مجلة الرسالة/العدد 347/لقب السفاح
→ الربيع | مجلة الرسالة - العدد 347 لقب السفاح [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 26 - 02 - 1940 |
2 - لقب السفاح
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
نقل الأستاذ العبادي البحث في هذا الموضوع إلى ميدان آخر غير الأول، فأنكر أن يكون السفاح لقباً لأبي العباس، وذهب إلى أنه لقب عمه عبد الله بن علي واليه على الشام، وحجته فيما ذهب إليه من ذلك تنحصر فيما يأتي:
1 - أن الرواية التاريخية القديمة كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم والبلاذري وأبي حنيفة الذينوري وطيفور واليعقوبي والطبري والنُّوبختىِّ والكنديِّ لم تلقِّب أبا العباس بالسفاح. . .
2 - أن تلقيب ابي العباس بالسفاح من رواية المؤرخين الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة والأصفهاني
3 - أن رواية ابن سعد واليعقوبي وصاحب أخبار مجموعة وصاحب الإمامة والسياسة تجعل السفاح لقباً لعبد الله بن علي عم أبي العباس
4 - أنه رجع إلى سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها فلم يجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال؛ أما سيرة عمه عبد الله وما سفكه من دماء بني أمية بالشام فتسوغ له ذلك اللقب
ونحب أن نبين ما في هذه الحجة الأخيرة من غفلة ظاهرة، قبل أن نعنى برد ما قبلها من الحجج، فإن أبا العباس هو الذي سلط عمه عبد الله بن علي على بني أمية بالشام، فهو مسؤول عن كل ما فعله معهم، وشريكه في الدماء التي سفكها، والنفوس التي أزهقها، على أن أقسى ما فعل مع بني أمية مختلف في نسبته إليه أو إلى عمه عبد الله بن علي، وهو ما روى أن شبل بن عبد الله مولى بني هاشم دخل على أبي العباس أو عمه عبد الله على اختلاف الروايتين، فوجد عنده عدة من بني أمية نحو تسعين رجلاً، وقد اجتمعوا عند حضور الطعام، فأنشده:
أصبح المُلكُ ثابت الآساسِ ... بالْبهاليلِ مِنْ بنى العباس
طلبوا وِترَ هاشمٍ فشفوْها ... بعد مَيْل من الزمان ويَاس
لا تُقيلنّ عبد شمس عِثاراً ... واقطَعنْ كل رَقلةٍ وغراس
ذُلُّها أظهر التوَدُّدَ منها ... وبها منكم كحدِّ المْوَاسِي ولقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هُ بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيل بجانب المِهْراس
والقتيل الذي بحرَّان أضحى ... ثاوياً بين غُرْبةٍ وَتَناس
فأمر بهم أبو العباس أو عبد الله فضربوا بالعمد حتى وقعوا، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم الطعام، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم، حتى ماتوا جميعاً
وإذا لم يكن أبو العباس هو الذي فعل ذلك فقد سلط عمه عبد الله عليه، وافتخر به في بعض أحاديثه، ونسب ما حصل لبني أمية من القتل والتمثيل إلى نفسه، فروى المسعودي أنه لما أتى برأس مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية ووضع بين يديه، سجد فأطال، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت؟ قد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شِلوَ هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم، وتمثل:
لو يشربون دمي لم يرْو شاربُهمْ ... ولا دماؤُهُم للغيظ ترْويني
ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له:
أبى قومنا أن يُنصفونا فأنصفتْ ... قواطعُ في أيماننا تَقطرُ الدَّما
توورثنْ من أشياخِ صِدْقٍ تقربوا ... بهنّ إلى يوم الْوَغى فتقدَّما
إذا خالطتْ هام الرجال تركنها ... كبيض نعام في الوغى مُتحطِّما
ومن يقرأ هذا يجزم بأن أبا العباس كان يحمل قسطاً كبيراً من دماء بني أمية مثل عمه عبد الله أو أشد، لأن كل هذا الذي سفك من دمائهم لم يكن بحيث يروي ما عنده من الحقد
ولقد كان له سفاح آخر نسيه المؤرخون، ولم يكن بأقل من عبد الله بن علي سفكاً للدماء، ذلك هو سليمان بن علي أخو عبد الله وعم أبي العباس، فقد ولاه البصرة وسلطه على من كان بها من بني أمية، فقتل من كان بها منهم، وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب، وكذلك سلط عمه داود بن علي على من كان منهم بالحجاز فسفك دماءهم وأفناهم وقد تولى هو بنفسه سفك بعض من الدماء أيضاً، ومن ذلك دم سليمان بن هشام بن عبد الملك، فإنه كان قد وفد عليه من الشام فرحب به وقربه واستلطفه، للذي كان بينه وبين ابن عمه مران بن محمد، فكان سليمان يختلف إلى مائدة أبي العباس في كل يوم، فيتغدى معه ويتعشى، وكان كأحد وزرائه أو فوقهم، وكان يجلس أبا جعفر عن يمينه وسليمان عن يساره، ومازال هذا شأنه حتى دخل سديف بن ميمون مولى بني العباس فأنشده:
لا يُغرّنك ما ترى من رجالٍ ... إن تحت الضلوع داء دَويّا
فَضَعِ السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمَوِيَّا
فأمر أبو العباس بسليمان فقتل، ونسى ما كان من أمانه وإكرامه له، وكذلك قتل وزيره أبا سلمة الخلاَّل، ولم يكن له ذنب عنده إلا اتهامه بالميل لبني علي، وأمر أيضاً بقتل ابن هبيرة بعد أن أخذ عليه من الأمان ما أخذ، فلما مضوا نحوه خر ساجداً وقال: ويحكم نحوا عني هذا الصبي لا يرى مصرعي، فضربوه حتى مات ساجداً
ويطول بنا الكلام لو ذهبنا نستقصي ما سفك أبو العباس وأعمامه واخوته من الدماء، ولقد كانوا كلهم شركاء فيها ما عدا سليمان بن علي، فإنه كان أحنهم على بني أمية، وكان يكره سفك دمائهم، ويجير كل من استجار به منهم، حتى كان أبو مسلم يسميه كنف الأمان، وهو الذي كتب في بني أمية إلى أبي العباس: يا أمير المؤمنين، إنا لم نحارب بني أمية على أرحامهم، وإنما حاربناهم على عقوقهم، وقد دفت إلى منهم دافة لم يشهروا سلاحاً، ولم يكثروا جمعاً، فأحب أن تكتب لهم منشور أمان. فكتب أبو العباس منشور أمان لهم، وقد مات سليمان وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية
فهذا هو العباسي الوحيد الذي كره سفك الدماء، ولم يكن يباهي بسفحها كما باهى أبو العباس وغيره من أعمامه واخوته، وهو الذي كان يصح أن يهتم الأستاذ العبادي بنفي لقب السفاح عنه لو ألصق به، أما أبو العباس فإن سيرته بعد الخلافة طافحة بسفك الدماء، ومن التجني على التاريخ أن يقول الأستاذ العبادي إنه رجع إلى سيرته قبل الخلافة وبعدها فلم يجد ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال، وهو في هذا أشد من أبي العباس غيرة على نفسه، أو كما يقولون: ملكي أشد من الملك، لما سبق من تباهي أبي العباس بسفك الدماء، ومن وصفه نفسه في بعض خطبه بما لا يرضي الأستاذ العبادي أن يوصف به وسنبين للأستاذ العبادي كيف اختلفت الروايات بعد هذا في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله، وليكن هذا في مقالنا الآتي
عبد المتعال الصعيدي