مجلة الرسالة/العدد 348/الإسلام عدو الشرك والنفاق
→ في الطريق إلى يثرب | مجلة الرسالة - العدد 348 الإسلام عدو الشرك والنفاق [[مؤلف:|]] |
في جنازة الشرك! ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1940 |
للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي
رأى المشرع الإسلامي: أن يُبقى على فريضة الحج، والحج معروف في تضاعيف الزمان ومن أقدم العهود، أبقى عليه المشرع الإسلامي إبقاءً مهذباً مطهراً خالصاً من أدران الشرك ومن دنس الاعتقاد الرجس. أبقاه الإسلام، بعد أن افرغ عليه من جلال التوحيد، وأفاض عليه من معاني التقوى ما جعله منسكاً حافلاً بالخير.
وأي خير أوفر من شهود المنافع وتعرّف شؤون الأقطار الإسلامية، وشدّ أواصر المجتمع وإعداد النفوس لتلقى أسمى الفيوضات واستلهام الهدى واجتماع الكلمة؟
ونحن بسبيل أن نبين كيف اختار الإسلام موسم الحج ميدانا لإصلاح اجتماعي خطير؟ هذا الإصلاح هو: مهاجمة النفاق والكشف عن المنافقين وتمييزهم عن المجتمع ونبذهم، بعيدين عن المؤمنين لكي يسلم للأمة خلقها وتصح عناصرها. . .
أنزل الله على رسوله - صلى الله علية وسلم - في ختام ما نزل من القرآن سورة (براءة)، أو السورة (الفاضحة) التي فضحت الشرك وكشفت عن المنافقين، أنزلها الله في السنة التاسعة من الهجرة في موسم الحج
وقد كان محمد صلى الله علية وسلم - من قبل ذلك - يعرف خصومه من المشركين السافرين فيحذرهم وينكل بهم. ثم كان يعرف - أيضاً - أن بين أتباعه بعض المنافقين، فكان لا يجيبهم ولا يكشف عن أضغانهم ولا يبرز للمسلمين دخائل نفوسهم، إبقاء على الدعوة الإسلامية وهي في دور النمو والتكوين، حتى لقد بلغ من قسوة تلك الحالة على محمد صلى الله علية وسلم وعلى أصحابه، أن صاروا فريسة لمكائد النفاق وهدفا لمؤامرات المنافقين يدلون المشركين على عورات المؤمنين ويوضعون خلالهم يبغونهم الفتنة ومع هذا، هم لاصقون بالجماعة المحمدية. . .
(يحلفون ب الله إنهم لمنكم وما هم منكم، ولكنهم قوم يفرقون)
وقد بلغ من خطر النفاق على المجتمع يومذاك - أن دفعت أزمة حربية عنيفة للرسول - صلوات الله عليه - ولأصحابه، فكانت سانحة للمنافقين، أرجفوا فيها بموت محمد عليه السلام لتثبيط العزائم، وتمكين الهزيمة، والمؤمنون في ساعة عصيبة يجمعون شمله ويربطون على قلوبهم، والرسول عليه السلام ثابت في مكانه لا يريم
تلك الحوادث أبانت عن أنه لا يزال بين المجتمع الإسلامي - بل وسط جماعة المسلمين - قلوب مطوية على الإحن تتربص بالإسلام وبالرسول الدوائر
وإنها لحال تنغص على المسلمين أمورهم، وتهدد كيانهم وتقلقل مجتمعهم
وقد كاد صبرهم ينفد يوم وقف واحد من هؤلاء يعيب على رسول الله صلى الله علية وسلم قسمه للصدقات ويغمز العدالة المحمدية. هذا الرجل هو (ذو الخويصرة التميمي) دفع به النفاق، فخاطب رسول الله صلى الله علية وسلم، وقال: اعدل يا محمد. . . ولا، والله، ما قصد ذو الخويصرة عدلا ولا طلب حقا. ولكنه قصد إلى أن يشكك الناس في العدالة المحمدية، وينبه الأطماع، ويثير الإحن. فقال له الرسول صلى الله علية وسلم: (ويلك، من يعدل إذا لم أعدل؟)
واستمع لهذا الحوار الرجل المؤمن حقا عمر بن الخطاب، فعرف أنها دسيسة. فقال: يا رسول الله، ائذن لي فأضرب عنقه، فأخذ صلى الله علية وسلم يهدّي من نفس عمر، ويذهب عنه الغضب، ويقول: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه
ونزل في تلك الحادثة من السورة (الفاضحة) قول الله تعالى:
(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا، وإن لم يُعطَوْا منها إذا هم يسخطون)
بقي النفاق - هذا الوباء الأخلاقي - يأكل في أجزاء من جسم المجتمع، ولولا صدق اليقين، ومناعة الجسم، لأودى النفاق بالدعوة الإسلامية
إن لله مواقيت تنتهي لديها أمور وتبدأ من عندها أمور. فلما أذن الله بافتضاح هذا النفاق، وشاء للمنافقين أن يشَهروا ويعلّموا ويؤخذوا بسيماهم، ثم يعزلوا - مرضى موبوئين - عن بقية المجتمع السليم، اختار - عز وجل - لذلك وقتا علا فيه شأن الإسلام، وتمت له الكلمة، وأثخن المسلمون في أعدائهم أسراً وقتلا واستيلاءً وغلبة. فليس يخيفهم أن يبتروا الأعضاء السقيمة العليلة
وكانت الحياة المحمدية المباركة قد آذنت بالانقضاء، ولابد من صيانة مجتمعه وشريعته ودينه من هذا المرض، مرض النفاق المدّمر الفتاك عند ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى السورة (الفاضحة) كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه: نزلت تفضح النفاق، وتكشف عن المنافقين، وتصور ألوانهم وأقوالهم، وتطلع المؤمنين على دخائل نفوسهم، وتنشر للملأ مطويات سرائرهم. . . وقد كانوا من قبلها يخافون ذلك ويحذرونه
(يحذر المنافقون أن تنّزَّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) ولكن الله أوقع بهم، فكان ما يحذرون ووقع ما يرهبون
اختار المشرع الإسلامي غزوة من غزوات المسلمين، جعلها اختباراً أخيراً للمنافقين. وهي: غزوة تبوك، آخر الغزوات في حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وكان الوقت عسيراً والبلاد جدباء، والحر لافحاً والشقة بعيدة، والأعداء هم الروم الأقوياء الأغنياء
