مجلة الرسالة/العدد 35/صفحة من تاريخ أفغانستان المعاصر
→ عمر بن عبد العزيز يصلي | مجلة الرسالة - العدد 35 صفحة من تاريخ أفغانستان المعاصر [[مؤلف:|]] |
من أحاديث القهوة: ← |
بتاريخ: 05 - 03 - 1934 |
لمناسبة حوادثها الأخيرة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
غادر أمان الله ميدان الحوادث في أفغانستان في ربيع سنة 1929 كما قدمنا، وفر مع زوجه وأسرته مثقلا بما يدخر الأمراء الطغاة مثل هذا اليوم من مال مغتصب؛ ولكن الملك الجديد باشا السقا أو حبيب الله لم يستطع أن يبسط سلطانه على غير كابول وضواحيها، ولبثت أفغانستان تضطرم بالحرب الأهلية، وزعماء القبائل القوية ولا سيما الشنوارى وغلزة يتطلع كل منهم إلى الملك. عندئذ ظهر في ميدان الحوادث رجل لم يكن له في بدء الفتنة من الأمر شيء، وكان يقيم منذ حين بعيداً عن وطنه في معزل عن الحوادث. ذلك الرجل هو الجنرال نارد خان. وكان من قبل وزيراً للحربية وقائداً عاماً للجبيش في حكومة الملك أمان الله. ولكنه لما رأى اندفاع أمان الله في سياسته الطائشة، استقال من منصبه وعين سفيراً لأفغانستان في باريس، وأبعد بتلك الوسيلة عن طريق أمان الله. فلما نشبت الثورة وتفاقم خطر الحرب الأهلية لبى نادر خان داعي الوطن وعاد إلى أفغانستان ليحاول إخماد الفتنة وإنقاذ أفغانستان من عواقب ذلك النزاع الخطر، ولكنه ألفى الموقف مستحيلا؛ فاعتزم أن يخوض المعركة وأن يحاول سحق ذلك الزعيم المتغلب الذي أثار هذا الضرام، وجعل من أفغانستان مسرحاً لجريمة والفوضى؛ فحشد أنصاره وفاوض زعماء القبائل القوية. ومنالمعقول أيضاً أن تكون السياسة الإنجليزية قد أدت مهمتها التاريخية في هذا النزاع، وأمدت نادر خان بالمعاونة المطلوبة لأنها رأت فيه زعيماً مستنيرا متزناً، ولأنها تحرص دائماً أن يستتب الأمر في أفغانستان لأمير يؤثر التعاون مع بريطانيا العظمى. وعلى أي حال فقد استطاع نادر خان أن يشق طريقه، وأن يهزم قوات المتغلب والثوار في عدة معارك؛ ثم زحف أخيراً على كابول ودخلها في أكتوبر سنة 1929، وقبض على حبيب الله وأمر به فأعدم رمياً بالرصاص؛ وقبض على زمام السلطة في كابول. بيد أنه لم يكن سيد الموقف بعد، لأن الثورة لبثت تضطرم في مختلف الأنحاء. وكان نادر خان كما قدمنا من معارضي سياسة التجديد الأوربي التي كان لها شأن في إضرام الثورة، أخرى أنه سيعمل على احترام أحكام الشريعة الإسلامية وتقاليد البلاد وحمايتها من كل انتهاك وعبث؛ وأخذت الثورة تهدأ شيئاً فشيئاً، ونادر خان يصرح أنه لا يبغي العرش وأنه يتركه للرجل الذي تختاره أفغانستان. على أنه لم يك ثمة شك في نتيجة هذا التطور، فقد انتهى نادر خان بارتقاء العرش بعد ذلك بأيام قلائل (15 أكتوبر) على يد جمعية وطنية من الزعماء نادت به ملكاً وأيدته معظم العناصر القوية في البلاد.
