مجلة الرسالة/العدد 342/حديث حول الشعر
→ لعل الليالي. . .! | مجلة الرسالة - العدد 342 حديث حول الشعر [[مؤلف:|]] |
بعد الفراق ← |
بتاريخ: 22 - 01 - 1940 |
لجان كوكتو وبيبر لاجارد
بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد
(هذه محاضرة طريفة، ولكنها ليست كالمحاضرات في شيء، إنما هي أدنى إلى التمثيل منها إلى المحاضرات. قام بها ملك الأحاديث الصحفية (بيبر لاجارد)، مع الشاعر الكبير (كوكتو) في قاعة (الأنال) في باريس في السنة الحالية، وهنا يسأل الصحفي، الأديب الشاعر، فيجيبه على سؤاله أمام الناس. . .)
(المنجد)
بيبر لاجارد يتكلم:
سيداتي، آنساتي، سادتي:
هذا حديث طريف، سنحاول أن نسمعكموه، وهو يشاكل التمثيل في كثير من نواحيه. سأدفع شاعرنا (كوكتو) إلى الكلام عن الشعر، بعد أن فرّ من باريس واعتزل في البروفانس. إنه لم يعدّ للأمر عدته، ولم يحبر الصحائف، ولكنه سيسمعكم صوته الإنساني المتصعد من أعماق القلب. . .
جان كوكتو
قبل أن أسلم مقالتي لهذا الصحفي البارع، أريد أن أحدثكم عن الصحافة: إنها مهنة من الطراز الأول، ولكنها تتطلب جهداً وذكاءً، لأن صاحبها يسعى لأن يشق المرء نصفين ليستطلع خفاياه، والمرء يحاول الصمت أمام هؤلاء ذكاءً أو كسلاً، ولكن مهما حاول المرء أن يفلت من الصحفيين، تبعوه وأفسدوا عليه هدوءه. إن هذه المهنة هي صيد للإنسان.
أما الشعر الذي سأحدثكم عنه، فهو جني يستطيع أن يتخذ أشكالاً شتى. . . لقد حسب (ليونارد دفانسي) أن الشاعر من ينظم لا من يهز، فنظم من الشعر أبياتاً ليكون شاعراً، ولكنه كان في غنى عن تلك الكلمات الميتة التي صاغها. . . فقد كان شاعراً في فنه، وشاعراً في لوحاته. . . ولقد كان شعره الذي أودعه الصور والتهاويل، أروع من شعر الشعراء. سألوه يوماً: أي فرق ترى بين المصور والشاعر؟. . . فأجابهم: إن للمصور شأناً لا يبلغه الشاعر. سلوا عاشقاً أذبله لوجد، ولاعه الحنين، ماذا تود؟ أأبياتاً من الشعر الرقيق تمجيداً لحبك، أم صورة ساحرة له؟. . . يجبكم: أود صورتها.
ولقد حدث بعد (رامبو) أمر ذو شأن: فقد كان في فرنسة قبل هذا الشاعر شعر. . . ولكن رامبو أطلق الروح الشعري، وكان لا يعني إلا بالروح. . .
وأعني أن الشعر قد أصبح بعده مهنة، فقد كان لا ينظم إلا إذا أثر فيه شيء. . . أما بعده، فقد أصبح الشعر تحت الطلب!
أنا أعجب (بموليير). إن شعره هو مصدر شعرنا الحديث. لقد كان (موليير) صحفياً، يؤلف المجلات، ولكنها مجلات رائعة عميقة سريعة. وإن قصيدته (أورونت) هي نبع ثَرٌّ لشعرنا اليوم. ولو لم تكن أنشودة الأورونت لما كان (مالارميه) ولما سمعنا أهازيج أولئك الشعراء الذين يسكروننا بروائعهم
لقد بعث فينا (موليير) الحياة، وجعلنا نتذوق أشياء كثيرة. كنت في (مونتارجيس). فقرأت (المتشائم) عشرين مرة، وقرأت (بريتانيكوس) عشرين مرة. لأن راسين وموليير صانعا ساعات، فإذا أردت النظام والدقة فالتمسهما عندهما
لم تكن قصيدة (الأورونت) قط رديئة، كما قالوا، وإنما كانت رائعة جميلة، فيها من الشذوذ قليل، ولكن ثقوا أن من هذه القصيدة أتى الشعر الحديث
وتستطيع يا صديقي أن تسألني الآن عما تشاء. . .
بيبر لاجارد
رأيتم أن من العبث إعداد أسئلة لهذا الشاعر، فلقد حدثكم عما كنت أريد أن أسأله عنه. ولكن. . . ما هو الشعر يا صديقي
جان كوكتو
تحسن الصنع إن سألتني عما تشاء. أما الشعر فهو دارة لا يستطيع أن ينفذ إليها إلا رهط قليل. ولن تجدوا وسطاً أرستقراطياً أشد أحكاماً من الشعر. على أنه يجب أن تعملوا أمراً، ذلك أن الشاعر إذ ينظم قصيدة فيها الشعر الصافي وحده، لا يجد لقصيدته هذه رواجاً، لأن الخاصة وحدها هي التي تفهمها، وكذلك لا يجد الشعر الواضح المعاني ما يلاقيه الشعر الدقيق الفكر. إن نصيب الأول يكون نصيب الزهور المتفتحة التي تذبل سريعاً؛ أما الثانية، فاسمعوا. . . إذا أردت أن تهدي إلى سيدة أو آنسة أزهاراً، أنك تدهشها إذا أرسلت إليها الورد المتفتح، ولكنه يذبل، أما يجدر بك لتذكرك دائماً أن ترسل إليها براعم الورد لتتفتح بين يديها. . .!