هنا أخذ النفاق يطل برأسه، وينفث في العقد، ويبعث التخاذل، ويحبب التقاعد بين الجيوش الإسلامية. فقال جماعة المنافقين وعلى رأسهم كبيرهم (عبد الله بن أبي): (أيغزو محمد بني الأصفر (الروم) مع جهد الحال، وشدة الهجير، والبلد النائي؟ أيحسب محمد أن قتال بني الأصفر لعب ولهو؟ والله. . . لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الأصفاد)
ثم أخذ المنفقون يقولون: لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون
وهكذا جعلوا يعتذرون عن الخروج بأعذار تافهة ورسول الله صلى الله علية وسلم يقبلها، حتى عاتبه القرآن في ذلك وعفا عنه: (عفا الله عنك لِمَ أذنتَ لهم حتى يتبيَّن لكَ الذينَ صدقوا وتعلمَ الكاذبين)
عرَّفت السورة (الفاضحة) أو سورة (براءة) المنافقين، وحددت أوصافهم: فمنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ومنهم من يلمزك في الصدقات. ومنهم من عاهد الله ثم أخلف عهده. ومنهم، ومنهم. . .
ثم خاطب الله رسوله عليه السلام الخطاب الحاسم في شأنهم فقال: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتُم إليهم لتُعرِضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون)
ولقد نكل الله بالشرك في تلك السورة فسميت (المنكلة) وأزرى واحتقر النفاق ورسمه بأنه رجس، فافتضح النفاق وجاء صدر تلك السورة قضاء حاسماً على بقية الشرك، وإبادة لمرضه الخبيث في أنحاء الجزيرة العربية
فقد اجتمع إلى الشرك مآثم وأوزار وشناعات، لا مناص من القضاء عليها تطهيراً للمجتمع وإصلاحًا
وفي السنة التاسعة للهجرة أمَّر للنبي عليه السلام على الحج (أبا بكر) الصديق. فلما نزلت السورة - المنكلة الفاضحة - بعث صلى الله علية وسلم إبن عمه علي بن أبي طالب على ناقته العضباء ليقرأ في موسم الحج على الناس كافة صدر السورة المنزلة، قضاء على الشرك والمشركين، فلما دنا علي من أبي بكر سمع أبو بكر رغاء الناقة، فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله علية وسلم. فلما لحقه علي قال له أبو بكر: أمير أم مأمور؟ قال: مأمور
فلما كان يوم الحج الأكبر - يوم النحر - عند جمرة العقبة قام علي فقال: (أيها الناس، إني رسول رسول الله تعالى إليكم) فقالوا: بماذا؟ فقرأ (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين، وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) إلى آخر الآيات الثلاثين أو الأربعين من السورة
ثم قال: (أمرت بأربع: ألا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم كل ذي عهد عهده)
وفي هذا الموطن الحاشد، وبهذا البيان القاطع تقررت حياطة المجتمع، وصيانة التوحيد، كما تقرر - في أثناء السورة - إبراء المجتمع من داء النفاق بإقصاء المنافقين وتعرفهم بسيماهم؛ ثم نبذهم أحياء أو ميتين
(ولا تُصَلِّ على أحد منهم مات أبداً، ولا تَقُم على قبره) (يحلفون لكم لترضوا عنهم، فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)
انتهى أمر النفاق، وانتظم شأن المجتمع الإسلامي. فلما كان العام التالي، أراد صاحب الشريعة عليه السلام أن يحج، وترامى ذلك إلى أقطار الجزيرة، فانثال الناس من كل حدب، حتى بلغ الحجيج مائة ألف أو يزيدون. وفي يوم الحج الأكبر، خطب صاحب الشريعة خطبته الجامعة التي بين فيها أصول الدين، وحقوق الإنسان وأعلن فيها المساواة، وحقن فيها الدماء وبين الحدود، وحشد فيها الفضائل الإسلامية
وزاد في جلال الموقف ورهبته إشعار النفوس أن محمدا عليه السلام يودع المسلمين ويتوقع اقترابه من اليوم المحتوم، ويستشرف إلى الرفيق الأعلى
قال صلى الله علية وسلم: (الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. . . أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد:
أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري. . . لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا
أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
إن لنسائكم عليكم حقا، فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء عَوانٍ أخذتموهن بأمانة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
أيها الناس. إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد؛ كلكم لآدم، وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس يُعرف فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. . .)
بتلك الخطبة الحافلة بأسمى المعاني الإنسانية، تمت كلمة الله صدقاً وعدلاً، فاكتمل أمر الدين، وأتم الله نعمته على المؤمنين، وقد أنزل الله في أعقاب ذلك من سورة (المائدة): (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا).
أقام صلى الله علية وسلم بمكة بعد ذلك عشرة أيام. وأخذته نوازع الشوق وهو في موطنه الأول (مكة) إلى موطنه الثاني، إلى دار الهجرة، فسار إلى المدينة. . .
ولما أشرف عليها، وبدت أعلامها كبَّر ثلاثا وقال:
(لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. . . آيبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده
محمد عبد الرحمن الجديلي