مجلة الرسالة/العدد 342/آلام فرتر
→ أفانين | مجلة الرسالة - العدد 342 آلام فرتر [[مؤلف:|]] |
من الأناشيد المرفوضة ← |
بتاريخ: 22 - 01 - 1940 |
فصل للناقد الإنجليزي (ادوارد شانكس)
الأستاذ أحمد فتحي
. . . الأستاذ الزيات:
ليس (جوته) بجديد عليك، فقد أغنيت المكتبة العربية مذ نقلت إلى الضاد العزيزة روايته الباقية (آلام فرتر).
وليس (ادوارد شانكس) بجديد عليك، فانك لأعرف بأنه في صدر نقاد الأدب في بريطانيا.
وليس قلمي بجديد عليك، فقد أفسحت له الرسالة الزاهرة صدرها على الدوام. . .
ولكن الجديد هو أن يكتب (شانكس) عن (آلام فرتر)، فيمجدها كل هذا التمجيد الذي يتردد صداه في آفاق الدنيا، بينما يحال بين الطلاب المصريين في مدارس الحكومة وبين الانتفاع بما فيها من الفن الرفيع. ولينظر جمهور الأدب بعد ذلك في أي عصر نعيش؟!
(أ. ف)
أكبر الظن أن كتاباً يصدر بهذا العنوان في أيامنا هذه لا يقدر له حظ من النجاح. ولكن (آلام فرتر) قد ظفرت منذ ظهورها بنجاح فائق، وطافت أرجاء الدنيا باسم شاب في السادسة والعشرين من عمره. بل إن هذه القصة بذاتها قد أبدعت طرازاً طريفاً، واستحدثت مدرسة جذبت مناهجها أتباعاً ومريدين لا حصر لهم. كان الحزن على بطل القصة يستأثر بقلوب معظم؛ بل إن الألوف من شباب أوربا كانوا في وقت ما يجهدون أن يرتدوا من الثياب مثل ما كان يرتدي (فرتر). بل إن بعضهم قد جرى شوطه وانتهى إلى مثل غايته فقتل نفسه!
قرأ (نابليون) هذه القصة سبع مرات؛ واستصحابها طوال أيام مغامرته في مصر، بعد ظهورها بعشرين سنة. وحينما مثل (جوته) بين يديه في (إيرفورت) بعد ذلك باثنتي عشرة سنة أخرى، كان موضوع القصة نفسها أهم الموضوعات في كل ما دار بينهما من الأحاديث. ولقد أبدى الإمبراطور للشاعر أنه هضم القصة هضماً جيداً، وأحبها في إخلاص، مما كان له أثر باق في نفس الشاعر
وإننا لنحاول في هذا الفصل أن نعرض للبواعث التي أوحت إلى (جوته) بتأليف قصته هذه. ففي سنة 1772 فرغ من وضع مسرحية اسمها (برليخنجن) تعتبر في تأثرها بمسرحيات (شكسبير) من بواكر النزعة الرومانتيكية في المسرح الأوربي. ولقد كان لها بهذا الوصف حظ ملحوظ من النجاح. كما كان (جوته) قد كتب في ذلك الحين كثيراً من أروع شعر صباه. يضاف إلى ذلك أنه كان موضع الالتفات إلى جمال قسماته، وإلي ذكائه اللماح، ومظهره الممتاز. غير أن أباه، وكان رجلاً محافظاً شديد القسوة، أراده على أن يرسم لنفسه طريق الكسب في حياته. ومن ثَمَّ رحل ليتم دراسته القانونية في جامعة (ويتزلر). وكانت هذه المدينة حينذاك مقر المحكمة الإمبراطورية في ألمانيا؛ وفيها أحب (جوته) فتاة كانت قد خطبت قبل أن تعترض سبيل حياته إلى رجل آخر. ومنذ بدأ هذا الحب، بدأت فصول قصة (الآم فرتر) التي احتلت مكانها الملحوظ في قلوب الملايين
كان (جوته) في بواكير صباه فتى ملتهب العاطفة متأزم النفس ضيق الصدر مظلم الخاطر، حتى إنه كان يبتئس للخطب قبل وقوعه! ويقدر أنه هالك لا محالة! ولقد كان من آثار ذلك أن رحل عن (ويتزلر) كسير القلب قبل أن تضع الأقدار لقصة غرامه اليائس نهاية حاسمة. ولو أن المعجزة الهائلة كانت وقعت، فآثرت (شارلوت) عاشقها الشاعر الحساس على خطيبها المتبلد الجامد، فأكبر الظن أن هذا الانقلاب لم يكن ليحول بين (جوته) وبين الهرب من بلدة المرأة التي أحبها من كل قلبه، فإن استعداده الفطري للوقوع في حبائل الحب لم يكن يعدله أو يفوقه سوى استعداده الفطري لإيثار العزلة!
