مجلة الرسالة/العدد 350/تأملات
→ أفانين | مجلة الرسالة - العدد 350 تأملات [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 18 - 03 - 1940 |
1 - تأملات
في يوم سبت من يناير من عام منصرم تحركت عاطفة مكنونة فإذا هي تضطرم، وإذا ظرفها الطارئ يطبع أربعة عشر عاماً من حياتي بطابع خاص. كانت العاطفة في غضونها مودة فحسب، اشتدت حيناً وفترت أحياناً، وتفاوتت درجاتها بتفاوت الظروف لكنها بقيت مودة يغذيها ميل وألفة وجميل وعرفان؛ حتى كان يوم السبت، فحالت العاطفة شيئاً آخر بدأ غبطة يكتنفها ذهول واستسلام؛ ثم تنبه القلب إلى زائر جديد لا يعرف الاستئذان وأستقر بين الضلوع شئ نسيت على مر الأيام اسمه، فأحسست اليوم فعله، وكان جارفاً، أطار كل شئ من لب ونوم، وبسط على نفسي الهادئة سلطانه، فاضطربت واضطرمت، ولم تك تدين من قبل لسلطان كهذا يشبه البُحران
ومضت بين السبت والسبت سبعة أيام لزمت فيها الفراش يومين، ومخدعي ثلاثة، وحرت في بقيتها بين البيت والمكتب، تارة آلم، وتارة أنغم، وطوراً تفترسني كآبة تبيت معها قوتي ضعفاً، ولا أملك أن أرفع فيها جفناً. أما طبعي الذي لم يبال في حياتي أحداً، فخانني هذه المرة، فكففت عن أن أكون ما كنت
كنت أحب الوحدة، والظلام الذي لا يقربه الخفاش، لأنه تضيئه التأملات. وكنت أوزع مودتي على غير واحد من بني البشر، وأحس الميل الجامح إلى غير واحدة من بناتهم. فلم أعرف في التوزيع غير القسطاس. وكنت أعجب أحيانا كيف أحب الناس هذا الحب العادل، وكيف أتحرر إلى هذا الحد من سلطان التحيز والتحامل، لكني هذه المرة قد اضطرب ميزاني، فإذا بي أميل إلى ناحيته كل الميل، وإذا تلك التي رجحت كفتها تستبدي من دون أن تعلم، وتستحوذني على عظم جرمي في طي إشارة لو شاءت، وهي بعد لم تشأ ولم تدِر. بل قل: إنها تدري ولكن لا تدرك. وكيف تدرك وهي تبعث، والأمر عندي جد وهي تلهو، وأنا جدُّ حزين؟
ما بك يا فتاتي! الشباب الذي ترفلين في غفلته، وتخطرين في روعته، وتمر فيه نظراتك واهنة، فتصمي مع هذا إصماء السهم؛ ثم لا شي في ذهنك غير الفراغ، وكل شي يضطرب به ذهني، ويدمي، ويتألم. . .
أأحسست دفء الإيمان في راحتي حين احتوت راحتك الدافئة بدم الشباب؟
إذن فدعيني أذكر لك يا فتاتي بعض الذي بي: أحبك حبّاً خالط كل حواسي، فأنا أبداً على ذكر منك، وأنت على مرأى ومسمع مني.
رسمك أبداً ماثلاً لعيني، حاضر في ذهني، فأنا في الحياة أعيش بك وأنساق بإرادتك. أكون مع الناس جميعاً في كل مكان، ولا أكون إلا معك. . . الغبطة التي تطغى على مصدرها أتت؛ والألم الذي يهد كياني مبعثه أنت. والمشاعر على اختلافها تتناوبني منك ولا أملك أن أشعر لنفسي وبإرادتي.
أتحبين يا فتاتي أن أصارحك بما ساورني ليلة أمس؟ إن نظرتك الواهنة التي خلتك تؤثرينني بها نظرة للجميع، فهي من هذه الناحية عادلة وهي مما خلالها ظالمة خادعة.
إنك يا فتاتي لغز، ميزتك الكبرى جاذبيتك، فأنت تجذبين محبيك ومبغضيك على السواء. ولا يملك المرء ألا يكترث لك
ليس جمالك بالفاتن ولا بالذي يلفت النظر. وقد تمرين بالألوف من دون أن تستوقفي أحداً، ويمر بك الألوف مر الكرام. لكن كيانك جميل كل الجمال، فاتن كل الفتنة، ولا بد من الوقوف عندك والتأمل فيك ليعلقك من يشاء ومن تشائين، ويأسره منك إلى الأبد تلك النظرة الواهنة، والابتسامة الحائرة، والوجه الذي لا يمتاز بشيء في تفاصيله ولكنه في جملته وحدة أخاذة
ما قولك يا فتاتي فيمن ظل أربعة عشر عاماً على رأي واحد فيك، وميل واحد نحوك، وكنت في خلالها طفلة في العاشرة، وزهرة في الرابعة عشرة، وثمرة شهية في العشرين، فما فكر في غير الحدب عليك، واستنشاق عبيرك، والتطلع إليك. لكنه لم يقطفك ولم يخنك
كانت زهرتك تغري بالقطف، لكنه كان فيك ما يرد الأيدي عنك. وكانت ثمرتك ناضجة شهية، لكنها كانت الثمرة المحرمة. وكنت عزلاء إلا من ذلك العفاف الذي ينبعث من كيانك طهراً وبراءة
ثم سددت يوماً إلى قلبي نظرتك المعهودة وفيها بريق غير معهود، ومعها حاشية طيعة من الضحك الواهن الغالب عليه الحياء. وألفيتك في مجلسي مرحة قد وسع فهمك مغازي الكلام، ودقت إجاباتك عليها
ثم ظللت جبينك العالي غمامة فأطرقت برأسك، واحتوتك كآبة وخفت صوتك، وكان سكون طال عليه الزمن أو قصر لا ندري، أو على الأقل لا أدري واحتوت راحتك راحتي فإذا هما شعلتان، وحاولت أن أحدق في عينيك فلم ترفعيهما إليَّ، وألقيت عليك كلمة من عفو الساعة فلم تردي عليَّ
ولبثنا هنيهة على هذه الحال من الصمت فإذا نحن نتساءل معا: هل أسأت إليك؟!
وكيف تسيئينني يا فتاتي وقد أشعرتني الهناء الذي كنت أحوِّم حوله أيام الشباب ولا أناله، حتى كان يوم السبت من يناير من عام منصرم فخلقتني خلقاً آخر يدين لك بالوجود
(م. د)