مجلة الرسالة/العدد 346/رسالة الفن
→ الأدب في الأسبوع | مجلة الرسالة - العدد 346 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1940 |
الموسيقى فن وإلهام
للأستاذ محمد السيد المويلحي
أكثر الناس في هذا الزمن يعتقدون أن الموسيقى (علم) ككل العلوم لها قواعد ومبادئ، ولها مناح ونواح متشعبة متفرقة لا يمكن جمعها وهضمها إلا بالبحث والفحص والدرس، بل هم يعتقدون أكثر من هذا؛ يعتقدون أنها تخضع للدأب والكد، وتعطي سرها وسحرها لمن يتعب أكثر من غيره في طلبها. . .!
وليس هذا في مصر والشرق فحسب؛ بل في جميع بقاع العالم، وفي كل البلاد التي بلغت ذروة الحضارة وأدركت نهاية المدنية. . . فهناك المدارس المختلفة، والمعاهد المتباينة، والجامعات المختصة في تدريس كل (مادة) من مواد الموسيقى؛ وهناك الأساتذة الذين قطعوا كل عمرهم أو جله في التخصص والانقطاع لتجويد ناحية واحدة يكررونها صباحا ومساء. . . حتى (الصوت) استطاعوا أن يوهموا الناس أن في مكنتهم السيطرة عليه بل وخلقه خلقاً جديداً. . .!
ولكن هذا ليس من الواقع في شيء، فإن كان للموسيقى فروع وأصول، وقواعد ونظريات، فليس معنى هذا أن كل من يلم بها أو يهضمها يسمى (موسيقياً) أو فناناً يعبر عن خوالج الناس بروحه الشفافة الملهمة.
الموسيقى ليست مهنة تعلم، ولا حرفة تجاد، ولا صنعة تكتسب، وإنما هي فن وإلهام كما قلت في رأس هذا الكلام. . . هي إلهام لأنها أسمى من أن تخضع لقوى البشر الذي يخضع لها، وهي قوة سحرية روحية تفعل في النفوس ما لا تفعله قوى الأرض مجتمعة متضامنة. . . فهي تضحك وتبكي، وتفرح وتحزن، وتسعد وتؤلم في لحظات، فهل ثمة قوة إنسانية (مكتسبة) تستطيع أن تملك مثل هذا السحر؟
إن (العالم) الذي يقسم لك الموسيقى إلى قواعد غربية وقواعد شرقية وموشحات وادوار ثم يقول لك أن الموسيقى عبارة عن (دواوين) وان كل ديوان له درجات أساسية و (نيمات) وعربات و (تيكات) وان بين اليكاه والعشيران كذا من المسافات، أو أن يقول لك إن الديوان الأول (مثلاً) يحتوي على ثلاثة (تكوك) وسبعة عربات. . . الخ ويروح مقارناً بي الموسيقى الغربية، والموسيقى العربية، ويفضل إحداهما على الأُخرى ناسياً الذوق، والطبع، والعادة، والبيئة - لهو أبعد الناس عن الموسيقى وعن الفن الصحيح وان كان هو يأبى ذلك. فليس الفن أرقاماً تجمع وتطرح وتحفظ وتعرف وإنما هو قوة هائلة معجزة يسوقها الملهم العبقري أمواجاً سحرية ولو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف النيمات والتيكات والعربات. . .!!
(فموزار) الموسيقار الألماني الخالد عزف وهو في طفولته على البيان والكمان والأرغن من غير أن يتعلم درساً واحداً عليها!! ولعل القارئ يدهش حينما يعلم أنه كان يسبق الأساتذة الذين أتى بهم لتعليمه، وتوجيه عبقريته في الوجهة الصحيحة (كما كانوا يزعمون) حتى إن أحدهم بكى أمام سحر الطفل، وقال لوالده:
(ليس عندي ولا عند غيري ما يجهله ابنك، إنه ابن الموسيقى وقد علمته سرها وسحرها!) (وبتهوفن) الذي كان يطلق عليه (إله الموسيقى) والذي أرهقه أبوه في طفولته وظن أن كثرة (التعليم والإرشاد) تنفعه. كان يبكى لأمه ويشكو ظلم هذا الوالد ويقول لها: لقد أوشك أبي أن يبغضني في الموسيقى وفي الحياة نفسها. . . فلما تركوه وشأنه كان لا يفارق البيان أبداً إلا ليأكل أو لينام. . .!! وبعدها أخرج آياته الخالدة التي لا تزال إلى اليوم سمواً لا يدانى. . .
قد يقول قائل وما فائدة تلك المدارس إذن، وما فائدة هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم للتدريس وجعلوا من أنفسهم حفظة لقواعد الموسيقى وعلومها. . .؟
فائدتهم التوجيه والتهذيب فقط. أما الخلق والابتكار والقدرة والسيطرة والتحكم في ميدان العواطف، أما التغلغل في الأعماق والسريان في الدم والتلاعب بالأرواح، فهذا كله لا يعرف العلم، ولا يخضع للعلماء. . .!
أن الذي يغني أو يعزف لا يصف النظريات، ولا ينتقل من نغم إلى نغم مرسوم موضوع، وإنما هو ينطلق بروحه فتتحكم في لسانه أو بنانه وتروح مستولية على خلجات المستمعين، وطوبى لمن يأسره فنه أولاً قبل أن يأسر غيره لأنه يفعل العجب. . . ولا يهمه بعد ذلك أخرج على (الوحدة) أم ظل محافظا عليها، ولعل من هذا الباب قصة المرحوم (عبد الحي حلمي) الذي كان يشدو ليلة كبلبل نشوان والناس من حوله سكارى من خمر الطرب فخرج على (الوحدة) فأرشده (عازف القانون) فزجر قائلاً: خلَّ الوحدة لك ولأمثالك، إنني أغني لهؤلاء الذين يفهمون الموسيقى!
