ظاهرتي التداخل والاستقطاب التي صعب تفسيرها بنظرية (نيوتن) الجسمية، وظل الأثير وسطاً يتطلب الدراسة
وهكذا لم يكن من المستطاع التعرف على الضوء كحالة موجية دون أن يكون هناك هذه المادة الأثيرية التي تملأ الكون، وكان شأن الأثير من الضوء شأن الماء في بحيرة سقط فيها حجر، وإلا فكيف تصل لنا آثار الحجر إذا لم يوجد الماء، وكيف تصل لنا هذه الدوائر على سطح البحيرة تتسع رويداً رويداً حتى تبلغ الشاطئ إذا خلت البحيرة مما يحمل هذه الدوائر، ومع ذلك ظل الأثير فرضاً لا نعرف عن خواصه شيئاً، ولكل ما نعرفه أنه مادة خفيفة شبيهة بالغازات، لا نستطيع تفريغها مهما كانت أجهزتنا قوية، فهو يملأ المصباح الكهربائي مهما كان مفرغاً، وبواسطته يمر الضوء من السلك المعدني إلى الغلاف الزجاجي وإلى ما وراء هذا الغلاف
ولقد صادفت فكرة (فرنل) عن الموجات الضوئية ووصفها بأنها مستعرضة عقبة جديدة، ذلك أن الأثير باعتباره مادة شبيهة بالغازات لا يقبل غير الموجات الطويلة، وقد استمسك (فرنل) برأيه في أن الضوء أمواج مستعرضة حتى أنه، عندما تشبث (بواسون) التموجات الطويلة هي وحدها الكائنة في الأجسام الغازية، لم يسع (فرنل) إلا أن يطلب من هذا العالم أن يصحح رأيه في خصوص الأثير الذي قد يكون له خواص الأجسام الصلبة، ويقول (ريشنباخ) تصميم (فرنل) هذا كان سبباً لكي يمتنع زميله (أراجو) أن يوقع معه النشرة العلمية النهائية الخاصة بهذا الموضوع. وفي القرن التاسع عشر عكف العلماء على القيام بتجارب عديدة يتبنون منها وجود هذا الأثير ويتعرفون بها على شيء من خواصه، وتساءل بعضهم ماذا يحدث في الأثير عندما يتحرك جسم فيه؟ ثمة احتمالات ثلاثة:
الأول أن يحمل الجسم معه الأثير بأسره المحبوس بين جزيئات الجسم. والثاني أن للأثير مرونة عظيمة تسمح أن يمر الجسم فيه دون أي احتكاك ظاهر
والثالث أن يكون للأثير حالة متوسطة، أي أنه يشترك جزئياً مع حركة الجسم، وهو رأي مال إليه (فرنل) وعززه بحسابات أراد منها أن يعرف درجة اشتراك الأثير في مثل هذه الحركة
وقد عمد فيزو لتحقيق ما ذهب إليه فرنل، وفي تجربة معروفة أرسل شعاعاً في أنبوبة مملوءة بالماء الجاري كما أرسل في الأنبوبة ذاتها شعاعاً آخر في الاتجاه المضاد، بحيث يسير مع الماء أحد الشعاعين ويسير بعكسه الشعاع الآخر، وباعتبار أن المادة الحاملة للضوء هي الأثير وأن هذا، وفق النظرية المتقدمة، يتحرك مع الماء بعض الشيء؛ فإنه يجب أن تختلف السرعة لشعاعي الضوء في الحالتين. وباللجوء إلى طريقة دقيقة استخدم (فيزو) فيها لقياس السرعة ظاهرة التداخل الضوئي استطاع أن يقيس الفرق بين السرعتين، فأيدت صحة هذه التجربة فكرة (فرنل) عن وجود الأثير وعن معرفة شيء عن حركته
على أن تجربة أخرى تعد في نظري من أهم التجارب التي أحدثت انقلاباً في التفكير الحديث قام بها العالم المعروف (البرت في سنة 1881، وكان لها أثر في عقيدة العلماء فيما يخص الأثير، هذا الوسط الوهمي، وسيرى القارئ كيف سببت تجربة ميكلسون تضارباً في الرأي وأحدثت أزمة علمية عصيبة، وماذا كان أثرها على التفكير الحديث في فهم الكون.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة