مجلة الرسالة/العدد 347/رسالة الفن
→ الأدب في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 347 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 26 - 02 - 1940 |
دراسات في الفن:
هما أحدبان
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ما هذه الأرقام التي تحسبها في الورقة؟
- هي تكاليف أحدب نوتردام أحلم بأني سأخرجها في مصر
- بعد أن رأيناها من لون شاني ولاوتون. . . من يخرجها ومن يمثل لك الأحدب في مصر؟
- هذا شيء لا أفكر فيه إلا بعد أن يعطيني الله هذا المال كله
- إذن فلن تفكر فيه أبداً
- ومن يدريك أني لن أفكر فيه غداً. . . (غد غيوب وأقدار وأسرار)
- رحم الله شوقي
- وفيكتور هيجو، ولون شاني، وكل من فتح قلبه لله فألقى الله فيه ما شاء من نوره، أتعرفين كم أحدودب هيجو حتى كتب الأحدب، وكم أحدودب لون شاني ثم لاوتون؟
- أما لون شاني ولاوتون فقد احدودبا أو قل هما اصطنعا أنهما احدودبا حينما كانا يمثلان في الأستوديو فقط، أما هيجو فلا أظنه احدودب، لأن كتابة الرواية لا تستدعي أن يمثل الكاتب صورها. . .
- لم يرد الدنيا أحدب عاش مثلما عاش أحدب نوتردام. فلابد أن يكون هو الأحدب الأحدب، وإنه لكذلك لأنه هيجو لما احدودب. كم في الدنيا من شقي يعيش ويشقى ويفنى، وفي الدنيا شقي يعيش ويشقى ويخلد. . . أولئك يغمرهم شقاؤهم ويبعدهم عن ذكر ربهم، وهذا يمعن في الشقاء بالرضا والتأمل بحثاً عما فيه من عبرة ولذة
- وهل يجد اللذة من يمعن في الشقاء حتى ليحدودب؟. . .
- وأية لذة؟ ألم يقل هيجو على لسان غجري قصد باريس وأراد أن يمنعه عنها حراسها: (ما هذه الأوامر؟ هذه أرض الله جئتموها أنتم بالأمس وجئناها نحن اليوم!) ألم يقل هيجو هذا؟
وكيف كان يمكن أن يقوله لو لم يشعر بأن هذه الأرض أرض الله حقاً، وأنه للناس أن يعيشوا فيها كما يعيش الطير في السماء. . . والله يرزقهم. . . وهل في الدنيا شعور باللذة أبلغ من شعور الطلاقة هذا؟ لا ريب أن هيجو كان يشعر باللذة حين كان يشعر بالشقوة ولا ريب أنه عانى في هذا الاضطراب كثيراً، ولعلك تذكرين أنه عبر عن اضطرابه هذا بلسان الأحدب إذ أفلتت منه معشوقته، ورأى أن عليه توديعها لصاحبها: (رب! لماذا لم تخلقني حجراً؟!). . . واحتضن صنما. . .
- فهو كان يرى الحجر أسعد من البشر. . .
- وهذا الذي يراه كل من عجز، وهو الذي يراه أخيراً كل من كفر. . . أما يقول القرآن: إن الكافر سيقول يوم القيامة (يا ليتني كنت ترابا)؟!
- وهل كان الأحدب كافراً؟
- بل كان هيجو مؤمناً. . .
- ما لهيجو؟ إنما نحن الآن في الأحدب.