ولهذا لا يمكن لمطرب يغني لحن غيره، ويترجم إحساس غيره، أن يصل إلى درجة مطرب يلحن لنفسه ويترجم إحساسه مهما أوتي من حسن الصوت وجمال الإلقاء، لأنه يكون ممثلاً وحاكياً، بل يكون كاذباً في رسالته، والموسيقى لا تعرف الكذب لأنها هي نفسها رسالة صادقة!
رب قارئ يقول إنه يسمع بعض المطربين والمطربات من الذين يغنون تلحينات غيرهم قد وصلوا إلى مرتبة سامية لا تدانى، حتى من الذين يلحنون لأنفسهم؟ وردي على هذا الاعتراض أن القارئ سيقتنع إذا عرف أن هؤلاء المطربات والمطربين لا ينتزعون الإعجاب ولا يسيطرون بسحر فنهم وصوتهم إلا إذا انطلقوا من جو تلحين الموضوع وتصرفوا من عندهم التصرف الذي يمليه إحساسهم. . .
إن بعضنا يسمع (أم كلثوم) مثلاً وهي تغني قطعة موضوعة مرسومة فيظل هادئاً أو مشجعاً حتى إذا تصرفت وترجمت إحساسها هاج وماج وفقد سلطانه على نفسه!
وعبد الوهاب، هناك من هو ألمع منه صوتاً وأصفى نبرة ومع ذلك لا يقاس أليه، لم؟ لأن عبد الوهاب لا يترجم للناس إلا إحساسه، ولا يصور لهم إلا روحه. . .
وما لنا نذهب بعيداً؟ أن القصبجي والسنباطي وزكريا وهاشم ومحمود صبح، وهم أئمة التلحين في مصر والشرق قاطبة، لو غنوا تلحيناتهم بأنفسهم - وبعضهم قبيح الصوت - لأدوها أحسن من غيرهم ولو كان أجمل صوتاً وأقوى أداء، وليس هذا بعجب أو غريب، فلن يكون المقلد كالمقلد أبداً. . .!
لنرجع إلى الفن الملهم والفن المكتسب. . .
في الشرق والغرب بعض العلماء الذي تخصصوا في دراسة النظريات والقواعد الموسيقية فألموا بها إلماماً تاماً، وأصبحوا (علماء) ينتفع بعلمهم وطرقهم في دراسة الموسيقى الذين يعتقدون أن الموسيقى تخضع للدرس والبحث كما قلنا، ومع ذلك ترى هؤلاء العلماء تساوون مع الجميع - إلا الموهوبين - في العجز عن فهم الموسيقى الحقة وعدم القدرة على الوصول إليها! لأنهم يصفون الطرق والمسالك التي تؤدي إليها ويزعمون أن الإنسان إذا فحص وصل، فإذا سألتهم ولم لم تصلوا انتم بعد طول بحثكم وفحصكم إلى مرتبة الملهم العبقري الذي لم يقطع زهرة عمره في الجري وراء النظرية والقاعدة؟ قلبوا شفاههم، ولووا رءوسهم، ورأيتهم يستكبرون ويتعامون، ويصفونك مع الملهمين بالجهل الفاضح والعجز الواضح. . .!! ولعلهم معذورون، لأنهم يعتقدون أن الفن يخضع للعلم، وكذلك تراهم - في كل عصر - ينكرون ويحاربون نتاج العباقرة الملهمين. . . وكم شهدت مصر - أيام سيد درويش - من صنوف الدس والتحقير لفن هذا العبقري الأوحد الذي ذاق الأمرين من رجال معهد الموسيقى، لا لشيء، إلا لأنه في عرفهم من الجاهلين، نعم، كم شاهدت مصر - ولا تزال - من صنوف الاضطهاد لفن سيد من هؤلاء الناس الذين لو عاشوا ألف سنة ما استطاعوا أن يصلوا - مجتمعين - إلى فهم قطعة واحدة من قطعه. . .!!
لم يعرف عن سيد أنه كان عالماً يفكر قبل أن يلحن ليخرج تلحينه من نغمة - كذا - كما يريد المغني أو المغنية، بل كان ينتزع اللحن الخالد من صميم الحياة، ومن صميم البيئة المصرية، دون أن يزن أو يقيس بمعيار النظريات ومقياس القواعد والدم، والتك، والوحدة. ومع ذلك، فقد كانت تلحيناته سماوية خالدة يضرب بها لمثل في الربط والضبط. . .!!
وقبل أنت أنتهي، أحب أن أقول: إن الموسيقى فن ملهم أكثر منها علماً مكتسباً، وهي وحي سماوي يهبط من عل فينقله ويترجمه الملهمون لغة تفهمها القلوب والأرواح. . . لغة لا تخضع للقواعد ولا للنظريات، لأنها ليس من صنع البشر. . .!
نعم، إنني أعتقد أن مرتبة (الفنان) أسمى من مرتبة البشر، لأن الله اصطفاه بأنبل ما في الحياة وأطهر ما في الوجود. . . وهو (الفن)، بل وأعتقد أكثر من هذا، أعتقد أن الله اصطفاه (بنفسية) لا تخضع لعوامل الشر، ولا تنتحي أمام مغريات الشيطان، فالفنان لا يعرف الغل ولا الحقد، ولا المال ولا الجاه، لأنه يعيش كما تريد له الحياة أن يعيش، وينتج كما يريد له الله، لا كما يريد له العلم والتعليم. . .!!
محمد السيد المويلحي