الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 35/محجر الطور

مجلة الرسالة/العدد 35/محجر الطور

بتاريخ: 05 - 03 - 1934


مقدمة

تستعد وزارة الداخلية في مثل هذه الأيام من كل سنة أي في موسم الحج لاستقبال الحجاج مصريين وأجانب عند عودتهم من البلاد المقدسة في الحجاز بعد تأدية فريضة الحج فتوفد موظفين مؤقتين يبلغ عددهم كثرة وقلة تبعاً لعدد الحجاج ولمدة العمل في محجر الطور، وتستغني عنهم عند الانتهاء من الغرض الذي من أجله توفدهم إليه، وتنتدب كذلك موظفين ملكيين وعسكريين للغرض نفسه يعودون إلى مقر وظائفهم عند نهاية الموسم.

الموظفون

يحيا المحجر وينتعش مدة الموسم وبعد ذلك يكاد يكون ساكنا لقلة الحركة فيه ويحييه الموظفون ثم الحجاج فيصبح مملوءاً بالسكان عامراً بالحركة والتجارة.

ويرأس الموظفين جميعاً مدير المحجر وهو موظف كبير بوزارة الداخلية ينتقل إليه في موسم الحج، وكان إلى سنة 1931 سعادة الأمير الاي محمد بك المسيري، والموظفون أما تابعون للإدارة نفسها وإما تابعون لمصلحة الصحة، ويدير هؤلاء طبيب كبير هو طبيب أول المحجر. والموظفون أما منتدبون كموظفي وزارة الداخلية ولأطباء وكضباط الجيش والبوليس وجنودهم، وإما معينون تعيينا مؤقتا يستغني عن خدمتهم بعد انتهاء الحج، والمفروض في جميع الموظفين انهم لراحة الحجاج وخدمتهم والسهر على سلامتهم وصحتهم

باخرة الحجاج

تمكنت من فحص البواخر التي كانت تنقل الحجاج عامي 1929 و 1931 وخرجت بنتيجة ثابتة هي أن معظم هذه البواخر لا يعتني أصحابها براحة الحجاج بالدرجة الثالثة بل انهم يعاملون فهيا معاملة خالية من روح العدل، فهم مكدسون في عنابرها تكديسا، وقل ان يدخلها ضوء الشمس فتنبعث منها راحة كريهة تكاد لا تحتمل يلاقون صعوبة كبيرة في الحصول على الماء العذب ولا يوجد في الباخرة كلها - وقد تحمل في بعض الأحيان الفي حاج - سوى طبيب واحد يهمل أغلب الأوقات الغرض الذي من أجله انتدبوه له وإني كمصري مسلم أود أن يتلافى هذا النقص في بواخرنا الوطنية الجديدة

الاجرآت الأولية

إذا وصلت باخرة تحمل حجاجها إلى ميناء الطور يكون كل شيء معداً لاستقبالها ويقابل المدير ومساعدوه وكبير الأطباء ومساعدوه الباخرة وتفحص عموميا، حتى إذا لم يكن هناك ما يشتبه فيه من الأمراض المعدية سمح للحجاج بالنزول فينزلون ومعهم متاعهم، وتبقى الباخرة أن لم تكن عائدة إلى جدة ثلاثة أيام يقوم عمال الصحة خلالها بغسلها وتعقيمها، أما إذا وجد مريض أو أكثر فان رجال الإسعاف يحملونهم بعد أن يودعوا متاعهم وما لهم بيت المال إلى المستشفى، وغالبا يشفون إلا إذا كتب عليهم أن يتوفوا في هذا المكان.

المباخر

هي ثلاث مباخر، والمبخرة هي الصلة بني الاسكلة ونفس المحجر ولا يسمح لحاج ما أن تطأ قدمه أرض المحجر قبل أن يبخر وتعقم الأدوات التي معه والتي يرى رجال الصحة ضرورة تبخيرها، اللهم إلا في أحوال نادرة جداً يسمح فيها لبعض الحجاج من الطبقة الأولى إلا تجري له عملية التبخير ويأخذ الطبيب مسئولية ذلك على عاتقه

والحمامات التي يغتسل بها الحجاج في المباخر قسمان: أحدهما للرجال والآخر للنساء بطبيعة الحال، ويعطى لكل حاج رقماً يحمل مثله الكيس الذي به أدوات الحاج المراد تعقيمها حتى لا تختلط أدوات هذا بأدوات ذاك.