وقد ولد السردار محمد نادر خان في سنة 1883 من والدين ينتمي كلاهما إلى أصل ملكي. وظهر منذ فتوته بالبراعة، الحربية وتولى منذ سنة 1919 قيادة حرب الاستقلال الأفغاني في صف الملك أمان الله، ولبث مدى أعوام شخصية بارزة في حياة أفغانستان العامة؛ ولكنه أبى التعاون مع أمان الله مذ رأى تطرفه واندفاعه. وتولى نادر خان الحكم في غمار من الصعاب، ولكنه أبدى منتهى الاعتدال والكفاية والحزم؛ وألغى جميع الإجراءات المتطرفة التي اتخذها أمان الله؛ ورد أحكام الشريعة كما كانت، ونظم علائق أفغانستان مع الدول؛ وكان بريطانيا العظمى أول الدول التي اعترفت بحكومته؛ واهتم نادر خان بإصلاح الجيش وتقويته، ولبث يعمل في مثابرة وجلد حتى عادت السكينة إلى البلاد واستقر الأمر في نصابه نوعا. ولكن بعض القبائل القوية ولا سيما قبيلة الشنوارى لبثت محتفظة بموقفها من الاستقلال عن كل سلطة. ولم تمض أشهر قلائل حتى عادت لثورة والقلاقل العنيفة تهدد سلام البلاد وأمنها؛ فعاد نادر خان الكفاح؛ وكانت تعترضه صعاب فادحة مالية وغيرها. واستمر الثورة تخبو وتضطرم في أفغانستان مدة الأربعة أعوام التي حكمها نادر خان. بيد أنها كانت ثورات محلية؛ ولم تتخذ ذلك العنف الذي تتحول معه مصاير أفغانستان إلى وجهة جديدة؛ وكان نادر خان دائماً رجل الموقف؛ وبذل نادر خان جهوداً صادقة لإصلاح نظم الحكم والادارة، وجرى في الحكم على نظام الوزارة الحديث، وأنشأ مجلساً تمثيليا (برلمانا) يقوم بمهمة التشريع بإشرافه، ولزم جانب الاعتدال في سياسة الإصلاح، ورد المرأة الأفغانية إلى حجابها ومنزلها، ولم يحاول أن يغير بالعنف شيئا من تقاليد البلاد الدينية أو الاجتماعية؛ وسار بأفغانستان في طرق التقدم والتوطد رغم القلاقل التي كانت تعترض سبيله من آن لآخر، وعادت السياسة البريطانية فوثقت علائقها مع أفغانستان، وقامت السفارة البريطانية في كابول مرة أخرى، وطبقت المعاهدة المعقودة بين البلدين منذ سنة 1921. وبالجملة فقد بدأت أفغانستان على يد هذا الأمير القوي الحازم مرحلة من الاستقرار والتقدم وكان مقدار ان تطول وان تثمر خير النتائج لو لم يذهب نادر خان فجأة ضحية الاغتيال السياسي.
لم يكن مقتل نادر شاه مفاجأة كما قدمنا، فقد رأينا أن عرش أفغانستان يقوم على بركان مضطرم من المنافسة الدموية، ورأينا كيف يذهب معظم الجالسين عليه ضحية الغدر والغيلة. ولم تتضح العوامل والظروف الحقيقية التي ذهب ضحيتها نادر شاه بعد وضوحاً كافياً يسبغ عليها للون التاريخ الحق. ولكنا نستطيع أن نتتبع هذه العوامل في معترك البغضاء السياسية والشخصية التي تتربص منذ بعيد بنادر شاه وأسرته، وإليك خلاصة ما يقال في اصل الجريمة وأسبابها
كان غلام نبي بين زعماء أفغانستان المقربين إلى الملك أمان الله ومن اكبر معاونيه. وكان يشغل منصب سفير أفغانستان في باريس أيام حكم الملك أمان الله، ويشغل أخوه غلام صادق منصب سفير أفغانستان في برلين. وهو من أسرة (تشركي) القوية، فلما سقط أمان الله وتولى نادر خان، أقيل غلام نبي وعين مكانه في سفارة باريس السردار شاه والي خان أخو نادر شاه، ثم أقيل أخوه غلام صادق بعد ذلك من سفارة برلين وعين مكانه أخ للملك أيضا هو السردار محمد عزيز خان.
