مجلة الرسالة/العدد 343/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 343 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 29 - 01 - 1940 |
علي الطنطاوي وكتابه
في بلاد العرب
بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . وهاهو ذا الطنطاوي يخرج كتابه الجديد بعد تردد، وهاهو ذا يلقى بنفسه بين أيدي أهل النقد لينال ما يناله المؤلفون من نقد جارح وتقريظ ناعم، ومن تهجم لاذع ومداعبة لينة. . . ويرمى بكتابه إلى الناس ليقرءوه ويشرحوه، ثم ليطنبوا في مديحه أو يدركوا به ثأراً قديماً لهم، فينالوه بالتعريض. فلنشمر إذن مع هذا الناس ولننقد هذا الكتاب كما ينقد الطائر الأرض لينبش منها حبها وزوانها. ولنحدث الناس عن الطنطاوي الذي يخشى الناس غضبه، ويخافون على أنفسهم منه، ولنلق بأنفسنا بين يديه يتحدث عنا ما يشاء. فقلد تربصت طويلاً، وحاولت أن انقده كثيراً. ولكني كنت في كل مرة أغلب على أمري. أما وقد أخرج الآن كتابه، فلن أبطئ أبداً، فقد ألقى بنفسه بين يديّ، وأصبح كتابه بين عينيّ. وليت شعري أأمن صديقي على نفسه عندما أهدي إليّ كتابه وسألني أن اكتب عنه ما أشاء!. . .
لقد سمرت يا صديقي مع كتابك طول هذه الليالي المظلمة التي فاجأنا بها هذا العام الوليد. وكنت أقرأ فيه فأسمع تلك النغمة الحزينة تارة والطروب أخرى التي كانت تتعالى من سطورك وكلماتك، فتهيج حسي كما أهاجته تلك النغمة التي كان يحدثها المطر وهو يقرع زجاج النافذة، ويتساقط على أوراق الليمون والبرتقال التي هزتها الريح المعولة وروعها السحاب الهتون. والحق إني استمعت إلى نغمتين حزينتين: نغمتك وأنت تصف مآسي هذا الوطن الباكي، ونغمة المطر وهي تحدث الأوراق الذابلة. ثم خرجت من الكتاب وأنا أسيان نشوان، طروب معجب. فاسمح لي يا صاحب الرسالة أن أتحدث عما رأيت وما سمعت
لقد قرأت قولك في مقدمة الكتاب إنك كنت في حرب مع الحياة فذكرت بلدك هذا، وكيف أنكرك، فلقد اعتادت الشام أن تعظم الجاهل الغريب، وتحطم النابغ القريب. فلما رأيت ما رأيت تركت دمشق تبتغي مصراً، فعشت بها أمداً اتخذت فيه من الأماكن والناس أصدقاء لقلبك وأحبة لنفسك، وأنفقت أيامك فيها في دار العلوم طالباً وكلية الآداب مستمعاً، وفي (الفتح) و (الزهراء) كاتباً ومحرراً، وعند خالك محب الدين الخطيب سعيداً ومستفيداً. ثم بدا لك. . . وعاودك الحنين إلى وطنك، فعدت إليه فعينوك للصبيان معلماً، وقدمّوا الجاهلين عليك؛ فهزأت بهم وسخرت منهم، وخرجت من بلدك تبتغي العراق فعلمّت في ثانوياتها الأدب، ثم قصدت الحجاز وعبرت الصحراء، ثم عدت إلى بغداد، ثم رجعت إلى دمشق وإذا بهم يمكرون بك مرة أخرى
ذلك لأنك من هذا البلد. . . وأن هذا البلد قد اعتاد وأد أبنائه. . .
عفواً يا بلدي الحبيب!
فتلك شيمة أبنائك. . . يكرمون الغريب ولو كان جاهلاً، ويفتحون له صدورهم، ويوسعون له في دورهم، ويؤثرونه على أنفسهم. . . ويموتون هم من الجوع. . . فإذا تولى عنهم رماهم بكل قبيح، ولكنهم يصفحون عنه، ويسعون لاستقبال غريب آخر. . .
نعم، تلك شيمتك وشيمة أبنائك يا بلدي. . .
