الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 347/الحق والقوة

مجلة الرسالة/العدد 347/الحق والقوة

بتاريخ: 26 - 02 - 1940

2 - الحق والقوة

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب

ليست فكرة الحق بأعلى من فكرة القوة، وليست الحقوق الفردية والاجتماعية من الوضوح بحيث تستلفت النظر كالقوى الطبيعية والإنسانية. ومن المحقق أن الجمعيات الهمجية خضعت لسلطان القوة وانقادت لعوامل البأس والشدة قبل أن تعرف لغة الحق والقانون، ولم تتكون لديها فكرة عن الحقوق واحترامها والتعهدات والتزامها إلا بعد أن خطت خطوات في سبيل الحضارة والمدنية. ولعلها لم تعترف أول الأمر ببعض الحقوق إلا لأنها رأت القوة تلزمها بالاعتراف بها، ثم لم يلبث هذا الاعتراف القهري أن تحول إلى شعور باطني اختياري يدفعها إلى القيام ببعض الأعمال راحة للنفس ومرضاة للضمير. ففكرة الحق إذن بطيئة التكوين، والحقوق الإنسانية لم تثبت ولم تنضج إلا بعد أجيال عدة وحضارات متعاقبة، على أنها لا تزال حتى اليوم خاضعة لسنة النشوء والارتقاء، ولا تزال طائفة منها مختلفاً عليها بين الأفراد والجماعات

ويظهر أن الحقوق في تطورها مرت بأدوار عدة، فكانت في أول أمرها دينية شعبية وشكلية مادية مقصورة على فريق من الناس. فلا حق إلا ما أحقته الآلهة، ولا التزام إلا بما أوجبته التعاليم الدينية، والحقوق في جملتها فريضة فرضتها السماء وطاعة أُعد لمؤديها الثواب المقيم ولتاركها العذاب الأليم. فعن القساوسة ورجال الدين تعلمت الجماعات الأولى بعض الحقوق، وإليها لجأت في إقامة شعائرها والمطالبة بأدائها؛ ولهذا لم يكن ثمة فرق في الشرائع القديمة بين أمر ديني وآخر دنيوي، وإنما الأوامر كلها وحي الآلهة، وترجمة لإرادة عليا يقف البشر أمامها خاشعين خاضعين. . . هذا إلى أن الحقوق كانت في بدء نشأتها شعبية طائفية، فعرفت حقوق الأسرة والقبيلة قبل أن تعرف حقوق الفرد مهما كانت منزلته، وكثيراً ما ضحى به في سبيل قومه وعشيرته دون ذنب أو جريرة، فما كانت له شخصية معروف ولا وجود مستقل محترم. وإذا كانت الحقوق قديماً مظهراً من مظاهر الحياة الدينية، فلابد أن تؤدى على شكل معين وصورة ثابتة، شأنها في هذا شأن الطقوس المختلفة والعبادات المعروفة. وما كانت القبائل الهمجية تفهم من الحق إلا مظهره الخارجي، وجانبه المادي، فلم يكن هناك حق معنوي ولا التزام روحي. ولا يمكننا أن نتوقع في تلك البيئات المحدودة والقبائل المتخاصمة حقوقاً تشمل الأفراد على اختلافهم، بل لأبناء القبيلة الواحدة حقوق لا يمكن أن يقاسمهم فيها أبناء القبيلة الأخرى، ولا زلنا حتى اليوم نفرِّق بين الأجنبي والوطني في بعض الحقوق والواجبات.