- والأحدب من هيجو، وليس هو وحده الذي منه، وإنما منه أيضاً كل من في القصة وكل ما فيها، فإذا رأيت أنه يضطرب في الأحدب العاجز حتى ليتمنى أن يكون حجراً، فانظري إليه كيف يختم حياة ملك الشحاذين بثقل ينزل عليه من فوقه في الوقت الذي يتزعم فيه ثورة عنيفة فيها ضرب وكر وفر، وفيها موت يراه بعينيه يتخطف الناس من حوله ولا يحسب لنزوله به حساباً ثم انظري هيجو كيف يغمس في التوفيق شاعر القصة الذي سيق إلى الملك متهماً بإثارة القلاقل وتهديد الأمن العام بالشعر الحانق فما يزال الشاعر المؤمن بشعره يقنع الملك بوجهة نظره حتى يحكم الملك في قضية الشعب حكماً عدلاً يضع حداً للثورة التي لو لم يعمد ملك الشحاذين إلى القوة فيها وانتظر حتى يحق الحق القول الصادق لما لقي فيها حتفه، ولفاز في آخر الأمر بالذي كان ينشد، انظري إلى هذا وانظري إلى غيره تري أن هيجو كان مؤمناً. . . وأنه كان ينظر إلى الأحدب نظرته إلى الكافر
- إذن فقد كان هيجو يكره الأحدب؟. . .
- لا، وإنما كان يرثى له. لأنه لما احدودبت نفسه قدر نعمة الرحمة، وقد نصحه ونصح كل أحدب أن لا يطمع في غير ما هو أهله وأن يرضى بما هو فيه، كما نصح ملك الشحاذين وكل من هو معتز بقوته مثله أن يكف عن القوة والاعتزاز بها. كما أظهر رضاه عن الشاعر الراضي الفيلسوف الذي يصبر على حبيبته أن تحب غيره حتى تهتدي إليه وتحبه، كما أنه حذر الناس جميعاً من التراجع عن تلبية حسهم، حين جعل الملك يحكم الخنجرين في أمر الغجرية إذ عصب عينيها وقال لها: اختاري من هذين واحداً، فإذا قبضت على خنجري فأنت بريئة فإذا أمسكت الآخر فأنت مذنبة، فامتدت يدها أولاً إلى خنجر البراءة ولكنها تراجعت فعانت بعد ذلك ما عانت. . . كل هذه دلائل إيمان وصبر أضاءا في نفس هيجو. . . فأضاءا قصته هذه وخلداها. . . وإلا فما الذي تحسبينه حفظها وأبقاها؟
- أنها مكتوبة بلغة رائعة وأسلوب رائع. . .
- لا. فما خلدت اللغة وما خلد الأسلوب شيئاً فما هما إلا من أدوات الفن وليسا الفن نفسه. . . إن ملايين الناس في الأزمنة والأمكنة المختلفة ليحبون هيجو، ومنهم من لا يقرأ ولا يكتب لا الفرنسية ولا غيرها، ولكنه يفهم هيجو من إشارات الممثلين وأصواتهم ويقنع بهذا. . . إن الناس جميعاً يرون في أحدب نوتردام صدقاً وعدلاً وأحكاماً تجب في مواقف تستوجبها، فالموت لمن يستحق الموت حيث يجب الموت، والهناء لمن يستحق الهناء حيث يجب الهناء. . . لم شذ هيجو عن العدل في حكم من أحكامه ولم يحاب بطلاً من أبطاله، ولم يعط في دنياه هذه التي جمعها حقاً لغير صاحبه، ولم ينزل بها نكبة على مؤمن
- وهذا القسيس النبيل الذي عشق الغجرية فكان في غرامه هلاكه، ما ذنبه؟
