الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 349/إنما يزدهر الأدب

مجلة الرسالة/العدد 349/إنما يزدهر الأدب

بتاريخ: 11 - 03 - 1940


في عصور الفوضى الاجتماعية

للدكتور زكي مبارك

(أقيمت في كلية الآداب مناظرة بين الدكتور زكي مبارك

والأستاذ لطفي جمعة برياسة الدكتور إبراهيم مدكور، واشترك

فيها فريق من طلبة الكلية، وانتصر الحاضرون للرأي الذي

دافع عنه الدكتور مبارك بهذه الخطبة الصريحة، الخالصة من

شوائب التودد للجمهور).

تعلمون أن أمثال هذه المناظرات لا يراد بها غير إيقاظ العقول بفرض طوائف من المذاهب والآراء، فالمناظر لا يؤاخذ بالرأي الذي ينحاز إليه، ولا يطالب بالوقوف عندما يؤمن بصحته من الأدلة والبراهين

ليست هذه المناظرات إلا حركة عقلية يراد بها عرض صور مختلفة للوجه الواحد من وجوه الفكر والرأي، فليس من حق أحد أن يقول: إني أدعو إلى الفوضى حين أقرر أنها من الفرص السوانح لازدهار الآداب والفنون

وبعد تسجيل هذا التحفظ أقول: إني مؤمن بالرأي الذي أعرضه اليوم من فوق منبر كلية الآداب، فلا يضيرني أن أتهم بحمد الظروف التي تشيع الفوضى في المجتمع، ولا يؤذيني أن تكون أصواتكم في صف خصمي، وهو صديق أعاديه في هذه الساعة عداوة مؤقتة

وأسارع فأعترف بأني أخاف أن تكون الهزيمة من نصيبي، لأني اخترت الجانب الشائك من مناظرة اليوم، ولأني أخشى أن يميل السامعون إلى إيثار السلامة، فيعلنوا تأييدهم لرأي الخصم المحترم، حتى لا يقال: إن كلية الآداب تشجع من يرى أن (الفوضى الاجتماعية) قد تعود بالنفع على الآداب والفنون، وهي معهد يثور حوله الغبار من حين إلى حين

وأنا أفترض سلفاً أن الهزيمة ستكون من نصيبي لأواجه المناظرة بعزيمة المستقتل المستميت، ولأجد ما أعزي به نفسي حين ترونني أبليت في الدفاع عن رأيي أحسن البلاء ومن أجل هذا، زهدت في البراعة الخطابية، وأعددت خطبتي، وقُدِمت بها مكتوبة بلغة صريحة، لتكون حجة باقية على صحة الرأي الذي تعصبت له وانحزت إليه

أنا أرى أن الأدب لا يزدهر إلا في عصور الفوضى الاجتماعية، فما هي الحجج التي تؤيد هذا الرأي الجريء؟

أستطيع أن أقول إن الفوضى الاجتماعية ترجّ الأذهان رجاً عنيفاً، وتفتح أمام الأذواق أبواباً ومذاهب، وتقهر العقول على التفكير في مصاير الإنسانية عند اضطراب المجتمع

وأستطيع أن أقول إن الفوضى هي التي مهدت السبيل إلى ظهور الحكمة على ألسنة الحكماء، ولو شئت لقلت إن النبوات لم تظهر إلا في الأوقات التي غلبت فيها الفوضى على المجتمع

فيكم من قرأ القرآن، وفيكم من قرأ التوراة، وفيكم من قرأ الإنجيل؛ فهل فيكم من يجرؤ على القول بأن تلك الكتب المقدسة خلت من الثورة على اضطراب المجتمع؟ وهل فيكم من ينكر أن أعظم الجوانب في تلك الكتب هي الجوانب الخاصة بالتشريع؟

ولمن توضع قواعد الشرائع إذا اطمأن الأنبياء إلى أن المجتمع في أمان من شر الفساد والانحلال؟

