مجلة الرسالة/العدد 350/رسالة الفن
→ تحت الليل | مجلة الرسالة - العدد 350 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العِلم ← |
بتاريخ: 18 - 03 - 1940 |
تأملات في الفن:
مدرسة الإحساس
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- لا تنهري القطة بهذه القسوة. كوني صاحبة إحساس وكوني ذات رحمة
- أرحمة بلصة تسرق طعامي؟
- ليس مكتوباً عليه بلغة تقرأها هي أنه طعامك، وإنما هو عندها رزق يسره الله
- ولكنها كانت تدب إليه مشفقة حريصة محاذرة متنبهة متلفتة يمنة ويسرة كاللص الذي يدرك حين يعتزم السرقة أنه يعتزم المنكر
- هي معذورة فقد تعلمت هذا التلصص منا؛ فهي لا ترانا نفترس ما نأكل وإنما ترانا نربي الحيوان والطير ثم ندب إلى فريستنا منهما دبة اللص فنختلس حياته اختلاساً لا يسبقه صراع، ولا يسبقه إنذار. . . ولم يكن القط هكذا إلا منذ استأنس، وقبل ذلك كان يفترس، أو يأكل ما يخلفه كبار السباع
- وهل في القط ذكاء يدرك به هذا كله؟. . .
- إن الأمر لا يحتاج إلى ذكاء، وإنما هو يحتاج إلى إحساس. ألست تدخلين على جماعة من الناس فتعرفين إذا كانوا على حزن أو على فرح، أو على صدق أو على غش؟!
- قد أعرف ذلك مما أرى في وجوههم من أثره. . .
- ومن الناس من يعرف وهو مطرق إلى الأرض، ومن الناس من يعرف وهو مغمض العينين والأذنين، ومن الناس من يعرف وهو على البعد لا يتمكن من نظر ولا سمع
- باللاسلكي؟!
- نعم؛ ففي قلب كل مؤمن جهاز يدله، ومن هذه الأجهزة طويل الموجة، ومنها ما هو متصل بتيار لا ينقطع، ومنها ما يعبأ (ببطاريات) تفرغ وتملأ، ومنها ما يستقبل القريب فقط، ومنها ما يستشف المحطات البعيدة. . . وهكذا، فالكون كله إذاعات واستقبالات جلّت على ماركوني وإن سلست للأستاذ حسن كام - هذا العجوز الذي ظهر سكيراً في فلم العزيمة؟ إنه ممثل ممتلئ حقاً ولكني لم أكن أحسب أنه يعلم ما لا يعلمه ماركوني. . .
- ويعلم ما لم يكن يعلمه فرويد كذلك
- ما شاء الله! لعله اخترع آلتين تتزاوجان وتنجبان البنات من الآلات والصبيان!
- بل تمكن من إيجاد إنسان يعيش من غير غريزة فرويد فيستطيع أن يتحادث مع الطير والحيوان
- على طريقة سيدنا سليمان؟
- إذا لم تكن هناك إلا طريقة سليمان فهو إذن على طريقة سليمان. وهو إذن يعيش بين دجاجه وأرانبه وإوزه وكلابه ومعيزه ملكا مدبراً حكيماً إلا أنه يأكل رعاياه
- وكنت تريد ألا يأكل منها
- ربما كان هذا أحلى؛ ولكن الذي يصنعه على أي حال حلال؛ فلا ريب أنه للإنسان على ما هو دونه ومن في حماه حق الرعاية بالحكمة وله أن يتقاضاه روحاً وحياة
- أنت تجعل الذي بيننا وبين الحيوان عشرة أظن لها عندك قوانين وأصولاً
- الطبيعة فرضت هذه القوانين والأصول، وقد كان القدماء شديدي الاعتراف بها، ولا زال الفلاحون يحترمون هذه القوانين والأصول فيما بينهم وبين ما ينفهم من الطير والحيوان، وإن كنا نحن في المدن قد أنكرنا هذه القوانين إنكاراً استدعى أن تقوم فينا جمعيات للرفق بالحيوان تصيح في آذاننا تطلب له الرجمة كان يجب علينا أن نحسها من تلقاء أنفسنا لولا أننا قد تحجرت نفوسنا وتخشبت من شدة إقبالنا على عشرة الحديد والحجر والخشب. . . فلم يعد أحد منا يعطف على حيوانه عطفه على ولده الذي في عنقه
- هذا الذي تطلبه كثير، وهو ليس من الطبيعة في شئ
- لو لم يكن من الطبيعة لذبح إبراهيم ولده
فلو أنك كنت تشعرين بالحياة حولك، لكنت تبادلت الحس مع الحيوان. . . ولكنت أدركت الحق فيما أقول. . . ولكن كيف أطلب منك الإحساس بالحيوان وأنت منصرفة حتى عن الإحساس بالناس، وحتى عن الإحساس بنفسك. . .