غير أن الحقوق الإنسانية لم تقف عند هذه المظاهر الأولى، بل تطورت وتدرجت، فتولد إلى جانب الحقوق الدينية حقوق أخرى مدنية، وأخذت العادات والتقاليد تنزل من النفوس منزلة التعاليم الدينية، وصيغت في قالب أوامر وقوانين محترمة. ورأينا الفرد يبرز بجانب الشعب والقبيلة، فعرفت شخصيته واحترمت حقوقه؛ ومن أهم مميزات حضارتنا الحاضرة احترام الشخصية الإنسانية وتقديس ما لها من حقوق. ومن آثار هذا التطور أن تجردت الحقوق من قيودها الشكلية ومظاهرها المادية، فنشأت حقوق معنوية وروحية تمتاز كل الامتياز عن الحقوق الشخصية والعينية، وأضحى الإنسان، وكلمته حجة، وتعهده وثيقة لا تقبل النقص. وانتهت الإنسانية أخيراً إلى طائفة من الحقوق يتساوى فيها الجميع ولا يفرق فيها بين صغير وكبير، ولا بين أمير وحقير، ولا بين أجنبي ووطني؛ هي حقوق الإنسان كيف كان أصله ومنبته ومستواه الاجتماعي وجنسيته.

ولم يتم هذا التطور عفواً ولم تتنوع هذه الحقوق اعتباطاً وإنما أثرت فيها على عوامل مختلفة وساعدت على نموها واطرادها أسباب شتى. فغرست الديانات بذورها الأولى، ولولا الدين ما عرفت القبائل الهمجية حقاً ولا احترمت مبدأ، وفي تشعب الحياة السياسية والاقتصادية ما قضى بتنوع الحقوق وازديادها، فالنظم الدستورية تعترف للأفراد بحقوق ما كانت تسلم بها الحكومات الاستبدادية، وكثيراً ما طالبت الجماعات بحقوق تحميها من ظلم الظالمين وعدوان المعتدين، والأجهزة والآلات فرضت للعمال على أصحاب المصانع ورؤوس الأموال حقوقاً ما كانوا يطالبون بها من قبل، وكلما امتدت وسائل الحضارة في بيئة ما كثرت الحقوق وتعددت المسئوليات، وليست الحقوق في رقيها وتطورها بخاضعة لعوامل اجتماعية فحسب، بل للفرد في هذا التطور دخل كبير، فكثير من الحقوق لم يسلم به إلا بعد أن دافع عنه وناضل في سبيله أفراد متعاقبون، وكم أدخل العلماء والباحثون على فكرة الحق من تهذيب وتنقيح ما كان للجماهير أن تصل إليهما أظننا، بعد أن عرضنا للحقوق في نشأتها وتطورها، نستطيع أن نفصل في تلك الخصومة المشهورة المتصلة بأصل فكرة الحق وطبيعتها؛ والأخلاقيون، كدأبهم في المسائل العامة والقضايا الكلية، إزاء هذه المشكلة فريقان: فريق مثالي ينظر إلى الحقائق من حيث هي ويصورها بصورها العليا سواء أطابقت الواقع أم لم تطابقه، وفريق آخر واقعي يعتد بالأمور الملموسة ولا يعول إلا على الحس والتجربة، ويرى الفريق الأول أن الإنسان من حيث هو إنسان يستلزم طائفة من الحقوق ثابتة على اختلاف العصور والأزمنة لا تخضع لبيئة ولا لمجتمع، فهي حقوق أقرها العقل واقتضتها الطبيعة دون أن تتقيد بالحياة الاجتماعية أو تتأثر بها، وأما الفريق الثاني فيذهب إلى أن فكرة الحق مكتسبة لم تصل إلى كمالها إلا بعد أن مرت بأدوار عدة وتأثرت بعوامل مختلفة، فليس ثمة حقوق مقدسة لذاتها، ولا مبادئ أقرتها الإنسانية بصرف النظر عما يترتب عليها من أثر، والحقوق الطبيعية المزعومة لا يؤيدها الواقع في شيء، وإذا شئنا أن نوضح فكرة الحق توضيحاً تاماً فلابد أن نلم بهذين الاتجاهين، ونلقي نظرة على هاتين النظريتين

