مجلة الرسالة/العدد 349/رسالة الفن
→ أناشيدي!. . . | مجلة الرسالة - العدد 349 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 11 - 03 - 1940 |
تأملات في الفن:
يا علماءنا. . . نريد أن نعرف!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- خذ كل من هذا الحمص. إنه من السيد البدوي
- وهل كنت في طنطا؟
- نعم. ضيفة عند ناس
- أو لم يعجبك شيء في طنطا غير الحمص؟
- السمن هناك جيد، والخضار أجود
- همُّ بطنك ولا شيء يشغلك غيره، ألم تفكري في زيارة السيد البدوي الذي تأكلين حمصه هذا؟
- زرته. ولم أنس أن أدعوه لك
- شكراً. فلست أدعو غير الله. . . أو لم يعجبك شيء في مسجد السيد البدوي؟
- لا أذكر، فهو مسجد كبقية مساجد ربنا
- صحيح. ولكن فيه منبراً هو نفسه صلاة صامتة قائمة دائمة
- يا سلام. . . لم يلفتني أحد إليه
- وعيناك هاتان المبرقتان تحملقان ولكنهما لا تريان. امرأة!. . .
- تركنا منبر السيد البدوي وعدنا إلى امرأة ورجل، ما لها المرأة؟ كل ما حدث أني شغلت عن النظر إلى المنبر بالنظر إلى السيد نفسه. . .
- ولا السيد. بل قولي إلى الزوار
- آي، كنت أنظر إلى الزوار. أليس في النظر إلى الرجاء المتألق في وجوههم لذة؟
- وأي لذة عند المرأة أحلى من أن ترى الرجاء متألقاً في وجهه
- كان الزوار كلهن نساء
- ولماذا هذا التخصيص، ولماذا أسرع إلى ذهنك هذا الخاطر السيئ فتسرعي إلى إنكاره بهذا الحسم الجازم. . . أفتظنين أنك هربت من السوء إلا إلى الأسوأ؟
- وهل يسوء مجتمع النساء أكثر مما يسوء إذا اختلطن بالرجال؟
- من غير شك. فهن بين الرجال قد يخجلن فيحتشمن، ولكنهن إذا انفردن انطلقن تتفرس كل منهن في الأخرى. وتفترس كل منهما الأخرى. وما أعجبها إذن معمعة حين تشب في ضريح أو مسجد، ينقلب المسجد من مطهرة إلى. . . إلى مدرسة!
- مدرسة؟! على أي شكراً لله فقد توقعت أن تقول شيئاً آخر. . . ولكن لماذا تقول إن اجتماعنا في المسجد يقلبه إلى مدرسة. . .
- لأنكن بطبيعتكن، إما أن تكن تلميذات، وإما أن تكن معلمات، ولا يمكنكن أن تكن غير ذلك إلا إذا فسدت طبيعتكن. فإذا وصف إنسان اجتماعاً من اجتماعاتكن بأنه مدرسة كان يبني وصفه هذا على خير الفروض فيكن. . .
- كلامك محتاج إلى برهان
- هذا يحتاج برهاناً؟ لا بأس. . . اسمعي. . . منبر السيد البدوي. . .
- عدنا إلى منبر السيد البدوي. . . لن نعود إلى ذكره حتى ننتهي مما كنا فيه. . .
- سننتهي منه ومما كنا فيه معاً. . . أريد أن أقول لك إنه آية فنية رائعة، وإنه على ضخامة حجمه وتعقيد تركيبه، مؤلف من قطع صغيرة التحم بعضها إلى بعض من غير غراء ولا صمغ ولا مسمار واحد، وإنه صنع في عهد واحد من الخديويين المتأخرين. ولقد أقيم للأستاذ الذي صنعه أستوديو أو (أتيليه) خاص كان مؤلفاً من عدة خيام، وإن الخديوي طلب يوماً أن يشرف هذا الأستوديو بالزيارة ليشاهد المنبر أثناء تاليفه، فأعتذر الأستاذ بأنه لا يستطيع أن يعمل إذا كان عليه رقيب غير الله. . . كما إنه لا يستطيع أن يصلي وبينه وبين القبلة إنسان ممتنع عن الصلاة جالس أو واقف ينظر إليه ويحصي عليه حركاته وسكناته. . . فهو لا ريب يشغله ويعوقه عن إحسان الصلاة على الأقل. . .