وما قيمة الفضائل التي تمدّح بها الصالحون إذا صح أن العالم صحيح الأديم وأنه لا يعرف التمييز بين الفاضل والمفضول، ولا يشهد الفرق بين الصحة والاعتلال؟

وهل سميت الفضائل فضائل إلا بالقياس إلى الرذائل؟ وهل تصور الناس معنى الحياة إلا بعد أن شهدوا صورة الموت؟ وهل أدركوا رَوح اليقين إلا بعد أن أدركوا قلق الارتياب؟

اسمعوا كلمة الحق

إن سلامة المجتمع من الفوضى والاضطراب لا تصل بالناس إلا إلى غاية واحدة: هي الأمان المطلق، والأمان المطلق يقود الناس إلى هاوية البلادة والغفلة والحمق

وأنا لا أنكر أن السعادة قد تكون من نصيب الأحمق والغافل والبليد، ولكني أنكر أن يكون التفوق في الأدب من نصيب هذا الطراز من (السعداء) فالأدب فن من المحنة باصطراع العقول، واصطخاب الأهواء، واضطرام الأباطيل، وهو التعبير الصادق عما يثور في المجتمع من الاقتتال العنيف بين الرشد والغيّ هل قرأتم وصف الجنة في الكتب الدينية؟ فيها من كل فاكهة زوجان، وفيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فيها كل الطيبات، وفيها الأمان المطلق من المرض والموت. ولكن هل سمعتم أن الجنة سيكون فيها كتّاب وشعراء وخطباء وجرائد ومجلات وكلية آداب؟

وكيف تكون هذه المعاني في الجنة وقد أراح الله أهلها من صيال الشهوات والأهواء؟

قيل أن أهل الجنة سيكون أكثرهم من البُلْه، وقيل في تفسير ذلك إن البُلْه يقل تعرضهم للموبقات فيخرجون من الدنيا بسلام وقد أهلتهم البلاهة لاحتلال الفردوس

وأقول بغير ذلك التفسير، أقول إن أهل الجنة سيكونون بُلهاً لأن الله سيرحمهم من التعرض لآفات الشطط والجموح في ميادين الفكر والعقل والوجدان

وما حاجة أهل الجنة إلى الذكاء وهو عناء؟ إن الذكاء وسيلة للتخلص من المعاطب، وأهل الجنة في أمان من المعاطب

والأدب في جوهره تعبير عن بلاء الإنسانية بالصراع بين الحُسن والقُبح، والنضال بين الشك واليقين، فما حاجة أهل الجنة إلى ذلك التعبير وهم يُرزقون بلا حساب، ولا يحسون الخوف من تلون النفوس وتقلب القلوب؟

وأنتم تستطيعون الوصول إلى ما يشبه نعيم الجنة في كل وقت، إن رضيتم بحظوظكم في الحياة، ولكنكم لن تكونوا أدباء، لأن الأدب ليس إلا تعبيراً عن ظمأ الأرواح والقلوب إلى غايات عالية لا يدركها الراضون عن حظوظهم في الحياة

الأدب يأخذ وقوده من قلق الأفئدة والأرواح والعقول، ولا يقع ذلك القلق إلا عند اضطراب المجتمع. فليت شعري كيف يجد خصمي حجته وهو ينتظر ازدهار الأدب في رحاب المجتمع الهادئ الرزين؟

الأدب من صور الحياة، والحياة تَقلُّب وتَفزُّع وصراع، وهل يعرف السلام المطلق غير الأموات؟

إن أساتذة الآداب يتحدثون بأن عصور الانحطاط السياسي في الدولة العباسية كانت عصور تقدم في العلوم والآداب والفنون وهم يعللون ذلك بالتنافس بين الرؤساء والأمراء والملوك