وأنا أعتقد أن القصائد التي لا تحدث ضجة عند نشرها هي التي تخلد وتبقى. هذا بودلير. . . أخرج للناس روائعه، فصدفوا عنها، لأنهم لم يفهموها، ولكنها أصبحت من بعدُ حديث الناس جميعاً. . . أما هو فكان ينظر إليها كأنها أزاهير وحشية في بساتين نائية مجهولة
وربما أصاب الناس في تقديرهم القصائد أحياناً. ربما سمعتموهم يقولون عن شاعر كبير: إنه ليس بشاعر حق، أو عن مطرب بارع: إنه لا يطرب. ذلك لأنهم أحسوا أن شعر ذلك الشاعر لا يهز ولا يثير، ولأن ما أبدعه متقلب ضعيف
إن الشعر يرفرف على العالم من كل نواحيه، ولكن علينا أن نصطفي ونظهر. فإن في الصحف شعرا، ً ولكنه غير منظوم؛ وإن في الحوانيت شعراً ولكن لا يدركه إلا القليل. ألا تنظرون إلى تلك النقوش وتلك الخطوط التي تزدان بها الصحف؟ ألا ترون تلك الأشكال الرائعة، وتلك التماثيل العارية التي ظهرت في معارض البيع؟ إن في ذلك كله شيئاً يبهج النفس، شيئاً اسمه شعر
الحياة ملأى بالشعر يا سادتي. إن مرأى الطائرين الذين تحترق بهم الطائرة، فيضطربون بين ألسنة اللهب، ويموتون على زئير النار، وهم يستمعون بالمذياع إلى رقص الفتيات وضحك الزنوج في مسارح مونتمارتر لمملوء بالشعر. وإن منظر تلك ألام التي أحست الجوع فالتهمت فخذ ابنها الصغير لشعر أيضاً، ولكنه شعر مخيف مجرم يثير الجمهور لأنه يثير العواطف. إن المرء ليستطيع يا سادتي إقامة معرض للشعر يلاقى أعظم نجاح وأكبر تأييد
بيبر لاجارد
أنت لا تريد أن تحدّد الشعر بالنظم، ولهذا كان ما أخرجته للناس شعراً كله، ولكنه شعر منثور. لقد صنفت رواياتك، مثل (توماس) و (الأطفال الأشرار) وغيرهما وسميتها (الشعر الروائي) وعندما تخرج مجموعة من الرسوم الرائعة، أو كتاباً مثل (سر المهنة) تضعه تحت اسم (الشعر التصويري) أو (الشعر النقدي) فهل هناك صلة بين هذه الأنواع كلها أو أن في نفسك رباطاً يربط بعضها ببعض؟ جان كوكتو
كل ذلك شعر ولو لم يكن موزوناً مقفى. وأنا شاعر، والشعر مهنتي، كما أن للنجار مهنة وللحداد صنعة. لكنى لا أحب ما كان فناً منظماً. لقد حاولت أن أحب ما هو منظم فني، ولكني لم أستطيع
الشاعر طليق، والفنان لا يحب النظام. وإن أولئك الشعراء الذين يودون أن ينيروا كل جزء من أجزاء ذاتهم، ثم يطلبون فوق ذلك نوراً وأشعة طول حياتهم - لعظماء أنهم كجيته العظيم. هم يعشقون النور، حتى في اللحظة التي تعرج روحهم فيها إلى السماء. . . ولكنهم قليلون
دع الشاعر. . . إنه يستمد وحيه من كل شيء. . . من كلب حقير ومن ملك كريم إنه يسعى ويفتش لأنها مهنته. . .
- وهل الشعر مهنة؟
- نعم مهنة، ومهنتي قول الشعر
- وهل تستطيع أن تقول الشعر متى شئت
- نعم، أقول الشعر متى أشاء، كما يصنع النجار النضد متى شاء
- إذن لست بشاعر ولكنك ناظم
- إن هذا المعنى للشعر الذي على أنه الوحي الروحاني، لم يعرف إلا بعد رامبو. الدنيا مليئة بالشعر، ولست عبداً، حتى أنتظر الوحي الروحي. . .
إن لنا في الشعر أساتذة، هم شعراء من نوع خاص، لا ينظمون إلا وهم في كهوفهم، ولا يعرفهم إلا قليلون، منهم رامبو، ومالارميه ورايموند روسّه ل. . . هؤلاء كنوزنا التي نفخر بها. هؤلاء هم الشعراء حقاً، منهم نستلهم شعرنا، وعليهم نتعلّم كيف ننظم وكيف نقول.
صلاح الدين المنجد