مجلة الرسالة/العدد 345/الفروق السيكلوجية بين الأفراد
→ إلى الدكتور طه حسين بك | مجلة الرسالة - العدد 345 الفروق السيكلوجية بين الأفراد [[مؤلف:|]] |
حول (السفاح) أيضا ← |
بتاريخ: 12 - 02 - 1940 |
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
العلاقة بين الذكاء والخلق
الشخصية من الموضوعات التي اهتم بدراستها علماء النفس منذ أوائل القرن الحالي. وقد ذهبوا في تحليلها إلى أنها تتكون من عوامل بعضها فيزيولوجي، وبعضها كيميائي، وبعضها عقلي، وبعضها خلقي ومزاجي. وقالوا إن نتيجة تفاعل هذه العوامل المختلفة تحت تأثير البيئة التي يعيش فيها الفرد هي التي تكون شخصيته. ومعنى ذلك أنه توجد علاقات فعالة بين كل مجموعة من هذه العوامل وبين بقية المجموعات الأخرى. وسأعالج في هذا الحديث موضوع العلاقة بين الذكاء والخلق، وأثر هذه العلاقة في حياة الفرد.
إن قارئاً أو ملاحظاً ليتعسر عليه - من غير دراسة وإحصاء - أن يجزم بوجود تلازم بين الذكاء والخلق الكريم، أو العكس؛ أي بين الذكاء والخلق السيئ أو الغباء والخلق الكريم. لأن الملاحظة العادية تدل على أنه يوجد بين الأذكياء، كما يوجد بين الأغبياء، الشرير المتمرد وكريم الخلق والوديع، وإن كانت بعض الروايات والأفلام نظهر شخصيات المجرمين والمحتالين في مظهر الأذكياء والعبقريين. وقديماً كان الإغريق يبيحون السرقة لأنها آية الذكاء، وكانوا يعاقبون من يقبض عليه سارقاً، أو تثبت عليه التهمة، لأنه غبي لم يستطع أن يفعل فعلته بمهارة ودهاء، فيفلت من أعين الرقباء، شأن الذكي الماهر.
والذكاء - ولاشك - عامل من عوامل النجاح في الحياة فهو الذي يعين الطالب في حياته الدراسية، والمحامي في مكتبه ومحكمته، والتاجر في تجارته، والزارع في حقله وحديقته. ويختلف أثره في نجاح حياة الفرد باختلاف نوع المهنة التي يقوم بها؛ فأثره في مهنة التاجر مثلاً أقوى وأظهر منه في وظيفة عامل البريد. هذا إذا استعمل كل منهما ذكاءه في إجادة عمله، ولكن الذكاء وحده غير كاف ما لم يؤازره خلق كريم متين. والتاريخ يثبت أن عظماء العالم، والعصاميين المبرزين في الأعمال العامة، قد امتازوا بالعقل الذكي، والخلق القوي، وإن من لم يتمتع منهم - إلى جانب الذكاء - بالخلق القويم، قد رأى انهيار عظمته المؤقتة قبل وفاته.
وفي الحياة اليومية يساعد الذكاء على التهيؤ الخلقي المناسب. فالذكي يعرف الظ المحيطة به بسرعة، ويدرك ما تتطلبه هذه الظروف، ويعرف أيضاً قانون بيئته الخلقي والاجتماعي، فيتهيأ بلباقة، ويتكيف بمهارة وقدرة ليناسب بين تصرفاته وبين بيئته وفقاً لقانونها الخلقي الاجتماعي المعتمد، بعكس الغبي أو قليل الذكاء الذي لا يدرك بسرعة - أو مطلقاً - العلاقات بينه وبين الأحوال الطارئة عليه، أو بينه وبين القانون الخلقي، فتصدر تصرفاته عن خطل وحمق، ويحاول العمل في تخبط.
وقد يكون ذكاء المرء مصدر شقائه وفساد أخلاقه، فيجعل منه تأثراً على نفسه وعلى المجتمع، أو لصاً ماكراً، أو مجرماً غادراً. ويحدث ذلك في الغالب إذا كثرت حاجات الفرد ومطالبه ورغباته، ولم يقو إنتاجه المادي المحدود، أو لم تساعده البيئة، على الوفاء بهذه الحاجات والرغبات، فهو أما أن يضحي بهذه المطالب ويكبت هذه الرغبات ويكون حينئذ عرضة للنوبات العصبية والاضطرابات النفسية، وأما أن يلجأ إلى تحقيق هذه المطالب وتلبية الرغبات بطريق غير مشروع، فيحتال ويسرق ويغش، ويصطنع كل السبل التي يصل بها إلى غاياته ويفلت من عقاب القانون. وقد يخونه ذكاؤه فيقع في يد القضاء، ويلقى الجزاء. ثم يعود سيرته الأولى بعد الجزاء، ويستسيغ هذا النوع الجديد من حياته الشريرة. لأنه سقط فهوى ولم يجد من ينقذه بمعرفة سبب الجرم؛ فإن كان في نفس المجرم حاول إزالته وتوجيهه إلى الصالح المنتج المفيد، وإن كان في البيئة عمل على محوه وخلق تناسب بين البيئة وبين الفرد. ولذلك نجد في السجون الأوربية معاهد للتثقيف والإصلاح، ولتعليم الفنون والصناعات المختلفة كالزراعة، والتجارة والطباعة، والحياكة الخ حتى يجد السجين أمامه بعد مغادرة السجن وسائل الحياة التي تتناسب مع ذكائه. والتي تساعده على كسب ما يحقق رغباته فيتجه بذلك ذكاؤه اتجاها مستقيماً صالحاً ويتحقق المثل السائر (السجن مدرسة وتهذيب وإصلاح)
وقد لاحظ علماء القيادة المهنية أن أكثر العمال في المصانع تذمراً، والموظفين في الشركات طمعاً هم أولئك الذين وضعوا في مهنة أو وظيفة دون مستواهم الذكاوي، فيكون هؤلاء دائماً مصدراً للمؤامرات، وتدبير الإضراب، والخروج على النظام. وكذلك وجدوا أن قليلي الذكاء أو الأغبياء إذا ما وضعوا في مناصب ذات تبعة وفوق مستواهم الذكاوي، قصر ذكاؤهم دون القيام بتبعاتهم، فيعروهم الاضطراب والهم، وينغمسون في الشهوات والملاذ غير المشروعة، ويسرفون، وتكون عاقبتهم الجنون. فعدم التناسب بين الذكاء وبين العمل الذي يقوم به الفرد قد يقود لا إلى فساد الأخلاق فحسب بل إلى الأمراض العصبية والجنون.