- حتى نفسي ترميني بإغفالها والبعد عنها؟. . .
- ولست وحدك هكذا، وإنما أغلب أهل هذا العصر هكذا وأكثرهم تردياً فيه أهل المدن، وأكثر أهل المدن تردياً فيه وانطماساً أولئك الذين يتعلمون في المدارس، وأكثر المتعلمين تخبطاً فيه وانغماساً أبناء معاهد الفن في مصر، فهؤلاء يستعرضون صوراً مختلفة للحس، ولكنهم لا يقفون عند واحدة منها وقفة التأمل والتذوق، وإنما هم يحصونها عداً ويحسبون هذا الإحصاء علماً، فيخرجون به إلى الدنيا ونفوسهم مشوشة مختلطة حائرة. . . ومع هذا كله، فمغرورة متكبرة. . .
- وهذا فيمصر وحدها أو في العالم كله؟
- أظنه في مصر وحدها. . . فهم في الغرب إذا كفروا لم يكفروا حتى يؤمنوا بكفرهم، ونحن هنا ننتظر حتى يكفروا فنجري ورائهم، فإذا آمنوا آمنا، فإذا كفروا كفرنا ونفوسنا فارغة لا يعمرها إيمان ولا كفر. . .
- وهل يعمر الكفر النفوس؟. . .
- إذا كان كفراً خالصاً لوجه الحق كذلك الكفر الذي شاع في أوربا في القرن الماضي وفي سوابقه، إذ تفتحت عيون عشاق الحق هناك على أباطيل رأوا أهل الدين يتمسكون بها، فقالوا لهم تعالوا ندع هذه الأباطيل ونحرر أنفسنا ونفكر بعقولنا، فقال لهم أهل الدين، ليس لنا عقول إذ ردتنا العقول عما وجدنا عليه آباءنا، وإنه لدين آمنا به ولن نحول عنه، فقالوا لأهل ذلك الدين: فليكن إذن لكم دينكم وليكن لنا ديننا، ثم قالوا للناس جميعاً: إنما نحن نسعى إلى الحق بعلومنا وعقولنا، وليس لنا شأن بأخصامنا، ولسنا ندعو الناس إلى جنة أو نار، فالجنة والنار حديثهم، وإنما نحن نقول إن عباد الشمس الأزرق يحمر إذا أضيف إلى حمض، كما نقول إن الهيدروجين أخف من الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، وإن الأرض مجذوبة إلى الشمس، وإن الشمس تسبح في الفضاء وإن وإن. . . وليستمع لنا من يريد وليستمع لهم أيضا، فإذا شاء أن يودع عقله بين أيديهم فليستثن عن عقله وهو عندهم حتى إذا جاءنا استحضره. . . هذه حال حدثت في أوربا، ولأنها حدثت في أوربا فقد أحدثنا مثلها قولاً في كلية الآداب عندنا وقلنا إن العلم شئ وإن الدين شئ، مع أن ديننا هو العلم نفسه، وهو العقل نفسه، ولم يحدث أن احتضن يوماً خرافة، أو أظل باطلاً. . . وإن كان بعض أصحاب الغرض قد رشقوا في حواشيه بعض ما ينافيه، مما هو ظاهر للعين زيفه وغرابته عن سلامة الفكرة وحكمة الحق. . . وقال الغرب يوماً إننا لن نؤمن بشيء حتى نبدأ بالشك فيه وتعقله بعد ذلك إلى نهايته حتى نصل إلى حقيقة أمره، فنراها فنؤمن عندئذ بها، ولم يقل الغرب هذا إلا من ثقل ما كان يراد به أن يحشره في إيمانه من أوهام، وأكاذيب. . . فقلنا نحن أيضاً مثلما قال الغرب: لن نؤمن بشيء حتى نشك فيه أولاً وبدأنا نشك في أغلى تراثنا حتى لقد شككنا في قصة إبراهيم يوماً