لقد زعم بعض من ترجموا له أنه حين رحل إلى (ويتزلر) كان يضيق بأيامه الأولى فيها، لأنه لم يجد فيها فتاة تستأثر بقلبه. غير أنه لم يلبث حين رأى (شارلوت بون) أن وقع في شرك غرامها. كانت في التاسعة عشرة، وكان لها اخوة صغار اثنا عشر توفيت أمهم. وليس من المحقق أن لقاءهما تم على النحو الذي وصفه في لقاء (فرتر وشارلوت) في قصته بعد ذلك، فقد جاء في القصة أن (فرتر) دُعي ليرافق، إلى حفلة راقصة، بضع فتيات وعدنه بأن يجدن له شريكة في حلبة الرقص، فاستأجر لهن مركبة ذهبت بالجميع إلى بيت (شارلوت) التي لم تكن قد أخذت بعد أهبتها للرحيل برفقتهم، إذ لم تكن قد فرغت من تقديم وجبة العشاء لإخوتها وأخواتها الصغار
كان اللقاء على هذا النحو استهلالاً رائعاً لملحمة شعرية بارعة. ومن المحقق أن شارلوت كانت على أوفر حظ من الجمال والسذاجة والشعور بالواجب. غير أنه كان من سوء حظ (جوته) أن التقى بها بعد أن تمت خطبتها من (ألبرت كتزنر) ولقد كان من سوء حظه أيضاً أنها لم تنصح له بمغالبة عواطفه نحوها قبل أن يفلت من يده زمامها. ولعلها لقيت من الألم ألواناً من أجل نفسها ومن أجل (ألبرت) الذي آثرته آخر الأمر بطريقة عملية إذ رضيت أن تزف إليه دون الشاعر
ولقد كان وضعاً على أكبر درجة من الشذوذ أنهم أمضوا شهور الصيف التالية للزفاف على نحو لا نظير له، إذ كان الشاعر العاشق يلهو حينذاك بدراسة الحقوق، وينفق كل أوقاته ملازماً (شارلوت). وكان فضلاً عن ذلك فتى وسيما ذكي الفؤاد، قد نال من النجاح في حياته الأدبية فوق ما كان (البرت) يصبو إليه في مستقبله. غير أن ألبرت كان منقطع النظير بتسامحه وسخاء ذهنه، فأحب (جوته) ووثق من شارلوت. ولعله قد أدرك بثاقب رأيه أن التسامح كان خير ما يمكن أن يلجأ إليه في ذلك الوضع الشاذ. ويبدو أن (جوته) قد ترك لخياله الحبل على الغارب، فجعل بصور مشاهد المأساة على النحو الذي توحي آلامه، وقد وجدت المأساة خاتمتها بعد ثلاثة شهور رحل بعدها الشاعر إلى موطنه (فرانكفورت) حيث ظل يراسل الزوجين جميعاً برسائل تفيض بأحزانه
على أن فصول هذه القصة على غناها لم تكن كافية لنسج الثوب الرائع الذي ظهرت به (ألام فرتر) بل أتاحت الأقدار لمؤلفها العبقري حادثين آخرين أعاناه على إظهارها في ذلك الثوب الذي لا مثيل له. . .
ذلك أنه التقى في (ويتزلر) بشاب ممتاز المواهب اسمه (أورشليم) ولم يلبث هذا الشاب أن أخفق في غرام له فقتل نفسه!
