مجلة الرسالة/العدد 343/أثر المؤتمر الطبي ومصرع رستم حيدر
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 343 أثر المؤتمر الطبي ومصرع رستم حيدر [[مؤلف:|]] |
جائزة هذا العام ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1940 |
أمل وذكرى. . .
كانت القاهرة في أيام عيد الأضحى حجا للعروبة، كما كانت مكة فيها حجا للإسلام. وكان بين عرفات والمقطم أمواج متعاقبة من شعاع الروح الإلهي تشرق في الأبصار والأفواه والأفئدة فتتعارف وتتآلف وتتكاشف، فيفضي كل قطر إلى أخيه ببنات قلبه وذات صدره وكان ولا شك بين وفود المؤتمر الطبي العربي، كما كان بين حجاج البيت الإسلامي الحرام مذكرات وأحاديث فيما يكرب الأرض ويحزب الناس من انفجار العدوان والطغيان والشر في أكثر بقاع العالم، فكان إصفاق الرأي ولابد على ضرورة الوحدة العربية بأي شكل وعلى أي نظام
والحق أن الوحدة العربية في شتى صورها لم تكن في عهد من العهود ولا في حال من الأحوال ألزم منها لحياة العرب في هذا العهد وعلى هذه الحال. فقد كانت بالأمس سبيلاً من سبل الكمال الإنساني تصد عنها عصبية المكان وحزبية المذهب، ولكنها أصبحت اليوم ضرورة من ضرورات البقاء تدعو إليها طبيعة الحياة وسلامة الذات. لذلك لهج بها وفود المؤتمر وشهوده في حفلاتهم الرسمية والشعبية، واعترف بها ودعا إليها وزير الشؤون الاجتماعية في خطبته الخطيرة بدار الأوبرا الملكية
كان عيد القاهرة بما رأينا من تعاطف الأخوة المؤتمرين مبعث أمل؛ وكان عيد بغداد بما سمعنا عن مصرع الوزير رستم حيدر مثار ذكرى. ولم يكن من السهل على الخاطر - وقد امتلأ البصر والسمع بشباب العراق وأخباره - أن ينصرف عن الفكر في حاضر العراق وماضيه
رحم الله رستم حيدر! لقد كان وحده فصلاً في تاريخ العراق الحديث. وإذا كان في بعض حواشي الملوك رجال للهو والزهو، وآخرون للتجسس والتمويه، فإن رستم حيدر كان وحده في حاشية الملك فيصل رجل الجد والعمل. ولم أر في المهاجرين إلى بغداد مع صقر قريش أعلم ولا أفهم من رستم حيدر وساطع الحصري. وقد أبلى الرجلان في إذكاء النهضة العراقية البلاء الحسن: هذا في ميدان الثقافة، وذاك في ميدان السياسة. وكان بينهما مشابه من جهات كثيرة: فكلاهما مستقل الفكر، له في كل مسألة رأي وعلى ك اعتراض. وكلاهما متقن العمل، يتقصى أطرافه ويستبطن دخائله. وكلاهما صليب الرأي، يعييك أن يتابعك على ما تريد. وإذا كان بين الرجلين اختلاف، فهو الاختلاف الطبيعي بين رجل السياسة الذي يتأثر بالأحوال والرجال والحوادث، وبين رجل العلم الذي لا يستخدم غير المنطق ولا يتوخى غير الحقيقة
كان المرحوم رستم حيدر ظاهر الوقار، دائم الانقباض، كثير الصمت، خافض الصوت، هادئ الحركة؛ ولكن هدوءه كان كهدوء الماء العميق، تضطرب في جوانبه الأفكار والأسرار وهو ساكن السطح بارد الأديم
وكان منذ اشتغاله بشؤون العراق مستشار المغفور له الملك فيصل في سياسته الداخلية والخارجية، لبصره بعلوم السياسة والمال، وعلمه بمداخل الأمور ومخارج الحيل. فكانت أعمال العاهل العظيم تجد مصاديقها غالباً في أقوال المستشار اليقظ
كان من سياسة رستم الاعتماد بعد التامين على الفرات قبل دجلة. لأن الفرات شيعي المذهب، وعلى ضفافه الخصيبة تنزل القبائل البدوية القوية. وفي تقوّيه بالشيعة حيطة من نجد، ومودة لإيران
وكان يشيح بوجهه عن مصر، لأن هواها في ثورة الحسين على الترك كان مع الخلافة، ولأن اشتغال طلبتها بالسياسة كان في رأيه مرضاً مخطراً لا ينبغي أن تسرى عدواه إلى العراق ولعله كان السياسي العراقي الوحيد الذي لا يهتم بأحوال مصر ولا يتصل برجال مصر
وكان من رأيه توسيع التعليم الأولي والمهني، وتضييق التعليم الثانوي، وحصر التعليم العالي في مدرسة لتخريج الموظفين ورجال الإدارة، خشاة أن يكثر المتعلمون فيكونوا مصدراً للشغب والإضراب والفوضى. وفي ذلك العهد الذي أرجع بذاكرتي إليه أغلقت المدارس العالية جمعاء إلا مدرسة الطب. وكان من أشد المعارضين لهذه السياسة التعليمية الأستاذ ساطع الحصري، لأنه كان يحاول أن ينشئ الثقافة العامة على قواعد العلم الخالص دون أن يحفل بأهواء الطوائف وأغراض الساسة، ولذلك نحى حينئذ عن سياسة المعارف
وكان من خطة المرحوم رستم أن تظل الأراضي الزراعية ملكاً للحكومة لتضمن بمنح الالتزام ومنعه طاعة القبائل وتأديب العصاة. ومتى تحضرت العشائر وتوحد القانون وعمت المدنية الاجتماعية أمكن أن توزع ملكية الأرض على نظام عادل
تلك هي أقوى الأصول التي كانت تنبت عليها سياسة القصر في ذلك الحين، ولا يعلم غير الله مقدار أثر المستشار في وضع هذه السياسة
لقد كان المرحوم رستم حيدر عنيداً في رأيه صليباً في خطته. والعناد والصلابة صفتان لا يحسنان فيمن يتولى أمراً بالعراق
دخلت عليه ذات يوم من عام 1932 وهو وزير المالية أسأله أن يرد على صديقي أمير بني تميم ما أخذته الحكومة من أراضيه الملتزمة وهو يبلغ خمسة عشر ألف فدان، فأجلسني إلى جانبه عن يسار المكتب الذي سفك عليه دمه منذ أيام؛ ثم أخذ يقنعني بالحجج والشواهد أن الحكومة محقة وأن الشيخ مبطل. ثم عزا المصادرة إلى أمور تتعلق كلها بسلامة العشيرة وإقامة العدل. ولم ير نفسه في حاجة إلى ذكر السبب الأول وهو أن سيد تميم عضو قوي في حزب المعارضة! فأدهشتني جرأة الوزير وأعجبتني لباقته، وعجبت كيف يصر على مناوأة الشيخ وفي سبيل خمسة عشر ألف فدان تخشى الخصومة! ولكنه نجا من مناوأة الأمير لأنه طالب مجد، ولم ينج من مناوأة الموظف لأنه طالب قوت
أحمد حسن الزيات