الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 350/في أرجاء سيناء

مجلة الرسالة/العدد 350/في أرجاء سيناء

بتاريخ: 18 - 03 - 1940


للدكتور عبد الوهاب عزام

- 2 -

من أبي زنيمة إلى الدير

خرجنا من أبي زنيمة والساعة ثمان من صباح الثلاثاء ثالث عشر ذي الحجة، فسرنا على الساحل بين البحر عن يميننا والجبل عن يسارنا صوب الجنوب زهاء أربعين دقيقة، ثم ملنا ذات اليسار تلقاء الشرقية في سهل واسع كثير الحجارة والتلال قد استبانت فيه الطريق واستقامت، فأسرعنا عشر دقائق حتى بلغنا وادياً تشرف على جانبيه جبال رملية مصفرّة ثم جبال حمراء شاهقة، أدّى بنا إلى صخور عظام عليها نقوش بخط سرياني، فنزلنا عندها قليلاً والساعة عشر، ثم ركبنا فمررنا بعد ساعة بواحة ناظرة جميلة وجبال رائعة شاهقة محمرّة لا مختلطة الألوان. وجبال سيناء كثيرة الأشكال والألوان، قد ألحّت عليها الشمس والرياح والأمطار على مرّ العصور تحطيماً وتشكيلاً وتلويناً، فما يزال الرائي في عجب من اختلاف مرائيها وكثرة أشكالها. وقد وجدت فيها تفسيراً بيّناً للآية:

(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جُدَدِ بيض وحمرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).

وبعد نصف ساعة من الراحة الأولى رأينا أشجاراً ونخيلاً تملأ الوادي، فعرفنا أننا في وادي فاران. وبعد مسيرة خمس دقائق في هذه الخضرة بلغنا ديراً عليه سور قصير وفيه حديقة، وهو دير فاران التابع لدير سنت كترينا الكبير. نزلنا هناك لنستريح في الدير ونرى ما فيه.

دخلنا الدير فرأينا مجرى ماء بارد عذب، فعررنا أنه ينبوع الحياة في هذه الواحة الكبيرة. وصعدنا على سفح الجبال المشرفة على الدير فإذا بناء قديم من اللِبن مهدم هو بقية كنيسة. ورأينا على عدوة الوادي الثانية وفي بسطته أنقاض أبنية وآجر وحجارة منثورة قيل إنها آثار مدينة فاران، وصوامع كانت لتعبد الرهبان فيه.

وهي على 12 كيلاً شمالي الطور وعلى 130 كيلاً إلى الجنوب والغرب من قلعة النخل.

وهي مذكورة في التوراة في أخبار إبراهيم وموسى. ففي سفر التكوين أن إسماعيل سكن برية فاران وأخذت له أمه زوجة من مصر. وفي التثنية: (هذه هي البركة التي بارك فيها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سينا، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران. . .).

وعلى مقربة من الوادي جبل شاهق جداً يفرع الجبال كلها يسمى جبل سربال، ويقال إنه جبل المناجاة الذي تجلى فيه الله سبحانه لموسى عليه السلام.

وبعد أن طعمنا خرجنا من الدير والساعة واحدة بعد الظهر فسرنا بين أشجار ونخيل متكاثف خمساً وعشرين دقيقة بالسيارات. ورأينا على عدوة الوادي اليسرى أنقاباً في الجبل، يقال إنها قبور قديمة كان أهل فاران يدفنون موتاهم فيها.

والنخيل في هذا الوادي متروك بطبيعته لا يؤبر ولا يقلع فسيله فترى نخلات كثيرة من أصل واحد، وترى جريد النخلة أو كربه يابساً حول جذعها طبقات بعضها فوق بعض لا يقطع ولكن يجف فيسقط أو يبقى معلقاً في الجذع.

وقد سألت رجلين هناك: لماذا لا تقطمون الجريد؟

قالا: لنصعد عليه.

قلت: إن النخل لا يثمر كثيراً إذا لم يقطع جريده كل عام.

هل تعرفون ما يفعل أهل مصر بالنخيل؟

قالا: نعم.

قلت: فلماذا لا تفعلون فعلهم فيكثر ثمر نخيلكم؟

فسكتا.

وبعد خمسين دقيقة من فاران، رأينا أشجاراً كثيرة من الطرفاء، ثم سرنا في أرض جرداء إلى أن مررنا بجبلين متقاربين مشرفين على الطريق، بينهما ممر ضيق يسمى (بويب فاران)؛ ثم عطفنا إلى اليمين إلى واد يسمى (واد الشيخ)، أو وادي النبي صالح، وسأذكره فيما بعد.

وجئنا إلى أرض مرملة ساخت فيها بعض السيارات وتقدمت السيارات التي تجنبت هذه الورطة، فوقفنا عند تل عليه مقابر وقباب من الطين فيها بعض القبور، وكنيسة وقبر يقال إنه قبر هارون عليه السلام، وينشعب الوادي وراء هذا التل إلى اليسار، فيرى السائر جبالاً شاهقة جداً، بينها واد ضيق ينتهي إلى بناء كبير أبيض يلوح من وراء الشجر ويتضاءل على ارتفاعه بجانب الجبال الشاهقة المشرفة عليه، وهذا الدير (دير سنت كترينا).

وقبل أن أصفه، أنقل ما ذكره صاحب مسالك الأبصار نقلاً عن الشابشي:

وهذا الطور هو طور سيناء الذي صعِق عليه موسى عليه السلام. والكنيسة في أعلى الجبل، مبنية بحجر أسود، عرض حصنه سبعة أذرع، وله ثلاثة أبواب من الحديد، وفي غربيّه باب لطيف، وقدامه حجر لقيم، إذا أرادوا رفعه رفعوه، وإذا قصدهم متغلّب أرسلوه، فأنطبق، فلا يعرف أحد مكان الباب. وداخلها عين ماء، وخارجها عين أخرى.

قال:

(زعم النصارى أن بها من أنواع النار الجديدة التي كانت ببيت المقدس، يوقدون منها في كل عشية السراج، وهي بيضاء ضعيفة الحر، لا تحرق. ثم تقوى إذا هم أرادوا أن يوقدوا منها).

وهو عامر بالرهبان. فلا يخلو من أحد من أهل البطالات للتفرُّج فيه والتبرك - على رأيهم - به.

وهو من الديارات الموصوفة والأماكن المقصودة. وممن وصفه ابن عاصم. قال فيه:

يا راهبَ الديَّر، ماذا الضوءُ والنورُ ... فقد أضاء بما في دَيْرك الطور؟

هل حلَّتِ الشمسُ فيه دونَ أبرُجها ... أو غُيّب البدر ' فيه فهو مستور؟

فقال: ما حلَّه شمسٌ ولا قمرٌ، ... لكن يُقَرِّب فيه اليومَ قَوْرير!

عبد الوهاب عزام