مجلة الرسالة/العدد 346/الحق والقوة
→ إلى الدكتور طه حسين بك | مجلة الرسالة - العدد 346 الحق والقوة [[مؤلف:|]] |
قابليات العناصر البشرية ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1940 |
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
في هذا الجو المملوء بالآلام والويلات، وفي هذه الساعات الرهيبة التي ينبض لها قلب العالم هلعاً وجزعاً من مأساة لا يعلم مداها، وتطاحن لا يستطيع أن يقدر نتائجه؛ في هذه اللحظات التي يعتدي فيها الأقوياء على الضعفاء ويطغي المسلحون على العزل الأبرياء، وفي هذه الأيام التي خفقت فيها موسيقى السلم ذات الألحان الشجية والنغمات الحلوة وحلت محلها نواقيس الحرب ذات الأصوات المدوية؛ بل وفي هذه الأعياد السنوية التي كان يقدسها قديماً الهمجيون أكثر مما يقدسها اليوم المتحضرون، والتي كان يلقى فيها الأسلحة المتحاربون؛ في هذه الظروف كلها رأيت من الخير أن أتحدث عن فكرة الحق والقوة.
وإذا ما تحدثت عن هذه الفكرة فإنما أعرض للمشكلة الرئيسية بين مشاكل الفلسفة السياسية منذ أفلاطون إلى اليوم، فهي مشكلة الماضي والحاضر، ويخيل إلي أنها ستبقى مشكلة المستقبل إلى النهاية. وكأني بالحق والقوة ضدين لا يجتمعان وعدوين لا يتهادنان، يقدر لأحدهما الغلب ثم لا يلبث الآخر أن يعدو عليه وينتزع منه سلطته، وما تنازعهما إلا صراع بين الروحية والمادية، بين المثالية والواقعية، بين الإنسانية والوحشية، بين الحضارة والهمجية. ولن أكون في حديثي هذا المشرع الذي يعني بالقوانين وصوغها بين ما فيها من عقوبات وقصاص تحول دون عدوان المعتدين وظلم الظالمين، ولا السياسي الذي يقدم الحلول المختلفة للمشاكل الدولية الهامة. وإنما سأعرض لموضوع الحق والقوة من ناحيته الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية، فأبين كيف نشأت الفكرتان وكيف تطورتا وماذا كان لهما من أثر في حياة المجتمع، ثم أشير إلى أوجه التقابل بينهما وموقف الفلاسفة والأخلاقيين منهما
ليس من السهل أن نحدد بالدقة كيف اتجه الإنسان الأول نحو فكرة القوة، أقاده إليها حسه وبصره وسمعه ولمسه؟ أم هداه إليها شعوره وقلبه وعزمه وإرادته؟ وبعبارة أُخرى هل تبينا القوة لأول مرة في أنفسنا أو في الظواهر الطبيعية المحيطة بنا؟ وهل هي من أصل سيكولوجي أو من مصدر طبيعي؟ وهل هي وليدة العالم الداخلي أو الخارجي؟ وأغلب الظن أنها نتيجة هذين الجانبين وثمرة هذين المؤثرين، فأدركنا القوى الطبيعية وقوتنا الإنسانية في الوقت الذي اصطدمت فيه الطبيعة بنا واصطدمنا بها. وكيفما كان أمر هذه النشأة فإن الإنسان سلم من قديم بوجود قوى في الكون متعددة: طبيعية وإنسانية، مادية وروحية، ظاهرة وخفية، سماوية وأرضية. فإذا ما سألته عن حقيقة هذه القوى عز عليه كشفها وصعب عليه تحديدها، وجل ما تحظى به منه أن يعرفها بآثارها ويتعرفها بنتائجها، فيقول أنها ما يتم به التغير.