- وهل اثبت التاريخ قصة إبراهيم؟ العلم لا يرضى إلا بالإثبات العلمي، وللإثبات العلمي شروط
- وهل أثبت التاريخ أن الأرض كانت جزءاً من الشمس إثباتاً علمياً بالشروط إياها؟ وهل يستطيع التاريخ أن يثبت كل حقائق الوجود؟ إذا كان الأمر كذلك فقولي لي كيف يثبت التاريخ أن هانيبال كان يتنفس مثلما نتنفس نحن مع أن هذا الشيء لم يرد في وثيقة تاريخية واحدة مستوفاة التحقق والتحقيق التي تطلبنها! بل إنه لم يرد في وثيقة أصلاً!
أفتستطيعين أن تشكي في أن هانيبال وأباه كانا يتنافسان لأنه لا وثائق تثبت ذلك؟ فإذا ضاعت منك شهادة ميلادك ظننت أنك ربما تكونين قد انعدمت لأنه لا ورقة رسمية معك تعترف بك؟ حتى لو حلف الناس بوجودك وشهد أهل بلدك بنسبك؟
فتذوقي العلم. . . وتذوقي الأدب. . . وتذوقي الفن. . . وتذوقي الحياة. . . عيشي على مهل، تفرسي في كل شئ. . . أيقظي إحساسك، ولا تقفزي بعقلك إلا بعد أن يرتاح إحساسك إلى ما أنت فيه. . . فلو فعلت أنت هذا، ولو فعله الناس جميعاً، ولو فعله أهل الغرب على الخصوص، لخفت كوارث البشرية ولهان من مصائبها الكثير. . . أفلو تريث أولئك الذين يخترعون الغازات السامة والقنابل والبلاوي الزرق الفتاكة بالناس، وحاسبوا عقولهم بضمائرهم واستشعروا ما تجره اختراعاتهم على إخوانهم من ويلات. . .
أكانوا يبرزونها للناس كالحمى المجنونة، حملها من الجحيم الشيطان أثيم. . . لو أن هؤلاء العلماء العقلاء تريثوا، وحادثوا أنفسهم لما أطلقوا الخراب من مكامنه عاصفاً يلهف البريء وغير البريء. . . ولكنهم علماء تريدين أنت أن تكوني عالمة
- وأي شبه بيني وبين هؤلاء؟
- هؤلاء يجمعون من الحقائق ما يقتل الناس، وأنت تجمعين من الحقائق ما يقعد على الإحساس، وهؤلاء لو أنهم استغنوا عن استغلال حقائقهم لوفروا على الناس هلاكاً لا غناء فيه، وأنت لو أنك استغنيت عن حقائقك التاريخية لوفرت على نفسك هلاكاً لا غناء فيه كذلك. . .
- وهل أنا هالكة؟
- وأي هالكة يا من لا تعنيك في قصة إبراهيم إلا أن تعرفي إذا كانت قد حدثت أو إذا لم تكن، ولم تحاولي أن تتذوقيها. . .
مسكينة أنت. . . ما أحوج أمثالك إلى أن تنشأ لهم مدرسة للإحساس!
عزيز أحمد فهمي