مجلة الرسالة/العدد 351/تأملات
→ الإنتاج العقلي للأمم | مجلة الرسالة - العدد 351 تأملات [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1940 |
لا أدري يا فتاتي كنه نظراتك، ولا أخدع النفس بتصوراتي؛ إنما
بعينيك سواد يغمر ضوؤه فؤادي، ويذيب حره جناني. أسمع صوتك
المتهدج تحاولين أن تخلعي عليه المستحيل من ثباتك، وأحس خفقان
قلبي يعلوه هذا الشحم واللحم، فتخفى ضرباته على وجدانك.
تضربين يا فتاتي في حدود الثلاثين، ولما تكادي، وأغز أنا السير والأربعون من ورائي؛ فبيننا ما يسوغ لك مناداتي بيا أبي. وكم يحمل هذا النداء من عطف ومن مرثية! وكم تتجلى فيه الحقيقة المرة، وتشرق به النفس الظمأى إلى فيض الحب!. . . كم يردني إلى اليأس قدر ما أرتد إلى الأمل. . . لكن، يا فتاتي، قد آثرتك بحواسي، وهي تهتف بك وتهبب، فهل تستجيبين؟
وكيف تستجيب يا صديقي، وقد كان ما مضى كله عبثاً في عبث. . . لقد فتحت عيني عليه، وكانتا مغمضتين، فروعني ما رأيت: رأيت سداً هائلاً يقوم بيني وبينها، هو فرق ما بيني وبينها من سن. . . دروجي إلى الكهولة، وخطرها في مطارف الشباب هو الذي أترع قلبي غماً وأزال الغشاوة عن عيني. . .
رأيت الأوهام بعين الحقيقة تمضي فراراً لا تلوى على شيء. وكأنها خشيت أن تلقاني وجهاً لوجه، فأبصق من مر الحقيقة على وجهها. خجلت أوهامي فانحسرت عن بصيرتي، وخلفت أثرها في الكآبة التي لا تبرح تلازمني
ظلمتني يا فتاتي حين أرخيت لي في حبل الأمل فتعلقت به وشددت عليه، وتشبثت وكأني أتشبث بالحياة، وأية إيماءة حادة كانت تكفي لقطع الحبل لأنه من عمل الشذوذ ومجانبة الحقائق، والعمى عن الحدود. لكن حبلي لم ينقطع بشيء حاد. نظرة لا حياة فيها، لأنه لا اكتراث فيها، كفت لأن تقطع حبل آمالي بعد إذ كانت تحييها في سالف الأيام نظرة أخرى. وفتور أدل إلى التثاؤب وأوهى منه، طعنني في الصميم فكانت الصرخة التي فتحت عيني على حلمي المنكوب
بلى يا فتاتي! لقد نكبت كما لم ينكب غافل، وعاودني الرشد غير رشيد، وحزت الحسرة في فؤادي ولن تزال تحز إلى الأبد كنت ماثلة لعيني، في اليقظة وفي المنام، في السر وفي العلن، وخلياً ومشغولاً، ومغتبطاً ومكموداً
ومثلت لعيني بعد الخيبة أجلي ما تكونين، وأنضر ما تكونين، تعلو شفتيك تلك الابتسامة الحائرة فتزيد في حيرتي وتثير من حسرتي
شربت المر ليعوضني من حلوك، وألزمت حواسي حدها لأفر من طيفك. ثم عمدت إلى مخيلتي وقد خفت على نفسي الخبال فمسحت منها صورتك إلى حين. ثم ضبطت خيالك متلبساً بالسطو على رأسي المضطرب وأعصابي المحطمة وليس بها لمثلك غناء فأقصيته، وأغمضت عيني دونه، وذهبت ألتمس السلوان
وكيف تسلو يا صديقي، بل كيف تجبن عن احتمال الذكرى وتتهيب وجه الحبيب؟ أتراك خشيت الألم ولوعة الهوى، وما الهوى من دون لوعة وألم؟ أتريد المتعة الرخيصة؟ إنك إذن لأناني أو عابث؛ وإني لأعيذك يا صديقي أن تكون هذا أو ذاك
فليغش نومك طيف الحبيب، وذهنك رسمه؛ وليكن تفكيرك فيه وعيشك به وله؛ وليكن بعد ذاك ما يكون. فالنار التي تتأجج في قلبك، والجرح الذي يحسه صدرك، يطهران نفسك التي بين جنبيك. وما هو إيثار الروح على الجسد إن لم يكن في تعففك وعفافها، واطراح الإغراء من جانبك وجانبها
ليكن جمال نفسها هو الذي يستهويك لا فتنة الجسد. وليكن صوتك في سمعها كصوتها في سمعك رحمة وخيراً لا شراً وإغراءً
ستألم حين لا تطفئ المتعة نار قلبك المتأججة، فما نفعك بمتعة تطفئ الإيمان وتميت القلب؟ إنما نفعك بالألم الذي يرهف حسك، ويضيء نفسك، ويخضع جسدك. إنما نفعك في البقاء لا الفناء، في بقاء نارك متأججة، ونفسك نيرة، بقاء للحب الذي لا تعرفه المادة ولا ينبغي أن تعرفه، بقاء لروحانية البشر التي تتمثل في الألم، الألم يا صديقي ولوعة الحب والكآبة التي تذيب جسدك كالشمعة لتحترق وتضيء
كل أولئك يا صديقي عناصر تجعل منك الإنسان المنشود لا الإنسان الموجود.
(م. د)