أنفق البروفسور سرل برت، رئيس معمل علم النفس وأستاذ المادة بجامعة كوليدج في لندن، ست سنوات يفحص فيها سيكولوجيا الأطفال ويقيس ذكاءهم. وقد قاس ذكاء ما يزيد على مائة ممن تتراوح أعمارهم بين ست سنوات وخمس عشرة، وكان هؤلاء الأطفال يمثلون كل أنواع البيئات المختلفة في لندن، وقد أرسلوا إليه لارتكابهم بعض الذنوب الاجتماعية كسرقة بخس الأشياء، وكالشحاذة والاعتداء على المارة أو على زملائهم بقذف الأحجار، وكإتلاف مال الغير، والسقوط الجنسي، وخروجهم عن طاعة آبائهم. وقد وجد أن متوسط العمر الزمني لهؤلاء الأطفال المتمردين هو 13. 2 بينما كان متوسط عمرهم العقلي هو 11. 3. وقد استنبط من هذه النتيجة (أن الأطفال المتمردين ينقص عمرهم العقلي عن عمرهم الزمني بنحو سنتين) ثم استنبط - بعد دراسة وإحصاء - أن (7 % من هؤلاء الأطفال ضعاف العقول أو ناقصوها) هذا وإذا علمنا أن نسبة ضعاف العقول بين جميع السكان - كما ثبت نظرياً - هي 2 % اتضح لنا مقدار زيادة ضعاف العقول من الأطفال المجرمين والمتمردين. ويقول الأستاذ برت أيضاً: (ولا يتعارض الذكاء الفائق مع التمرد، ولكن المشاهدة تدل على أن وجوده بأية درجة بين المتمردين يعد نادراً)
ويرى الأستاذ في كتابه (الطفل المتمرد) أنه من الضروري أن ندرس الطفل المتمرد لا من ناحية ذكائه وضعفه العقلي فقط، بل يجب أن تدرس بيئته ولا سيما المنزلية، لأن حال الأسرة الوجدانية المضطربة، وإهمال الطفل وترك حبله على غاربه، كل هذا له من الأثر ما لضعف العقل في إيجاد روح التمرد والإجرام عند الطفل. والفتاة البالغة التي لا تجد في المنزل إلا شقاء وسوء معاملة تسرع إلى هاوية الفساد، وبخاصة لأن ضعف عقلها يعرقل نجاحها في الحياة الاقتصادية والعملية والاجتماعية فلا تعرف كيف تحل معضلاتها، وتخلص من شقاء المنزل بطريق تضمن لها الحياة وشرف العرض.
وقد أجرى الأستاذ لويس ترمان بعض التجارب لمعرفة العلاقة بين الذكاء والخلق وقارن بين مجموعة من الأطفال ذوي ذكاء مختلف الدرجات تبلغ 533 ومجموعة أخرى مساوية لها من الأطفال النابغين، ووجد أن المجموعة الثانية على خلق أسمى من الأولى في صفات الصدق والأمانة والشفقة ويقظة الضمير، كما وجدها تمتاز جداً بالمثابرة والإرادة القوية.
من أجل هذه عنيت الأمم الأوربية والأمريكية بتعيين علماء نفسيين في المحاكم، وفي أقسام البوليس، وفي مجالس التعليم الإقليمية والمدينة، ليعينوا القضاة ورجال البوليس ورجال التعليم بدراسة الأطفال والكبار المتمردين والمجرمين الذين يشك في ذكائهم ومقدرتهم العقلية، حتى يكون الجزاء مبيناً على ظروف الجريمة وحال المجرم العقلية. وفي لندن والمدن الأمريكية الكبرى - غير علماء النفس هؤلاء - عيادات سيكولوجية يرسل إليها المتمردون والمجرمون لفحصهم والتقرير عن حالهم.
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد الحميد