ولبث غلام نبي حينا في أوربا ثم عاد إلى أفغانستان بشفاعة آخي الملك والي خان وبعد وعد ملكي بالأمان. واستخدمه نادر شاه في مهام عسكرية وسياسية في بعض الاقاليم، ولكن غلام نبي كان يضطرم بأطماع خفية، وكان يبث دعوة الثورة ضد نادر شاه خفية ويدعو لصديقه السابق أمان الله، ووقف نادر شاه على طرف من مساعيه فاستدعاه إلى كابول واستدرجه على مجلس عقده في قصره بضاحية (الارج) التي تضم القصور والقلاع الملكية، ولما ظهر نبي خان أمامه أبرز له بضع الوثائق التي تثبت خيانته، فحاول غلام نبي الجدل والمكابرة، ولكن نادر شاه كان قد أعد العدة للتخلص منه وفي الحال ظهر عدة جنود مدججين بالسلاح وانقضوا عليه وقتلوه خنقا أمام عيني الملك. وأخفى نبأ موته حتى عقد نادرشاه في اليوم التالي محكمة من الرؤساء اجتمعت سرا وقضت بإعدام غلام نبي جزاء خيانته، ثم نشر نبأ إعدامه بعد ذلك في الجريد الرسمية، وعلمت أسرة (تشركي) أسرة غلام نبي القوية - بمصرع زعيمها، وأقسمت بالانتقام
وكان ذلك في الثامن من نوفمبر سنة 1932، أي لعام بالضبط قبل مقتل نادر شاه. وعلى أثر ذلك قبض على كثيرين من أسرة غلام نبي وأتباعه. وكان ممن قبض عليهم بسبب الحادث عامل جنان من أتباع غلام نبي وولده، وهو طالب في السابعة عشرة من عمره يدعى عبد الخالق، فاعتقل الفتى أياماً ثم أطلق سراحه بشفاعة وزير المعارف لأنه طالب مجد متفوق في الألعاب الرياضية ولم تلحقه أية شبهة. وكان الفتى عبد الخالق هذا هو قاتل نادر شاه في المستقبل
أقسمت أسرة (تشركي) بالانتقام وعملت له، وظهرت البوادر الأولى لانتقامها المبيت في يوليه سنة 1933، في برلين حيث قتل السردار محمد عزيز خان أخو الملك نادر شاه وسفير أفغانستان في برلين، قتله طالب أفغاني من حزب (أفغان الفتاة) الذي يناصر سياسة الملك أمان الله، واتجهت الريب يومئذ إلى غلام صادق أخي غلام نبي الذي كان يشغل من قبل منصب سفير أفغانستان في برلين وعرضت أسرة غلام نبي في كابول بسبب هذا الحادث إلى مطاردات واضطهادات جديدة، وازداد الملك نادر شاه ريباً فيها وحذراً منها، وازدادت الأسرة ظمأ إلى الانتقام.
وكان الفتى عبد الخالق أثناء ذلك متصلاً بأسرة غلام نبي التي يعمل لديها أبوه، وكانت الأسرة تبث إلى كل من يتصل بها روح البغض لنادر شاه والنقمة عليه. وهنا تروي قصة غرام وانتقام خلاصتها أن الفتى عبد الخالق هام بحب سيدة رائعة الحسن من سيدات أسرة غلام نبي، وأنها شجعته وبادلته الهوى، وأغدقت عليه كل عطفها وحنانها، وكانت أبواب القصر تفتح لعبد الخالق صباح ومساء، ويلتف حوله سيدات الأسرة جميعاً، ويبذرن في نفسه المتيمة الهائمة ضرام البغض والنقمة، وكانت صاحبته الحسناء تملك عليه كل حسه وتفكيره، وتصور له المستقبل بديعاً فياضاً بالآمال الكبيرة، وذا قتل نادر شاه وعاد أمان الله، فأن أسرة تشركي تعود إلى سابق مجدها ونفوذها، ويغدو عبد الخالق وأسرته من ذوي النفوذ والغنى.
ولم تمض أشهر قلائل حتى نضج المشروع، ولم يبق على عبد الخالق إلا أن يتحين فرصة التنفيذ. وسنحت هذه الفرصة في اليوم الثامن من نوفمبر، وكان قد تقرر أن تقام في هذا اليوم مباراة في الكرة بين فريق المدرسة الفرنسية الأفغانية، وفريق المدرسة الألمانية الأفغانية التي ينتمي عبد الخالق إلى طلبتها ويعمل عضواً في فريقها الرياضي. كذلك تقرر أن يرأس الملك نادر شاه الحفلة ويتولى توزيع الجوائز على الفائزين، وأقيمت المباراة في إحدى ساحات الحدائق الملكية في (أرج) في عصر هذا اليوم. وقصد الملك نادر شاه مع ولده ظاهر شاه وعدة من الأكابر إلى الخيمة الملكية لمشاهدة المباراة، وفي أثناء سيره خرج من صف الطلبة المجاور له طالب يرتدي ثياب اللعب، واقترب منه بسرعة ورفع يده وأطلق ثلاث رصاصات متواليات، فوضع الملك يده على قلبه وسقط صريعاً على الأثر، وكان هذا الطالب هو عبد الخالق. ووقع الحادث بسرعة مدهشة، وذهب دوي الرصاص في الضجيج والهواء فلم يفطن له أحد. وساد الهرج وقبض على المعتدي وتمت المأساة.