- عجيبة! ومن هو هذا الأستاذ الفيلسوف، وماذا كان رد الخديوي عليه. . .
- ما كان الخديو محب الفن إلا ليقدر مثل هذا الاعتذار وأن يجيزه إكراماً لفن الأستاذ (علي جَلَّطْ)!
- علي ماذا؟ جلط؟! يا له من اسم مضحك! - و (ميكيلانج) أليس اسماً مضحكا؟! ألأِن علياً مصري تضحكين من اسمه، ولأن الآخر من سادتكم أهل الغرب تستسيغين اسمه على ما فيه من عجمة؟. . . إن ميكيلانج وميكي ماوس ليسا من أسمائنا، وإنه من أسمائنا (جلط)، وبهنس، وغلوش، وزينهم وما أشبه. . . فلماذا نتحرج من أسمائنا ونضحك منها ساخرين، وحقنا أن نضحك - إن ضحكنا - معجبين بما فيها من النكتة فلا ريب أن هذه الأسماء الغريبة لا تطلق في مصر إلا لمناسبات
- أريد أن أسألك عن هذه المناسبات، ولكني أخشى أن نخرج من الأستاذ علي إليها، فلا نعود منها، وقد كنا قبل هذا وذاك في موضوع آخر هو موضوع (المدرسة)، الذي أظن أنك لا تزال تذكر أننا تركناه معلقاً. . .
- امرأة مرة أخرى: لا تغفل ولا تنسى، وهو من شروط التلميذة الناجحة، والمعلمة البارعة. . . أما الأستاذ علي يا أبلة، فلعلهم لقبوه بلقبه، لأنه (جلط) يوماً لحيته بزجاجة أو حدث منه شيء كهذا. . . وأما منبره يا آنستي، فهو الآية الفنية التي لا يمكن أن توصف، وإنما يجب أن ترى وان تدرس، وأما أنت فامرأة، ولم تلتفتي إلى هذه الآية الفنية العجيبة، لأن أحداً لم يلفتك إليها، وهذا شأن التلميذات، وأنا أراهن أنك إذا زرت السيد البدوي بعد اليوم، فإنك ستصحبين صاحبة أو اثنتين، لا لشيء، إلا لتلفتيهما أنت إلى المنبر لتكوني لهما معلمة وتكونا هما تلميذتين، ولست أراهن على هذا إلا لثقتي منه، ولست واثقاً منه إلا لعلمي بأنه شيء في طبعكن، فالله أعدكن لتكن أمهات، والأمهات مربيات، والمربيات معلمات، والمعلمات يكن تلميذات قبل أن يصبحن معلمات. . . ولا شيء غير هذا يا زين البنات. . .
- تلفيقات وترهات! فنحن أكثر مما تظن، فمنا الآن مهندسات وطبيبات وفنانات ومحاميات. . . كما إنه منا معلمات!
- هؤلاء جميعاً تلميذات، حتى المعلمات. . . كي ترتاحي وتسكتي. . .
- أسكت؟ إن سكت عن خطل الرأي، فلن أسكت عن تراجعك وانتقاضك على ما سبقت وقررته. . . كيف أسكت وقد رددت المعلمات تلميذات؟!
- لأنهن هكذا، فليست فيهن واحدة. . . لها طريقة خاصة بها في مهنتها أو فنها. . . وعلى الرغم من أن الله قد أعدهن ليكن معلمات، فإنهن لا يعلمن إلا ما تعلمن. . .
- وهل تريدهن يعلمن ما لم يعلمن؟. . .