ويبدى المحجر اهتماماً خاصاً نحو ماء زمزم الذي يجلبه معه الحاج تبركا به له ولأهله الذين لم يسعدهم الحظ بالزيارة ويحمله في صفائح مقفلة أو في زجاجات أو أوان جلدية، وفي كثير من الأحيان يخبئه الحاج خوفاً من أن يعثر عليه رجال المحجر لأنهم يببدونه في الحال إن كان في زجاجات أو في جلد لتعذر تعقيمه عندئذ ويعقمون الصفائح

وكنت أدهش كثيراً عند ما أرى الحجاج المصريين يتمسكون بحيازة هذا الماء، وكنت أفهمهم انه كان سبب عدوى الكوليرا في مصر عاما ما، وقد زادت دهشتي عندما وجدت الحجاج الأجانب أشد تمسكا به يكادون يبذلون كل ما معهم من قوة في سبيل حيازته حتى لقد رأيت رجلا يبكي بكاء الثكلى عندما كسرت له زجاجات قذرة كان يحمل فيها هذا الماء، وكم كان فرحه شديداً عندما أحضرت إليه زجاجات بدلها بها ماء من الصنبور على أنه ماء زمزم

الحزاء

الحزاء مكان يقضي فيه الحجاج أيام الحجر الصحي، وهي ثلاثة أيام في العادة، إلا إذا اشتبه في نظافة الحج، فان الأيام تزيد زيادة يقررها مجلس الإدارة. والحزاء يسع عدداً كبيراً، وهو مقسم إلى عنابر فسيحة ينزل كل عنبر في الغالب حجاج قرى متقاربة أو مراكز متجاورة، وبالحزاء غرفتان أو أكثر لحجاج الدرجة الأولى، يؤجر السرير فيها مدة الحجر بجنيه واحد، ويشرف على كل حزاء موظف من الداخلية وآخر من الصحة، الأول يراقب الحجاج ويراقف التاجر الذي يبيعهم الأشياء ويطعمهم، فيمنعه من الغش ومن بخس الميزان، ثم هو يسمع شكايتهم ويعمل على إرضائهم. والموظف الثاني يراقف نظافة الحزاء ويأخذ عينات من براز كل حاج لفحصها بالمعمل، ويصرف الأدوية ويبلغ عن المريض.

ولكل حزاء بوابة يحرسها جندي شاكى السلاح لا يسمح لأحد بالدخول إليه أو الخروج منه إلا للموظفين الذين يقومون بأعمال تستوجب دخوله أو الخروج منه، على أن يكون بيدهم تصريح خاص بذلك. وبالجملة فيجمع الحزاء كل أنواع الراحة التي يتطلبها الحاج حتى لينتقل إليه كل يوم في ساعة خاصة عاملا البريد والبرق لتوزيع الرسائل وإرسالها.

والحزاءات عشرة من خلفها عشرة أخرى هي بمثابة حزاءات احتياطية أقل تنظيماً من الأولى ينزل بها الحجاج إذا كثر عددهم فامتلأت بهم دون أن تسعهم جميعاً.

بيت المال والمستشفى

بيت المال اسم يطلق على مكتب أعد لحفظ أمتعة وأموال من توفى من الحجاج في الأحوال النادرة ومن يدخل منهم المستشفى بسبب المرض، فإذا كان المتاع لمتوفى قيد في سجل خاص وأعطى رقماً ليرد إلى ورثته بمعرفة القانون، ويحفظ متاع المرضى إلى أن يشفوا ويخرجوا فيعاد إليهم.

وتقع المستشفيات في طرف المحجر بعيدة عن الحركة والضوضاء، ولا يسمح إلا لسيارات الإسعاف التي تحمل المرضى باجتياز خط المستشفيات حتى لا يقلق المرضى، ويبدي المحجر عناية بالغة بزائري المستشفيات يستحق عليها الشكر والجزيل، وهي أما عادية للمرضى العاديين، وأما خاصة بالأمراض المعدية الخطيرة وهذه لا يسمح بدخولها لغير المرضى إلا للطبيب الخاص ولمساعديه وهي بعيدة عن المستشفيات الأخرى تكاد تكون منقطعة عن كل ما عداها.

وفي حيز المستشفيات يقع المعمل وهو معد بأحدث أنواع الفحص الميكروسكوبي والبكتريولوجي وبأفران الزرع وعمل الأمصال وغير ذلك مما يحتاج إليه الحال كثيراً في هذا المكان، وفي الحقيقة إن في هذا المعمل وفي هذه المستشفيات لرحمة كبيرة للحجاج وطمأنينة وسلام لمصر والعالم الإسلامي لأنها تفحص الحجاج وتطمئن على سلامتهم وتعزل المصابين منهم إذا وجدوا وتكافح أمراضهم وتعمل على عدم نشر العدوى، ويدل على ذلك الاهتمام ان المعمل يفحص عينات برازية لكل حاج متى استقر في حزائه وقد تتكرر عملية الفحص مرتين أو أكثر للتأكد من نظافة الحج، ولا يقتصر غرض المستشفى على الحجاج - ولو أنه أنشئ من أجلهم. - ولكنه يتعداه أيضاً إلى من يمرض من الموظفين والجند والخدم.