- ذنبه ضعفه. . . هذا قسيس وهب نفسه لله، واطمأن بهذه الهبة على حياته ومستقبله، فما له يريد أن يسترد مما أعطى الله شيئاً من نفسه يعطه غانية صغيرة؟. . . ما له يشعر بهذا الضعف، وماله حين يشعر به لا يعالجه بإيمانه وعزمه، وما له حين يضعف عن علاجه بإيمانه وعزمه لا يكون صريحاً في إعلان ضعفه؛ فإما أن يرتد على عقبيه خطوات في طريق تقواه وورعه، فيخلع مسوح القسيس ويدع الكنيسة وينزل إلى الدنيا، كالمؤمن إذا ارتد، يعرض نفسه على غانيته كما يعرض كل رجل عليها نفسه فإذا اختارته سعد فإذا أعرضت عنه كان عليه أن يرضى. . . كان هذا هو الواجب عليه أن يصنعه ولكنه لم يصنع منه شيئاً، بل طرأ عليه الضعف فلم يرض أن يشهر على هذا الضعف سلاحاً من نفسه وإنما غطاه بستر منها كان غشاً لكل من حسبوه قسيساً، وكان حجاباً حال بينه وبين التغلب على نفسه. . . فألم به ما ألم به من تشتت البال في الموازنة بين مظهره الطاهر، وبين الكامن من اللوثة في نفسه. . . هذا القسيس كان سليم المظهر ولكنه كان الكافر المشوه النفس، الذي ترجمه هيجو بذلك الأحدب العاجز ببدنه عن إغراء الغجرية. . . إن هذا القسيس هو أحدب نوتردام أكثر مما كأنه الأحدب. . . فإن الأحدب قد دلته طويته السليمة إلى حركة بلهاء أراد بها أن يغري فاتنته. . . إذ غطى لها يوماً البشاعة في وجهه وكشف لها عن عينه الرقراقة الحلوة، ونظر إليها كمن يقول لها ادخلي إلى نفسي من هذا المنفذ، ولو كان في الفتاة حكمة، ولو لم يكن بها من نزق الجمال والصبا طيش وخفة، فلعلها كانت تحبه إن أنعمت التفرس في عينه تلك، ولكنها لم تكن من الحكمة. . . أو لم تكن من البذل بالرأفة. . . وعلى أي حال فالذي يعنينا هو أن الأحدب وجد في نفسه شيئاً جميلاً عرضه، ولكن القسيس الأحدب الروح لم يجد عند روحه ما يعرضه على غانيته! إنه قسيس، وكان يستطيع على الأقل أن يكون مثلما كان الشاعر المجنون محباً على غير أمل، وكان على هذا يستطيع أن يحملها على حبه، وكان بعد هذا يستطيع أن يسلمها (لنوتردام) مادام قد أقام نفسه في (نوتردام) راعياً. . . ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا وانخذل أمام نزوة من نزوات نفسه. . . فكان على علمه وعلو شأنه، وسلامة بدنه أشقى حالاً من الأحدب، فقد رضى الأحدب أن يتمنى الجمود والتحجر وأن يروض نفسه عليهما، أما هو فقد أبى إلا أن يشعل النار في الدنيا وأن يضرب الناس بالناس حقداً وغلاً وعمى عن واجبه وحقه. . .
- إذن فإن هذا هو الأحدب
- إنه على الأقل الأحدب الأول. وقد كنت أحب أن يمثله لاوتون، فهذا الدور من غير شك معرض لعواطف وتقلبات أكثر من الطارئة على الأحدب الآخر. . .
- ولكن هذا الدور لم يلتفت إليه أحد هذه اللفتة، وإنما يعنى أبطال التمثيل بالدور الآخر. . .
- لعل ذلك لأنه أظهر لعيون، ولأن تمثيله يحتاج إلى مكياج بارع يتحدى الممثلون بعضهم بعضاً بإجادته وإتقانه. وهذا عيب من عيوب السرعة الآخذة برجال الفن في هذا العصر، وقد كنت أحسب لاوتون ينجو منها هذه المرة كما نجا منها مرة سابقة في بؤساء هيجو أيضاً. . . فإنه ترك دور جان فلجان لفردريك مارش ومثل هو دور جافيير البوليس السري، وجافيير كان أبأس من جان فلجان نفساً وأشقى روحاً وإن كان يظهر لجان فلجان أنه الأبأس. . . كما أن الناس يحسبون قارع الأجراس في أحدب نوتردام أنه الأحدب بينما ذاك القسيس هو الأحدب. . .