ليست النظرية المثالية حديثة العهد، فهي ترجع إلى القرن السادس عشر، ويأبى أنصارها إلا أن يصعدوا بها إلى التاريخ القديم فيتلمسوا لها أصولاً لدى مشرعي الرومان وبعض فلاسفة اليونان؛ ومُضي المدة كان ولا يزال وسيلة من وسائل ترجيح طرف على آخر. بيد أنها لم تبد في ثوبها الكامل إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر لدى كثير من المشرعين والأخلاقيين وفي مقدمتهم الفقيه الهولندي (جروسيوس) والأخلاقيان الكبيران (روسو وكانت) ثم جاءت الثورة الفرنسية فأخذت بها وأعلنت حقوق الإنسان تطبيقاً لها وعول عليها نابليون كل التعويل في وضع قانونه المشهور. وما إن ظهر المذهب الواقعي الذي نادى به (أوجست كونْت) في القرن التاسع عشر وأيده فيه علماء الاجتماع الآخرون حتى أخذت في التضاؤل والتراجع وأصبح الفقهاء والأخلاقيون يشكون في قيمتها العلمية

وتتلخص هذه النظرية في أن العقل الإنساني يقضي بطائفة من الحقوق أقرها الناس أو لم يقروها، فهي ثابتة للأفراد على السواء ولا تسقط بمضي المدة، ومحاربتها في جيل من الأجيال لا تقوم دليلاً على بطلانها، كبعض الفضائل السامية التي لم يستطع أفراد بيئة ما التحلي بها. وهذه الحقوق، فوق أنها عقلية، طبيعية أيضاً، فهي ثمرة من ثمار الطبيعة الإنسانية وضرورة من ضروراتها، ولا يستطيع الإنسان أن يؤدي وظائفه الجنسية والعقلية ويحقق كماله المنشود بدونها؛ ومن هنا جاء هذا التعبير المشهور: (الحق الطبيعي) الذي يعتبر عنوان النظرية المثالية. وإذن الحق فكرة لا أمر وجودي، ومبدأ عقلي لا ظاهرة واقعية؛ والظواهر الواقعية على اختلافها ما كانت لتصل إلى تصوير الحقوق بهذه الصورة المثلى. وقد يسلم بعض المثاليين بوجود حقوق مكتسبة، ولكنها تختلف عن الحقوق الطبيعية كل الاختلاف، ولا تسمى حقوقاً إلا بضرب من التوسع والمجاز؛ وفرق ما بين الحق الطبيعي والمكتسب أن الأول مصحوب دائماً بعاطفة داخلية وشعور باطني يقدسه ويحترمه وتجمع العقول السليمة على التسليم به

لا نزاع في أن هذه النظرية المثالية تصعد بفكرة الحق إلى مستوى المبادئ الثابتة والحقائق المسلمة، وتريد أن تقول إن الحق لم يكن حقاً لمجرد أن العرف رآه كذلك، بل لأن العقل والطبيعة استوجبت أحقيته، ولا نزاع أيضاً في أن المثاليين بوجه عام يذهبون إلى أن الحق والخير والفضيلة ذات قيم ذاتية قدسها من أجلها الناس، وكل ذلك اعتداد بفكرة الحق وتدعيم لها على أساس عقلي لا نتردد في أن نقدره ونجله. غير أن هؤلاء المثاليين يتناسون الواقع والتاريخ ويغفلون كل التطورات التي مرت بها الحقوق الإنسانية ولا ينظرون إليها إلا في مرحلة كمالها ويزعمون أن الحقوق كلها نشأت على هذه الصورة. مع أن حقوق الإنسان لم يعترف بها إلا بعد أجيال وثورات عديدة، ولا تزال حتى اليوم مجال أخذ ورد؛ والحقوق الطبيعية ليست من الجلاء والوضوح بالدرجة التي يتصورها بها أنصارها، فإنا لا نفهم حقاً كانت الطبيعة وحدها مبعثه. وفوق هذا ففكرة الحق مصحوبة بشيء من الحرمة والتقديس لا تستطيع النظرية المثالية أن تفسره، فهناك حقوق نرى من الإثم الكبير أن نخل بها أو نعدو عليها، وما ذاك إلا لأن التعاليم الدينية أحاطتها بسياج من الجلال والرهبة. وفي اختصار، لئن كان المثاليون قد تلمسوا في بعض الحقوق أسباباً عقلية وطبيعية تؤذن بأحقيتها، فليس معنى هذا أن هذه الحقوق إنما استمدت من العقل والطبيعة