توفير أسباب الراحة

الحاج وإن اشتد شوقه إلى أهله وبلده وعمله وكان يحلم بالطبل والزمر اللذين ينتظرانه في محطته أو في حيه، ويتخيل الوفود التي تأتي إليه متبركة به ويتصور أحباءه وهم يتقبلون منه هداياه من مسبحة وعقال وخاتم وملفعة وغير ذلك من صنع الحجاز ويود لو تحمله طائرة إلى مقره بعد المتاعب التي تحملها في الصحراوات والبحر والانتقال والسفر - يكون على رغم هذا كله مبتهجا في أيام الحجر الصحي، لان أسباب الراحة متوفرة له فهو مطمئن على نفسه من الوجهة الصحية، لان المحجر كفلها له، ومتاعه وماله في مأمن حريز، ومأكله وشرابه نظيفان يعتني رجال الإدارة والصحة بهما عناية فائقة. . متاعه يحمل إليه من غير أجر، ولو كان فقيرا لا يملك معه مالا فان ببيت المال يتكلف بإطعامه حتى يعود إلى وطنه، وكم من شكاوى تافهة يبلغها الحاج إلى المدير - وكان في السنتين اللتين كنت بالمحجر فيهما صاحب العزة المسيري بك - فكان يهتم عزته بها اهتماماً كبيراً إرضاء للحاج وإراحة له

وفي المحجر آلة للإضاءة بالكهرباء وأخرى لتكرير المياه وعمل الثلج، وبه (مطعم) يديره متعهد يوقع على اتفاق بينه وبين المسئولين على تحديد الأثمان وجودة الأصناف وعدم استعمال الغش.

المحجر

محجر الطور لابد أن يكون من أشهر محاجر العالم، وموقعه صحي لأنه في وسط مساحة هائلة من الفضاء يهب عليه هواء الصحراء الجاف ونسيم البحر العليل، وله بوابتان رئيسيتان: إحداهما تصله ببلدة الطور والأخرى بتلال طور سيناء.

وغير ما ذكرت من أقسام المحجر أعدت فيه أبنية مريحة لسكنى الموظفين، ويصرف أمين المخزن لكل موظف الأدوات التي يحتاج إليها مدة العمل على أن تكون عارة يردها عند نهاية المأمورية.

وقد أعد لعمل المحجر زورقان بخاريان، وزوارق أخرى عادية وأكثر من سيارتين للركوب وعربات (اللوري) للنقل وسيارات الإسعاف.

وينتدب في كل موسم فصيلة من جنود الجيش على رأسهم ضابط عظيم برتبة البكباشي يحرسون المحجر بالمناوبة ويسهلون كثيراً من أعماله، هذا عدا ضابطين من البوليس يقومان بتحرير المحاضر وتحقيق الشكاوى.

ويقوم متعهد خاص بتوريد عدد من الخدم يكون هو مسؤولا عن سلوكهم لحمل أمتعة الحجاج ولنظافة أقسام المحجر ولخدمة الموظفين:

والأطباء يكفون العمل وهم بنسبة طبيب واحد لكل حزائين غير أطباء المستشفيات وغير طبيبة للسيدات.

والموظفون ينقسمون من حيث العمل أقساماً: فمنهم من يفرز أجوزة السفر وهي (الباسبورتات) ويوزعها على أصحابها بعد التوقيع اللازم عليها، ومنهم من يراقب أمتعة الحجاج حتى لا تختلط أو تفقد، ومنهم من يتولى خدمتهم مدة الحج في الحزاء وغير ذلك من الأعمال الكثيرة اللازمة.

عيون موسى إذا خلا المحجر من الحجاج - وقد يخلو منهم مرة أو مرتين خلال الموسم - تفتح بواباته ويتصل من به ببلدة الطور حتى يحين ميعاد إغلاقه مرة أخرى عند ورود حجاج.

والطريق إلى عيون موسى طويل تتخلله كثبان رميلة ونباتات صحراوية تنتهي ببستان عظيم من أشجار النخيل والكروم يحيط به سور باللبن. وعيون موسى يحيط بها جدران وسقف يقولون ان الخديو إسماعيل أمر بإقامتها، وتصب العين ماءها الفاتر الشفاف الكبريتي في حوض مساحته متران ونصف متر مربعة، وهي كدير الطور من الأماكن التي يزورها بعض من السائحين والمسافرين.

عبد الرحمن فهمي

ليسانسييه في الآداب