- ولماذا لا يكونان بائسين، وأحدبين؟. . .
- هما بائسان وهما أحدبان حقاً. . . ولكن البائسين أحدهما تجسد البؤس فيه وظهر فخف عنه تكاثف البؤس وانحباسه في نفسه، والآخر توارى البؤس بين جنبيه واستتر فهو ينفث سمه في داخله ولا ينتثر من بؤسه شيء خارج نفسه، والأحدبان أحدهما تفجر بالقبح بدنه فانزاح القبح عن روحه، والآخر ازدرد هذا القبح وهو لا يفتأ يجتره فهو غذاؤه ومادة عيشه. . . هذه هي شجرة الزقوم التي يأكل منها الكافرون لا تطعمهم ولا تسمنهم ولا تغنيهم من جوع، وأسوأ ما فيها علمهم بغصتها، وأسوأ من هذا نهمهم إليها وشغفهم بها. . . ما كان أروع لاوتون لو أنه مثل هذا الأحدب!. . .
- ومن كان يمثل الأحدب الآخر؟
- أي واحد! بوريس كارلوف مثلاً
- ولكن بوريس جامد أصم
- كان أمام لاوتون لا يستطيع إلا أن يتحرك. . . فبوريس مسكين. كل ما يسندونه إليه من الأدوار شاذة كثيرة الحركة، وما أقل الفرص التي أعطوها ليمثل. . . فإذا لم يكن بوريس يعجبكم فقد كان على لاوتون أن يمثل الدورين معاً وهذا ممكن في السينما. . . إنني حسبت حساب هذا مع هذه الأرقام التي كنت أكتبها. . .
- ولكن هذا عمل شاق قد لا يستطيعه ممثل
- إن لاوتون يستطيعه، ولكنها فكرة لم تخطر له حين كان يدرس الأحدب، فلا ريب أنه أسرع في دراستها أكثر مما أسرع في دراسة البؤساء، فوقع على أحدب المظهر وفاته أحدب المخبر؛ ولا ريب أيضاً أنه وضع في قرارة نفسه نية المباراة مع المرحوم لون شاني. . ولو كان قد أغفل هذه لكان قد خلص فأخلص فاستخلص. . .
- يا للرزية! حتى لاوتون تعيبه. . . فمن يعجبك؟. . .
- لاوتون حينما يصفو. . . ولاوتون في الأحدب أيضاً. . . بل لقد راعني أكثر مما راعني لون شاني. . . ذلك أني خرجت من (لون شاني) وأنا كارهه. . . كاره الأحدب. . . بينما قد حببني فيه لاوتون. . . أو حملني على الترحم له على الأقل
- إني لا أرى الفرق بينهما محدداً هكذا كما تراه، ولعل ذلك راجع إلى طول عهدنا بلون شاني في الأحدب. . .
- على أي حال فإني لا أجزم بهذا الفرق بينهما وإنما أجزم به في نفسي، وقد يكون مرجعه اختلاف كل منهما عن صاحبه في تذوق الأحدب وتفهمه، وقد يكون مرجعه اختلاف نفسي بين ما أنا عليه اليوم من القدرة على التذوق والفهم، وبين ما كنت عليه فيما مضى، وقد يكون مرجعه كذلك اختلاف دواعي التذوق والتفهم عندي بين اليوم والأمس
- وما دواعي التفهم والتذوق هذه. . .؟
- ربونا على أن يخيفنا (أبو رجل مسلوخة). . . ولم أكن في صباي قد تخلصت مما غرس في ذهني ولم أكن بعد قد أحببت المشوهين والضعفاء والعجزة والمرضى. . .
- وأنت الآن تحبهم؟
- أحسب ذلك. فإذا لم أكن أحبهم فإني على الأقل أتحبب إليهم. . .
عزيز أحمد فهمي