فما رأيكم فيمن يذكر لذلك سبباً آخر هو اليقظة التي خلقها انحلال المجتمع السياسي في العصر العباسي؟ وهل كان النزاع بين العرب والفُرس إلا صورة من صور الاضطراب في المجتمع الإسلامي؟ هو ذلك، ولا ريب، فأين من ينكر أن النزاع بين العرب والفرس عاد على الحياة الأدبية بأجزل النفع، وقدم للأدباء فرصاً ثمينة لتشريح خصائص الشعوب؟

وتسمعون في كل يوم أن مصر لها الزعامة الأدبية بين الأمم العربية. فمن أين وصلت إلينا الزعامة وهي حق؟ أترونها نزلت علينا من السماء بعد انقضاء عصور الوحي؟ أترون الأمم العربية قدمتها إلينا هدية؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما كانت لنا الزعامة الأدبية لأننا نفوق سائر الأمم العربية في التمتع بأكبر نصيب من اضطراب المجتمع، وإليكم بعض البيان:

في بلادنا تصطرع جميع المذاهب والعقائد وفي بلادنا تقتتل جميع العادات والتقاليد. وفي بلادنا يلتقي البحران: بحر المدنية الشرقية وبحر المدنية الغربية. وفي بلادنا يجتمع الضب والحوت، وتمتزج أنغام المؤذنين بأصوات النواقيس

عندنا برج بابل المشهور في التاريخ، بل عندنا برجان هما الأزهر والجامعة المصرية، يتجه أحدهما إلى الشرق فيكون خلف الضفة الشرقية للنيل، ويتجه ثانيهما إلى الغرب فيكون حول الضفة الغربية

وهذا اضطراب بلا جدال، لأنه تقلب للوجوه بين الشرق والغرب، ولكن من هذا التقلب ظفرت مصر بالزعامة الأدبية بين الأمم العربية

فالأديب المصري يغرِّب إن شاء فيرى القاهرة في ثياب (أليس) ومرجريت، ويشرق إن شاء فيراها في عباءة ليلى وظمياء

وبفضل هذه البلبلة بين الحضارة والبداوة نهضت قواعد الأدب المصري الحديث

وقد حدثت تلاميذي بكلية الآداب في سنة 1927 أن الأدب لن يسمو ولن يرتفع إلا إذا اشتركت المرأة في سياسة المجتمع

ومعنى ذلك أن المرأة تخلُق في حياة الرجل ألواناً من الرضا والغضب، والقسوة واللين، وتسوق إليه فنوناً من الرفق والعنف والبؤس والنعيم

المرأة مصدر اضطراب في حياة الرجل، وبفضل عصيان جدتها حوّاء عرف جدنا آدم هذه الأرض، فحرث وزرع وحصد، وعرف معاني اليأس والرجاء، ومهّد لأبنائه سبيل الأدب الرفيع بوصف ما في الحياة من أزهار وأشواك، وحقائق وأباطيل والمرأة الوديعة لا تخلُق الأديب، وهل في الدنيا مرأةٌ وديعة؟

غضبة الله على جميع بنات حوّاء!

وما يهمني أن أدعوكم إلى الاصطباح والاغتباق بما عند الرعابيب من نزق وطيش، فلست من أنصار الفوضى الاجتماعية. واشتراك المرأة في المجتمع يجره حتما إلى الفساد والاضطراب، وإنما يهمني أن أنص على أن الشر الذي يصحب حياة المرأة يؤرث الحاسة الأدبية والفنية، بفضل ما يؤرث من الأذواق والأحاسيس

وفي الدنيا أحبار ورهبان وأشياخ كفاهم الله شر المرأة، فعاشوا سعداء، لا ينتقلون من البيت إلا إلى المعبد، ولا من المعبد إلا إلى البيت، وذلك نموذج للحياة الخالصة من شوائب القلق والانزعاج

ولكن هؤلاء لن يصيروا أدباء، ولن يكون لهم مكان بين أقطاب الفكر والعقل والذوق، وإن ظفروا بنعمة عظيمة هي السلامة من شر الناس

