مجلة الرسالة/العدد 346/الربيع الأحمر!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 346 الربيع الأحمر! [[مؤلف:|]] |
إلى وزارة المعارف ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1940 |
الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع المقبل كما يتصوره الشاعر!
لا يزال الربيع في بطن الأرض، وإن الطبيعة لتهيئ لجذوره وبذوره
الغذاء المريء والكساء الوضيء من دماء البشر!
سيولد ولادة الملوك على حشد الجنود وخفق البنود وقصف المدافع؛ وسيدرج في ظلاله الأرجوانية الموشاة على فجوات القنابل وأُخاديدها، فيبذر الحياة في الموت، وينشر الجمال على القبح، وينثر أزهاره الغضةّ على جثث وقبور! ويومئذ لا تدري وأنت ترى غيم الدخان وبرق النيران، وتسمع صفير الرصاص ورعد القذائف، أنحن في ربيع أبريل أم في شتاء يناير؟
على أن الشتاء كان على الناس سلاماً وبركة! خمدت على جليده لظى الحرب، وجمدت في ثلوجهُ مخالب الموت، واستطاع بفضله الهر الفنلندي الضئيل أن ينشب أظافره في حشا الدب الروسي الهائل؛ ولكن الربيع الذي جعله الله نشوراً للحياة ومعاداً للشباب ومبعثاً للحب، سيعين لؤم الإنسان بدفء نسيمه وصفاء جوه، على أن يجعل الأرض لنفسه مجزرة ومقبرة!
الربيع الأحمر! على ذلك هو الربيع الذي لا يخلقه الله وإنما يخلقه الإنسان! سيخلقه من الذهب واللهب والدم، فيجعل من الجداول خنادق ومن الأغصان بنادق ومن الأدواح مدافع؛ وإذن تصبح الأعشاش الناعمة المغردة المعطارة مثابة بؤس ومناحة شباب ومستودع غاز!
سيعود ربيع الله الأخضر بطيوره وزهوره ونوره وسروره إلى الجنة، وسيستعير الإنسان مادة ربيعه الدامي من جهنم، فينبت في كل بقعة من بقاع الأرض آجام من شجر الزقوم الباسق الألف، تئز في آفاقها الطوائر، وتعج في أجوافها المدافع، وتدب في مدارجها الدبابات، وتهب في مجاريها السموم، وترتد فيها أناشيد السلام وأغاريد الغزل أنات وصرخات تذوب لهولها الهائل قلوب الشياطين!
تبصروا أيها السادرون من ساسة الشعوب، أهذا هو الربيع الريان الذي جعله الله جدة للحياة ومتعة للحي، أم هو الخريف الميت أحرقته الحرب باللهب، وكفنته بالنجيع، وأخذت عواصفها الرعن تكسح الأرواح الساقطة قبل الأوان لتقذف بها في هوى العدم؟ تستعجلون أمر الله، وتستقدمون يوم القارعة، وتحاولون أن تدكوا الأرض، وتشقوا السماء، وتذروا الكون الذي عمرته القرون وحضرته الأمم كمعبد (داجون) أنقاضاً على شمشون وأعدائه؟
هيهات أن تصيخ اليوم لنداء السلم أذن! لقد جمع الهوى بالعقل جموح الفرق الشموس، فلا هو يسمع الصوت المهيب، ولا هو يطيع اللجام الكابح!
تلك مشيئة الله، وما تشاءون إلا أن يشاء. ولعله، عزت حكمته، يريد من هذه القيامة العاجلة أن يحيى الناس حياة أُخرى على نمط من الهداية جديد
الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع الخلاق الذي يهز الأرض هزاً فتربو وتنبت! سيهزها هز العافية ليسقط الذاوي وينتعش الهامد. والحرب تشذيب لغرس الله تقوى عليه الغصون ويزكو بعده الثمر. وآفة الحرب أنها تودي بالصالح للحياة وتبقي على الصالح للموت؛ ولكنها كالسيل الآتي يجرف تياره الجني واليابس، ويغرق طغيانه العامر والغامر؛ فإذا انقطعت روافده وجفت مجاريه عادت الأرض به اخصب تربة وأوفر غلة.
مرحباً بالحرب إذا لم يكن من خوض غمارها بد. أنها تقطع الفضول وتنفي الخبث وتذيب الغش وتذهب الوهن. ولعلنا أحوج الأمم إلى طهور الحرب يرحض عنا رخاوة الذلة واستكانة الرق! فقد غبرت على وجوهنا قرون من التبعية المستسلمة لو مرت على الضواري لطمست في جباهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس. كنا نعيش في ظلال المتبوع عيش الأمان والغفلة، لا نعرف الحدود إلا على الورق، ولا نشهد الحروب إلا في السينما، ولا ندرك معنى الدفاع عن النفس في وجود الحامي إلا كما تدركه الزوجة المرفهة في وجود زوجها، والولد المدلل في حضرة أبيه، حتى فشا فينا الجبن، وغلب علينا التواكل، وقعد بنا الرضى، فتركنا ثروتنا للغريب، ووكلنا حمايتنا للحليف، وفرغنا للتنافس في الهزل، والتراشق بالتهم، والتسابق إلى النيابة أو الحكم من غير كفاية ولا غاية!
الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع الجبار الذي يأكل غثاء الخريف وحطام الشتاء ليحيلهما في جوفه الناري غذاء لشجره ونماء لثمره!
وهو وحده الذي يستطيع أن يقتطع الحطب، ويقتطع العليق، وينبت على الجذور البالية خلفة نامية زاكية تهيئ الروض الهامد للنضارة والطهارة والإنتاج والبركة
أن روضنا يا ربيع هشيم وخشب! فأحيه بالماء أو بالدم، وعالجه بالغذاء أو بالسم، فقد استعصى يا ربيع علاجه على النيل، ولابد أن يضحي بجيل في سبيل جيل!
احمد حسن الزيات