وهنا اتخذت القصة خاتمة مقبولة. ولكنه لم يكتبها في ذلك الحين أيضاً، بل هيأت له الأقدار فصلاً بارعاً مما اتفق له من فصول حياته الحقيقية نقله إلى حيث صبه في صلب قصته الخالدة. إذ حدث أنه حل ضيفاً بمنزل كهل من ذوي قرباه اسمه (بيتر برنتانو) كانت له زوج حسناء اسمها (ماكسمليان) لم يرق له ما يبدى الشاعر الشاب من الاهتمام بأمرها. فآثر أن يضع حداً لضيافته وطرده من بيته بدافع من الحرص على الفضيلة! وبعد ذلك مباشرة انزوى (جوته) في عقر داره وعكف على كتابة قصته الخالدة، فظهرت أول طبعاتها عام 1774
كان ظهور هذا الكتاب أشبه ما يكون بالقذيفة المفاجئة. وكانت شارلوت وزوجها ألبرت أول من شعر بذلك. إذ أن جوت حين آثر النهج الواقعي في تسجيل حوادث القصة لم يغير أسماء أبطالها! وإن كان قد غير من سياق حوادثها ومميزات الأبطال أنفسهم، فألصق بألبرت كثيراً من نقائص قريبه برنتانو، تلك النقائص التي كان يعلم أن البرت بريء منها تماماً والتي جعلها ذات الأثر الفعال في انتحار بطل قصته (فرتر)
ولقد تحدى (جوته) مواطنيه جميعاً في تقدمته إليهم إذ زعم أنهم لا يقدرون قيمتها في نظر الجماهير الأخرى ولا يقدرون قيمتها بالنسبة إليهم أنفسهم. ولم يكن مسرفاً في هذا التحدي، لأنه إنما أصاب الشهرة في وطنه بوصف أنه مؤلف (برليخنجن) وحسب، بينما استطاعت (آلام فرتر) أن تتخطى الحدود إلى سائر بلاد الأرض، وأن تغزو أفكار الشباب حيثما وقعت في أيديهم، بما تحمل من صور العبقرية الفذة. وإن كثيرين من هؤلاء قد رسم خيالهم (فرتر) كإنسان نبيل القلب غني العاطفة حي الإنسانية؛ لفظته الحياة فآثر عليها الموت. ولقد بلغ من تأثرهم بصدق هذه الصورة أنهم آمنوا بأن الحياة ليست إلا هذا اللون من الإخفاق الذريع، فجروا مع (فرتر) إلى نهاية الشوط، وقتلوا أنفسهم!
ولقد تبين للمتأخرين من رجال الإصلاح الخلقي أن (فرتر) هذا قد زين الانتحار للشباب. وهذه حقيقة يصعب إنكارها، بل هي وثيقة تسجل لمبتكر شخصية (فرتر) مجداً أبقى على الزمن الباقي من الزمن! ولكن شراً من ذلك أنهم أرغموا (جوته) على أن يضع أبياتاً عقيمة ينطق بها (فرتر) في لحظاته الأخيرة، ناصحاً للشباب بألا يحذوا حذوه. ولكن إضافة هذه الأبيات لم تكن لتجدي في الواقع شيئاً، وكل ما ثار حول الكتاب من النقد إنما كان كله إعلاناً زاد رواجه وساعد على تداوله
ولا يتسع المقام لتعقب الآثار الأدبية التي أحدثها ظهور هذا الكتاب، تلك الآثار التي عبرت إلى القرن العشرين وظهرت في شخصيات الأبطال القصصيين الذين ابتكرهم أمثال (بيرون) و (شاتوبريان). غير أن ثمة ملاحظة أخرى يجب أن تضاف إلى ما تقدم عن أثر الكتاب في حياة مؤلفه نفسه. إذ لم يقدر له أن يصيب من النجاح في حياته مثل ما أتاح له هذا الكتاب وهو لم يتخط السادسة والعشرين. وقد يكون لقصته الأخرى (فاوست) عدد أوفر من القراء في هذه الأيام، ولكن لم يكن لها مثل ذلك في أول عهدها بالنشر. وستظل شهرة (جوته) قائمة إلى ما شاء الله بوصف أنه مؤلف (فرتر) وبهذا الوصف دعاه (الدوق كارل أوجست) إلى قصره في (فيمار) حيث بقى إلى أن وافاه القدر وهو في موضع الصدارة بين وزراء الدوق. وإنه إذا تعسر الحكم بوفرة عدد من يقرأون هذا الكتاب في أيامنا الراهنة، فإنه من الكتب التي يتعذر إهمال الحديث عنها. فقد نظم (جوته) فيه أحسن الشعر الذي لم ينظم بعده ولا قبله مثيل له أو خير منه. بل أن هذا الشعر ليبز ببساطته ووضوح تعبيره كل ماعداه من شعر الألمان جميعاً إلى اليوم. والكتاب بعد ذلك وقبل ذلك، حافل بجمال متحرر من كافة القيود والأوضاع، حافل بروح الشباب التي أبرزها الشاعر مرة أخرى في شعر غنائي رائع زان قصته الأخرى (فاوست) تلك الروح التي ودعته منذ ودع شبابه!
(الجيزة)
أحمد فتحي