- أفهن لا يعلمن إلا إذا تعلمن؟. . . لماذا لا يتعلمن هكذا من الحياة رأساً. . . أفنامت عقولهن عن تجاربهن وخبرتهن ومشاهدتهن في كل شأن من شؤون الدنيا إلا المسألة الدنيا؟
- كلا! إني لا أوافقك في هذا. فإن فينا إمامات وعلى الخصوص في التربية وفي الفنون. كيف يمكنك أن تجحد المربية مونتسوري، والممثلة جريتا جاربو، والمغنية جريس مور، والراقصة جنجر روجرز و. . . و. . . و. . .
- أما مونتسوري فمعلمة جاد بها الزمن في القرن العشرين بعد أن ظل الزمن يجود بالمعلمين من قبل سقراط وأرسطو. وعلى أي حال فإن مدام مونتسوري لا تزيد على أن تكون مخترعة لبعض ألاعيب الأطفال. وأما الباقيات اللواتي ذكرتهن هؤلاء فلا أزال أقول إنهن تلميذات فجريتا جاربو لم تكن شيئاً قبل أن يكتشفها أستاذها المخرج السويدي الذي نسيت اسمه وأظن أنك تذكرينه، وأما جريس مور فإني أتحداها أن تغني شيئاً إذا لم يلحن لها الملحنون الأغاني، وأما تلك التي ترقص كالعفاريت التي اسمها جنجر روجرز فقد جربت أن تنفصل عن أستاذها فريد أستر فأخفقت فعادت إليه ومع ذلك فهي لا تزال تتطاول عليه وتقول عنه إذا ذكرتها إنه زميلها وليس قائدها وأستاذها. . .
- وكاي فرانسيس التي تحبها؟
- أنا أحب عينيها أكثر مما أحب فنها
- عينيها؟ لقد قلت مرات إنها ممثلة نابغة
- لو لم يهبها الله هاتين العينين ما كانت نابغة وما كانت ممثلة. هما عينان لو رزقهما رجل لما استطاع إلا أن يكون قديساً ربانيا من غير ما شيء يعرقله. . . فيهما صفاء وشفافة فهما ينضحان بما وراءهما من فكرة أو عاطفة، فصاحبهما لا يستطيع أن يكذب إلا إذا أغمضهما أو سبح بهما في الفضاء لا يوجههما إلى عيني محادثه، وهذا شيء يدل على الكذب والصدق أهون منه، فإذا داوم صاحب هذين العينين الصدق عجزاً عن الكذب في أول الأمر فإنه سيداومه بعد ذلك اعتياداً له، ثم يداومه أخيراً حباً له، والصدق كما قلت لك مرات هو الخطوة الأولى نحو الله. . . وعلى هذا كانت كاي فرانسيس بهاتين العينين مقصرة حين انتهى أمرها عند أن تكون ممثلة نابغة. . . فهمتِ؟!
- إذن فقد انقلبت على نفسها إذ تمارس الآن الكذب؟ فليس التمثيل إلا الكذب
- لو كانت كاي فرانسيس تكذب ما كانت أعجبتني، وإنما هي تصدق، ولا تمثل إلا ما تحسه أو ما أحسته، ولعلك تلحظين أنها لا تكثر من الظهور، ولعلك أدركت أن سبب هذا هو أنها تنتظر حتى يوافيها الدور الذي يلائمها والذي تكون قد أحاطت بمثله في حياتها. . . وحياتها كما أظنك تعرفين فيها ما فيها، وأبرز ما فيها أنها تمثل بهاتين العينين الصافيتين الشفافتين. . . فرغ الحمص. أليس معك غيره؟
- خذ، ولكن بعد أن تعترف ولو لكاي فرانسيس وحدها بأنها أستاذة.