ولقد أعجبني أنك ظهرت في كتابك أديباً حقاً، يهزك كل شيء، وتحن إلى كل شيء. . . والأديب الحق من إذا رأى شيئاً أثر فيه، فحرك نفسه، ودفعها إلى الكتابة. لقد طوفت في ربوع الشام. . . فحركت نفسك روائع دمشق، هذه الزهرة الناعمة التي نبتت على أطراف الصحراء، يسقيها بردى بدموعه، ويحرسها قاسيون الجليل بنفسه، والتي يسعى إليها الملوك ليتمتعوا بنظرة منها، ويستنشقوا عطرها. . . فوصفت ما رأيت وأبدعت. وقد أعرض قومك عن تلك الروائع ولم يحفلوا بها، ثم ذهبت إلى العراق، فرأيت وسمعت، وتذكرت الماضي المجيد يرقص على شطآن دجلة، ويرتع في جنبات بغداد، فقلت عنه ما قلت، ثم أوليت العروس حبك. . . فلما رأيت الإيوان هاج حسك، ثم زرت سر من رأى، فهاجت شجونك. . وأنت في كل مرة تكتب وتغني. ثم ذهبت إلى الحجاز - فذكرت محمداً سيد العالم - عليه صلوات الله وسلامه، ورأيت النور ينبثق من هاتيك النجود، فيغمر الدنيا. . . فذرفت دمعة على الماضي الفخم يواريه أبناؤه التراب ولا يحفظونه، ويستبدلون بالعز ذلاً، وبالحرية قيداً، وبالسيادة عبودية. ثم ذكرت العقيق وأيامه، وسمعت الشعر الطروب والغناء الراقص والحب الرفاف. . . فحننت ووصفت، ثم عدت إلى بيروت فهمت على سيف هذا البحر الحبيب، وشردت في الجبال الخضر ووصفتها أيضاً، وأنت في كل مرة تذكر وتبكي، وفي كل مرة تحن وتطرب، وفي كل مرة تدع قطعة من قلبك هنا. . . وقطعة منه هناك. . .
فقل لي ما بقي من قلبك يا صديقي!
لقد نثرته هنا وهناك. . . (في بلاد العرب) فكيف تعيش بدون قلب؟ وكيف تحيا بدون فؤاد؟
وميزة أخرى أعجبتني. . . ذلك أنك لست أديباً فقط، ولكنك أديب إقليميٌّ. والأدب المحلي ينقصنا يا صاحبي. وكما أن بمصر أدباً محلياً، فيجب أن يكون مثله في شامنا وعراقنا وحجازنا، وأن تبدو في كل أدب مظاهر القوم وشعورهم وعواطفهم. ومجموع هذه الآداب كلها يؤلف الأدب العربي في القرن العشرين، كما ألف الأدب العربي من قبل أدب الشام، وأدب العراق، وأدب الأندلس. ولو حاولنا أن نبحث عما أنتجته أدباء الشام في أيامنا، وما ظهر فيه أثر الشام جنة الله، ومهبط السحر، وينبوع الالهام، لوجدته قليلاً نادراً
أين من وصف سورية الجميلة الوادعة؟
وأين من كتب عن سورية أم الأبطال؟
وأين من أشاد بذكر الوطن، فبكى آلامه، ومجد أفراحه، وحن إليه؟. . .
أين الأدب الذي يبدو فيه غلظة نفوسنا عند الكريهة وصفاءها في الأمن والسلم؟
أين. . . أين. . .!
كل ذلك لن تجد منه إلا قسماً واحداً عند أدبائنا كلهم. . . أما أنت. . . فعندك كل شيء. . فاهنأ فأنت (كاتب الوطن)
ولست في كتابك أديباً دمشقيَّا، ولكنك أديب مسلم عربي إنك لم تنس العراق فأشدت بأيامه الخوالي، وبكيت بطله غازي ومجدت أباه فيصل؛ ثم ذكرت فلسطين فوصفت بؤسها وجمالها ورجالها وجبل نارها؛ ثم وصفت مصر وعظمتها، وكتبت عن الحجاز وماضيها وحاضرها. . .
فيا أهل الشام!
إذا أردتم أن تسمعوا الأغاني التي قيلت في بلادكم. . .
وتعلموا أن ربوعكم ربوع شعر وبشر وعطر فاقرءوا هذا الكتاب
ويا أهل العراق!
إذا أردتم أن تسمعوا أناشيد محب لبلدكم، عاشق لها، بكى مليكها، ومجد بطلها، وأشاد بماضيها، فاقرءوا هذا الكتاب
ويا أهل مصر!
إذا أردتم أن تعلموا شيئاً عن هذه البلاد العربية، وتروا ما فيها من جلال وجمال وما أصابها من ألم وأسى، وتسمعوا أقاصيص هذه البلاد التي تهفو قلوبها إليكم. . . فاقرءوا كتاب الطنطاوي الشامي المسلم العربي: (في بلاد العرب)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد