مجلة الرسالة/العدد 343/الفروق السيكلوجية بين الأفراد
→ قصيدة لم تنشر | مجلة الرسالة - العدد 343 الفروق السيكلوجية بين الأفراد [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1940 |
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
الفروق العقلية
يعتبر الفريد بينيه - كما ذكرنا في المقال السابق - زعيم النفسيين الذين وضعوا مقاييس علمية للذكاء، وقد ترجمت مقاييسه مهذبة إلى الإنجليزية في أميركا وإنجلترا، وإلى معظم اللغات الأوربية، وإلى اليابانية أيضاً. ومن هذه المقاييس المترجمة والمعتمدة حتى الآن مقياس (استنفورد بينيه المهذب). غير أن مقياس بينيه بصيغته ووضعه يتطلب أن يمتحن كل فرد على حدة، وتلك عملية طويلة مملة، ويحتاج إلى زمن ومجهود، كما أنه لا يناسب الأفراد الذين يرهبون الامتحانات الشفهية التي يواجهون فيها الممتحنين، ولذلك فكر علماء النفس في نوع آخر من المقاييس يقاس به الجمع من الأفراد. وكان دخول أمريكا في الحرب الكبرى سنة 1917 من العوامل التي جعلت الحاجة إلى هذا النوع من المقاييس الجمعية ملحة. فقد أرادت السلطات الحربية الأمريكية أن تعزل من المتقدمين للخدمة العسكرية ضعاف العقول لأن هؤلاء لا يصلحون لحمل السلاح ونزول الميدان، كما أرادت أن تختار من بين الصالحين لحمل السلاح أفراداً ذوي ذكاء يمرنون للوظائف ذات التبعات كوظيفة الضباط والقواد، ولم يكن من الممكن عملياً استخدام (مقياس استنفورد المهذب) ولذلك اجتمع علماء النفس الأمريكيون ووضعوا نوعين من المقاييس الجمعية: نوع يسمى (مقياس ألفا)، وهو لفظي تحريري لمن يقرءون الإنجليزية ويكتبونها، ونوع يسمى (مقياس بيتا)، وهو تحريري غير لفظي للأجانب الذين لا يعرفون الإنجليزية والأميين الأمريكيين، وقد طبع كل من النوعين، وكان يوزع في كراسات على المجندين. وبذلك أمكن اختبار آلاف منهم في دقائق معدودة
ومن الاختبارات التي احتواها (مقياس ألفا) عمليات حسابية عادية في الجمع والطرح تتدرج في الصعوبة من أول الصفحة إلى آخرها. وعلى الممتحن أن يقوم بهذه العمليات بأسرع ما يمكن وفي زمن محدود. وكذلك منها صفحة بها عمودان من الكلمات المألوفة، والكلمة التي في العمود التالي إما مرادفة للكلمة التي قبلها في العمود الأول أو مضادة. وكل ما يطلب من الممتحن هو أن يكتب أمام الكلمتين حرف (ر) إذا كانتا مترادفتين، أو ح (ض) إذا كانتا متضادتين. ومنها صفحة بها جمل كلماتها موضوعة في غير نظام معنوي، وعلى الممتحن أن يضعها في نظام بحيث يستقيم المعنى مثل: النور شروق يظهر الشمس عند. ومثل جملة: جريمة النفس الدرجة عن القتل للدفاع من الأولى، ثم يذكر إذا كانت الجملة قضية صادقة أم كاذبة. ومنها أيضاً صفحة ملأى بالأسئلة لمعرفة الأسباب المعقولة لحوادث عادية مألوفة كالسؤال: لم يستعمل معدن النحاس في الأسلاك الكهربائية؟ ألانه يوجد في الولايات المتحدة، أم لأنه جيد التوصيل، أم لأنه أرخص المعادن؟ وعلى الممتحن أن يضع علامة على السبب المعقول. وأما (مقياس بيتا) فهو لا يحتاج إلى قراءة أو كتابة لفظية، ومن اختباراته: اختبار تكملة الأجزاء الناقصة في الصور المرسومة في صفحة من الكراسة، كتكملة العين الناقصة في وجه إنسان، أو الأذن في وجه حمار. ومنها تكرار رموز على نظام خاص مرسوم في الكراسة كهذا النظام مثلاً: + +. . . أو هذا النظام - + - +. . . ولكل من هذه الاختبارات درجة. والنسبة المئوية لدرجات كل فرد تعين مقدار ذكائه. وقد ظهرت صلاحية هذين النوعين من الاختبارات في الجيش الأمريكي، وانتشر استعمالها وبخاصة (مقياس ألفا) في المدارس الأمريكية والإنجليزية. وقد بلغ عدد الجنود الذين امتحن ذكاؤهم بهذين المقياسين نحو مليونين