هكذا تروي العوامل والظروف التي دبر فيها مقتل المغفور له نادر شاه، وهكذا توصف الصورة التي تمت الجريمة وقد كان للحادث دوي عميق؛ وكان مدبرو الجريمة يؤملون على ما يظهر أن يحدث موت نادر شاه اضطرابا وقلاقل ينتهزها خصوم الملك القتيل لإضرام الثورة؛ وكانت بوادر الثورة تبدو في الجنوب منذ حين؛ ولكن السردار محمودوزير الحربية وأصغر أخوة الملك القتيل أبدى منتهى الحزم والسرعة في تلافي هذا الأثر، فلم تمض ساعة واحدة على مقتل نادر شاه حتى كان قد استدعى الوزراء والقادة والزعماء إلى القصر، ونادى في الحال بظاهر شاه ولد الملك نادر شاه الوحيد ملكا على أفغانستان مكان أبيه؛ وحياة الزعماء والقادة والضباط في الحال بلقب الجلالة. وقد أبدى السردار محمود في ذلك تضحية وحكمة سياسية بعيدة المدى، لأنه من حق اخوة الملك طبقا لقانون العرش الأفغاني أن يرثوا العرش؛ ولكن السردار محمود أدرك في الحال ما قد تثيره مسألة العرش بين أخوة الملك الثلاثة وبين المتطلعين إلى العرش من الاضطراب الخطر على سلام البلاد؛ وجاء رفع ظاهر شاه إلى العرش حاسماً لكل خلاف وجدل وفي الحال زج الفتى القاتل إلى قلعة القصر، ووجد معه على ما يقال صور الغادة الحسناء التي حرضته فقبض عليها، وقبض على كثيرين من أسرة غلام نبى رجالا ونساء وأطفالا، وقبض على كثيرين من زملاء عبد الخالق في المدرسة وعلى بعض المدرسين، بل وعلى وزير المعارف؛ وهبت على العاصمة الأفغانية ريح من الروع والرهبة؛ ومازالت أقبية السجن الملكي غاصة بالمقبوض عليهم ولا يعلم حتى اليوم من زهق منهم ومن باق على قيد الحياة
وملك أفغانستان الجديد جلالة ظاهر شاه في العشرين من عمره وهو ولد نادر خان الوحيد، ولكن له أربع شقيقات هن بالتعاقب: الأميرة زهرة وهي في السابعة عشرة، والأميرة زينب وهي في الخامسة عشرة، والأميرة سلطانه وهي في الرابعة عشرة والأميرة بلقيس وهي في الثانية عشرة، وقد تلقى ظاهر شاه بعض تربيته في فرنسا، وأقام هنالك نحو ثمانية أعوام، وهو ذو آراء وتربية عصرية ويجيد اللغة الفرنسية فضلا عن الفارسية والأوربية (الهندية).
وقد كان منذ حين، أثناء حياة والده يتولى بعض الوزارات والمهام الرسمية طبقا للتقاليد أمراء الأسرة الملكية؛ وهو بعد الملك غازي، ملك العراق أحدث ملوك الشرق والغرب سنا.
وقد مضى إلى اليوم زهاء أربعة أشهر مذ تولي ظاهر شاه عرش أفغانستان دون أن نسمع بحدوث اضطرابات أو قلاقل جديدة، والظاهر أن حكومة الملك الجديدة تقبض على ناصية الموقف، وأن بوادر الثورة التي كانت على أهبة الانفجار قد أخمدت أو اختفت إلى حين وأن الشعب الأفغاني يؤيد القابضين اليوم على زمامه. وهكذا تتحطم آمال المتطلعين إلى العرش وفي مقدمتهم الملك السابق أمان الله مرة أخرى.
ونحن نغتبط إذ نرى أفغانستان تجوز أزمتها الخطيرة بمثل هذه السرعة، ونرجو أن تظل هذه الشقيقة الشرقية النابهة متمتعة بالاستقرار والسكينة، بعيدة عن كيد السياسة الأجنبية ومطامعها؟
محمد عبد الله عنان