وما لي أبعُد بكم في عرض الشواهد؟ نحن اليوم في كلية الآداب؟ فما هو السر في تفوق هذه الكلية من الوجهة الأدبية؟ أيكون السر في أنها تدرس علوماً لا تدرس في الأزهر ودار العلوم؟

إن كان اختلاف العلوم هو سر التفوق فمن حق الأزهر أن يقول إنه يدرس علوماً لا تدرس في كليات الجامعة المصرية. ليس السر في المكان، وإنما السر في السكان، كما يقول أهلنا في الريف

إنما تتفوق كلية الآداب بسبب ما تعاني من الفوضى الاجتماعية فهي أول معهد يلتقي فيه الفتيان والفتيات بلا تحجّب ولا مداراة، فإن لم تكن أول معهد يلتقي فيه الفتيان والفتيات في الدرس الواحد فهي أول معهد كثر فيه بنات حواء حتى بلغ عددهن المئات

ومن المؤكد أننا غير راضين في سرائر أنفسنا عن هذه الصورة من صور المجتمع، وليس فينا من يطمئن كل الاطمئنان إلى أن تكون ابنته غرضاً للعيون، يتأثر خطواتها من يشاء من أهل الفضول.

كلية الآداب في فوضى اجتماعية بشهادة الأفاضل من رجال الدين وبشهادة الأستاذ أمين الخولي. وفي هذه الفوضى إثم كبير وفيها منافع، فما هي تلك المنافع؟ هي إذكاء المشاعر والعواطف والأحاسيس. هي قهر الفتيان والفتيات على تجميل مذاهبهم الحيوية في تناول شؤون الوجود

وهل من العيب أن يقال أن كل فتىً يسرّه أن يكون موضع الإعجاب من إحدى الفتيات؟

اتركوا النفاق لحظة واحدة واسمعوا صوت الحق

إن الطالب في كلية الآداب لا يستطيع ولن يستطيع أن ينسى إنه محوط بأرواح لطاف ستنال حياته الحاضرة بالتغيير والتبديل. وهذا الطالب أحد رجلين: رجل بسيط يتجمل بالظواهر والأشكال فيحرص على هندامه بعض الحرص أو كل الحرص، ليظهر أمام الفتيات بمظهر مقبول. ورجل عبقري الروح لا تهمه المظاهر والأشكال، وإنما يهمه أن يكون رجلاً يملك السيطرة بالمنطق والعقل والبيان

ومن هنا يجوز لكم أن تنتظروا مطلع الشمس من هذه الكلية، يوم يكون فيها طالبات لا يرون الرجولة في المظاهر والأشكال، وإنما يرون الرجولة في فحولة الأفكار والآراء والعقول. وإنما اخترت كلمة (يرون) بهذه الصورة الصرفية لأن بنات هذه الكلية (سيكونون) في إسناد الضمائر (مساوين) للرجال في مضمار المذاهب والآراء

ولن يقع ذلك بدون فوضى اجتماعية، ولكن تلك الفوضى ستصنع الأعاجيب في تأريث القلوب والعقول

أنا أكره الفوضى، وأرجو أن تخلو منها حياتي وحياتكم وحياة الأساتذة بهذه الكلية، إن صح أن فيكم وفيهم من ابتلته المقادير بالشكاية من اضطراب المجتمع الجديد

ولكني أقف هنا موقف المؤرخ لظاهرة من الظواهر الأدبية في معهد قد اشتغلتُ فيه بالتدريس أربع سنين، ومن حقي عليه أن يسمح بأن أجهر في رحابه بقول الحق، فأقرر أن الأدب يزدهر في عصور الفوضى الاجتماعية

وهل أراني في حاجة، بعد الذي سلف، إلى أدلة وبراهين؟

اسمعوا، اسمعوا:

(البقية في العدد الآتي)

زكي مبارك