لذلك أحسن الواقعيون كل الإحسان في دراستهم للحقوق دراسة تاريخية وتتبعهم لنشأتها وتطورها. والنظرية الواقعية أشبه ما يكون برد فعل للنظرية المثالية، نبتت في القرن السادس عشر؛ ثم نمت نمواً عظيماً في القرن الثامن عشر بفضل جهود بعض المشرعين والأخلاقيين، وبلغت أوجها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. والواقعيون في الحقيقة قسمان: قسم يرد الحقوق كلها إلى أصل من المنفعة العامة، ويرى أنها لم تنشأ ولم تتكون إلا تحت تأثير هذه المنفعة؛ ويذهب القسم الآخر إلى أن الحق وليد القوة، نشأ في كنفها وتربى على حسابها، ولولا القوة ما عرفت الحقوق ولا سلم بها

وربما كان مشرعو القرن الثامن عشر وفلاسفته أول من بنى فكرة الحق على أساس من المنفعة العامة، وفي مقدمتهم أستاذ القانون الجنائي بيكاريا الإيطالي، والأخلاقي الإنجليزي بنتام، والفيلسوف الفرنسي هلفسيوس. ثم جاء واقعيو القرن التاسع عشر عامة ورجال المدرسة الفرنسية خاصة فساروا في هذا الاتجاه وأيدوه كل التأييد. فنرى في إنجلترة جون استورث مل وسبنسر، وفي ألمانيا جيرنج، وفي فرنسا الفقيه الشهير ديجي؛ وكل هؤلاء يلتقون في نقطة واحدة، وهي أن الحقوق أثر من آثار الحياة الاجتماعية، ولولا المجتمع ما عرف حق ولا قدس واجب. فالحقوق إذن تتغير من بيئة إلى أخرى، وتخضع لمختلف العوامل الاقتصادية والسياسية والدينية. وإذا كانت المصلحة الذاتية تدفع بعض الأفراد إلى التشبث ببعض الحقوق والمطالبة بها، فإن المصلحة العامة هي الحكم الفصل في كل هذه الشئون؛ والشرائع الراقية تتخذ من هذه المصلحة الدعامة لكل القوانين، فلا حق إلا ما طابقها وجاء موافقاً لمقتضياتها، وإذا كان أنصار النظرية المثالية يعتدون بالفرد وحقوقه، فإن هذه الحقوق لم تعرف إلا عن طريق المجتمع؛ وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن الحقوق أول أمرها كانت شعبية طائفية، ثم تطورت على مر الزمان وظهرت حقوق الأفراد بجانب حقوق الهيئات والجماعات

لقد نجح هؤلاء الواقعيون في تفسير الحقوق على ضوء الحاضر والماضي، وربطوا فكرة الحق بالمجتمع؛ فأصبحت ذات وجود خارجي، وبهذا أمكنهم أن يحللوها ويميزوها ببعض الخصائص. ولا نستطيع في العصر الحاضر بوجه خاص أن ننكر ما للمنفعة العامة واعتبارها من أثر في الحياة الاجتماعية، ولكن رد الحقوق كلها إليها يتنافى مع الواقع، فهناك حقوق عمرت طويلاً ودان الناس بها مع مخالفتها الصريحة لها. على أن النظم الاجتماعية لا تخضع لموازنة منظمة بين المنافع المختلفة، وفكرة المنفعة نفسها غامضة غير قابلة للتحديد في يسر، وقد فشلت في توضيح فكرة الخير والشر، ولن تكون أعظم نجاحاً في تدعيم فكرة الحق. ومن الغريب أن أنصار هذه المنفعة العامة هم الذين يقولون إن حب الذات غريزة أولية في حين أن حب الغير غريزة ثانوية فكيف تستطيع هذه الغريزة الثانوية أن تكوِّن الحقوق وتتغلب على الغريزة الأولى؟ ومهما يكن من أمر هذا التناقض فإن هؤلاء المنفعيين وفقوا كل التوفيق في ربط الحقوق بحياة المجتمع وعدها ظاهرة من ظواهر تخضع لكل ما يطرأ عليه من عوامل ومؤثرات

إبراهيم مدكور