وقد استرعت نتائج هذه المقاييس أنظار علماء النفس، فقد وجدوا - بصفة عامة - أن أذكى الجنود هم أولئك الذين يحترفون مهناً علمية أو فنية كالمحامين والأطباء والمدرسين والمهندسين الخ ويليهم في الذكاء التجار والكتبة، وبعدهم الميكانيكيون العاديون، وأخيراً يجئ العمال وذوو المهن اليدوية. وليس معنى ذلك أن كل فرد من طبقة المحامين والأطباء والمدرسين الخ أذكى من أي فرد من طبقة التجار والكتبة. لا، بل الذي وجد هو أن الطبقة الأولى كمجموعة أذكى من الطبقة الثانية كمجموعة. وإن كان من بين أفراد الطبقة الثانية من يفوق في الذكاء بعض أفراد في الطبقة الأولى. وربما يتساءل القارئ: وهل لنوع المهنة أثر في الذكاء؟ والجواب على ذلك هو أن للذكاء أثراً في اختيار المهنة لا العكس. لأن القاعدة العلمية هي أن من لا يواتيه ذكاؤه للدراسات الجامعية أو العالية يقف دونها، وبذلك يختار من المهن ما يناسب مؤهلاته دون الجامعية، ويناسب في الوقت نفسه ذكاءه المحدود كان من عناية رجال التعليم في أميركا وأوربا باختبارات الذكاء الجمعية، أن استعملوها مع امتحانات القبول بالمدارس مختلفة الأنواع والجامعات. ففي إنجلترا مثلاً يعقد امتحان لتلاميذ المدارس الأولية في سن الحادية عشرة لاختيار من يصلح منهم للمدارس الثانوية، ومن يصلح للمدارس الوسطى الفنية، ولمنح المجانية للمتفوقين ذكائياً. وقد أصبحت اختبارات الذكاء الجمعية مستعملة مع امتحانات التحصيل المدرسي. وأثبتت نتائج اختبارات الذكاء الجمعية تلازماً مع نتائج الامتحانات المدرسية في معظم الحالات. وفي الحالات التي حصل فيها اختلاف ظهر بعد البحث والتحليل مرة أخرى أن اختبارات الذكاء إنما قاست الذكاء الفطري الذي لم تستطع الاختبارات المدرسية كشفه. أو أن الاختبارات المدرسية قاست مقدار التحصيل المدرسي فقط. ولذلك يوصي المربون وعلماء النفس أن تستعمل اختبارات الذكاء مع الاختبارات المدرسية، حتى نحكم حكماً صحيحاً على ذكاء الفرد وتحصيله
وهناك نوع من اختبارات الذكاء يسمى (الاختبارات العلمية) وميزة هذه الاختبارات أنه يسهل استعمالها مع صغار الأطفال الذين لم يألفوا بعد استعمال الورق والقلم كالتلاميذ عند التحاقهم بالمدارس الأولية، وفيها تقاس أيضاً القدرات الذكائية العملية التي تتطلب الانتباه والتفكير، كما تستعمل بدلاً من مقاييس الذكاء اللفظية التي لا بد فيها أن يكون المختبر ملماً بالقراءة والكتابة واللغة، وفي هذا النوع من الاختبارات العلمية يطلب إلى المختبر أن يكوّن صورة لشيء، أو شخص من عدة قطع من الورق المقوى أو أن يبني مكعباً كبيراً من مكعبات صغيرة في أقل زمن ممكن وبأقل عدد ممكن من محاولات خاطئة أو أن يملأ فراغات منتظمة في لوحة خشبية، كفراغ مثلث أو مربع أو نجمة أو متوازي أضلاع أو جزء من دائرة. وهذا النوع من اختبارات الذكاء هو أقدم الأنواع التي حاولها علماء النفس. وتوجد منه الآن عدة مجموعات مقننة شائعة الاستعمال في المدارس الفنية والمصانع والشركات في أوربا وأمريكا
ولعل القارئ بعد هذا العرض لأنواع مقاييس الذكاء يتساءل: وما هو ذلك الذكاء الذي كثر الكلام عنه، وما طبيعته، وما الفرق بين الذكاء الطبيعي والذكاء المكتسب؟
وموعدنا المقال القادم للإجابة عن هذا كله.
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد المجيد