- ليس ما يمنعني من ذلك. فقلها أن تكون أستاذة، ولك أنت أيضاً ذلك إذا زرت منبر السيد مرة أخرى وأديت له حق التأمل والدرس والترحم على صانعه، ولم يشغلك في زيارته النظر إلى الزائرات من أترابك والتحقق من ملبسهن وزينتهن ولغاتهن
- ولكنك قلت إن هذا من طبع المرأة
- هو طبعها في التلمذة، وأنت تريدين أن تكوني أستاذة، والأستاذة هي التي فرغت من النظر إلى غيرها وبدأت نفسها تفيض بما فيها. . . وأظن أن المرأة لا تكره هذا إلا لسبب واحد. . .
- ما هو هذا السبب أيضاً؟
- هو خشيتها من الكبر، فبهذه الخشية تدمن النظر إلى غيرها تخدع نفسها متخيلة أنها صغيرة لا تزال في حاجة إلى التعلم. . . حتى إذا ما فاجأتها التجاعيد آمنت بأنها أستاذة، ولكنها بعدئذ تقضي الحياة في حسرة بدلاً من أن تقضيها في عمل. . . سنة الله التي شاءت لكن أن تقبعن في بيوتكن. . .
- سأقبع ولن أزور المنبر. . .
- زوريه أو لا تزوريه، فستعرف الدنيا خبره يوم ترقى مصر ويبحث علماؤها عن تاريخ علي جلط ومحمد البقري وغيرهما من أهل الفن العربي الذي يقدره الغربيون حق قدره ويردون إلينا من أقصى الأرض وأدناها لينعموا بمشاهدته وليأخذوا عنه، حتى إذا سألونا عمن أنتجه من آبائنا قلنا: اللهم إنا لا نعرف - أما الأستاذ علي فقد عرفته بمنبر السيد، ولكنك لم تذكر لي من هو محمد البقري. . .
- صاحب الزخرفة العربية الرائعة التي يتحلى بها (بنك مصر) وتياترو حديقة الأزبكية. . . وإذا كنت أنا أعرف هذين فإني أجهل صاحب السلطان حسن وصاحب مسجد القلعة والمؤيد والرفاعي، وغير ذلك من الآثار العربية الخالدة. . . فهل لك أن تسألي لي واحداً من علمائنا عنهم؟. . .
- بإذن الله سأسأل. . . ولكن لماذا لا تهتم أنت بتتبع أخبار هؤلاء وهو أمر شديد الصلة بعملك؟. . .
- قد يكون هذا حقاً، ولكن الوثائق تعوزني، فإن أغلب الآثار العربية، قد أرخت منسوبة إلى الملوك الذين أنشئت في عصورهم، ولم تنسب إلى الفنانين الذين عصروها من دمائهم، وقد جربنا على هذه السنة حتى في عصرنا الحديث فنحن لم نذكر (علي جلط) ولا (محمد البقري) في آثارهما مع أنهما محدثان قريبان وهما لم يعنيا بهذا لأنهما كانا أخلص للفن من أمثالهما الغربيين، ولم يكونا يسعيان بالفن إلى الذكر الباقي ولا إلى الربح المادي، وإنما كانا يؤديانه زكاة عما وهبهما الله من ملكة وبصيرة ونظر. ولقد كانا يتعبدان به عبادة، ولو أنه خطر لأحدهما أن يستغل فنه استغلالاً مادياً لخلف الأموال الطائلة والصيت الرنان. . . ولكن الواحد منهما كان لا يعمل إلا إذا احتاج إلى القوت، فإذا عمل تفانى في عمله وجاء فيه بالمعجزات المحيرة. . وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، والذي إذا سئل عن نفسه قال إنه (نجار دقي)!
- فأي شيء هو؟. . .
- إنه مهندس زخرفة ينفذ بيده ما يتصوره عقله من غير أن يستعين على ذلك برسم التصميم على الورق. . . وهذا شيء لا يستطيعه إنسان في الغرب وعلى الخصوص إذا تصدى للزخرفة العربية المجردة المعقدة المتجددة
عزيز أحمد فهمي