بيد انه على الرغم من كل هذا لم يتردد الفلاسفة والاجتماعيون في أن يبينوا هذه الفكرة الغامضة في نشأتها والخفية في مدلولها، وكان لابد لهم أن يفعلوا ما داموا يدرسون التغير وعلله، أن في عالم الطبيعة أو في عالم الإنسان. فنرى الرواقيين في التاريخ القديم ينتهون إلى مذهب ديناميكي شبيه بذلك المذهب الذي صعد به ليبنتز إلى القمة في القرن السابع عشر. يتصورون أن العالم كائن حي مشتمل على النار والحرارة التي هي المبدأ الفعال والمؤثر في المواد والأجسام المنفعلة، ولا كيان للمادة إلا بواسطة ذلك (النفس الحار) (إلابنيما) الذي يضم أجزاءها ويدفعها إلى الحركة والتغير، فقوة العالم كامنة فيه تسيره على نظام ثابت وتخضعه لقوانين معينة. وان فكرة المادة والصورة التي قال بها أرسطو ولم يوضحها تمام التوضيح ولدت في القرون الوسطى تلك القوى الخفية والخواص الكامنة التي هي مصدر التغيرات الكونية والأحداث الإنسانية، وان كان وراءها قوة عظمى، هي قوة القوى وعلة العلل. وإذا كان لبيكون وديكارت رسالة جديدة في التاريخ الحديث إزاء المسائل الطبيعية فهي أنهما حاولا محاربة الصفات الغامضة والصور الخفية التي رددها المدرسيون. على أن بي كون لم يسلم تماماً من آثار تلك الفلسفة المدرسية، وبدا في بحثه التجريبي وكأنه ينقب عن أمور ذاتية وصفات أولية للأشياء هي سر تميزها وتغيرها، وفكرة الحركة والتدافع التي ذهب إليها ديك أرت ترد التغير في آخر تحليل إلى قوة وحيدة، إلى البارئ جل شأنه. ولعل هذا هو الذي قاد ليبنتز إلى نظرية (النتاد) والذرات الروحية، فكان يتصور الأجسام كلها في صورة معنوية ابلغ مما ذهب إليه الرواقيون، ويتوهم أنها مجموعة ذرات روحية فيها قدر من النشاط والإدراك يتفاوت على حسب مرتبتها، وقد أبدعها ونسقها اله هو روح الأرواح ومناد المنادات، وإذا كان مرجع التغير كله إلى الله فلم نبحث عن قوى وأسباب أُخرى سواء؟ والأجدر بنا أن نرد كل شيء إليه سواء أكان من الظواهر الطبيعية أو الأعمال الإنسانية. وهكذا رأى مالبرانش وباركلي أن يردا القوى الظاهرية كلها إلى الله، وقررا أن ليس ثمة قوة في نظرهما غير تلك القوة الوحيدة.
هذا هو شأن القوة فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية، وليس شأنها بأقل خطراً فيما يتعلق بالأحداث الإنسانية، فقد دالت بسببها دول وقامت أُخرى، وذل جبابرة وعز آخرون. وللقوة في المجتمع مظاهر عدة: فهناك القوة المادية الجسمية، والى جانبها القوة الصناعية والإنتاجية، ثم قوة المال والفكر والعبقرية، وأخيراً قوة العزيمة الماضية وإرادة الشعوب التي بدلت صفات التاريخ. ولا نظننا في حاجة إلى نلاحظ انه إذا كانت قوة الأفراد والطغاة هي التي سادت العالم بالأمس فإن إرادة الشعوب حلت محلها، بل كانت أحياناً أشد أثراً وأعظم إنتاجاً. ومن هذه القوة الشعبية تولدت الحركات الدستورية وبواسطتها تأيدت النهضات الاستقلالية، وعنها صدرت قوة الطوائف والنقابات والأحزاب. وإذا ما تبتعنا الفلاسفة السياسيين في مراحل التاريخ المختلفة، وجدنا أنهم إنما حاولوا أن ينظموا القوى المتباينة أو عولوا على قوة دون سواها. فأفلاطون قديماً أخذ نفسه بالتوفيق بين قوى المجتمع المتباينة: بين حراس المدينة من جانب، والمنتجين من صناع وزراع من جانب أخر، والحكام والقضاة من جانب ثالث؛ فأراد التوفيق في اختصار بين الشجاعة والمنفعة الذاتية والعقل. ومكيافيلي في عصر النهضة أو هوبس في أوائل التاريخ الحديث، ونيتشه بين المعاصرين إنما ناصروا قوة الفرد وأيدوا الحكومة المستبدة ظناً منهم أنها الوسيلة الناجعة لحكم الجماهير. أما لوك وفولتير وروسو، فقد اعتدوا بقوة الشعب كل الاعتداء، ووضعوا دعائم النظم الدستورية والنيابية الحديثة. والى جانب هؤلاء وهؤلاء نجد جورج واشنطون ومازيني وسعد زغلول على راس النهضات الاستقلالية، كما نجد كارل ماركس يصور قوة اليد العاملة في أوضح صورها، ويعلن حقوقها إزاء أصحاب رؤوس الأموال.
في هذه النهضات على اختلافها والثورات على تنوعها ما يشهد بما للقوة من أثر في حياة المجتمع، بل نستطيع أن نقول أن المجتمع الإنساني مجموعة قوى متعددة، متعاونة أحياناً ومتعارضة أحياناً أُخرى. وسعادة الأمة في أن توجه هذه القوى في وجهاتها الملائمة، وان تتضافر على غرض أسمى. وأي نظام اجتماعي لا ينمو ولا يطرد، بل ولا يحيا ولا يثبت إلا أن كانت وراءه قوى مادية وروحية تغذيه وتعاونه.
(يتبع)
إبراهيم مد كور