مجلة الرسالة/العدد 341/فكاهات الحرب
→ من مذكراتي اليومية | مجلة الرسالة - العدد 341 فكاهات الحرب [[مؤلف:|]] |
تلك أيام خلت ← |
بتاريخ: 15 - 01 - 1940 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
الجد ضد الهزل والعبث، ولكنه ليس بضد للفكاهة وملكة السخرية، بل لعله يثيرهما في النفس ويدعو إليهما
فأنت تستغرب استغراب الإنكار والازدراء إذا رأيت رجلاً يهزل ويعبث وهو يواجه الشدة ويقف في الموقف الذي يتطلب العمل والجهد والهمة، ولكنك لا تستغرب هذا الاستغراب إذا رأيته يواجه الشدائد وهو يستخف بها ويتخذ منها موضعاً للفكاهة والسخرية، بل تحمد منه هذه الفكاهة وتعدها ضرباً من القوة والشجاعة، لأن العبث بالجد يفسده ويضعف النفس عن احتماله؛ أما الفكاهة مع الجد فهي معوان عليه
ولا شك في أن سليقة الفكاهة مصرف للنفس الإنسانية وعصمة لها وحافز على النهوض بما يثقل عليها من أوقارها
ولهذا تروج النكات و (القفشات) في إبان الحروب والمصاعب. وتعد (النكتة) امتحاناً لطبائع الأمم وعقولها في هذه الأحوال، فلا تجفل من الخطب أمة تستطيع أن تواجهه وهي باسمة، ولا تبتسم الأمة للخطب إلا وعندها قدرة على النهوض به والتصرف فيه
وسننقل في هذا المقال بعض الفكاهات التي أسفرت عنها الحرب الحاضرة، ثم نعقب عليها بعض التعقيب الذي يخلق بطائفة من المصريين أن يلتفتوا إليه
تحدث الألمان والروس كثيراً بالحرب الخاطفة أو بضربة البرق العاجلة كما يسمونها بها اكتساب النصر في معركة حاسمة سريعة
فزعم الراوية أن إنجليزياً يسال صاحبه ما هي الضربة الخاطفة؟
فيجيبه الصاحب: إنها هي الضربة التي لا تقع مرتين في مكان واحد
فيصمت السائل قليلاً ثم يقول مصححاً!!. . . يخيل إلى يا صاح أنها شيء أسرع من ذلك: يخيل إلي أنها هي الضربة التي لا تقع مرة واحدة في مكان واحد!
والمعروف عن مولوتوف الوزير الروسي أنه تمتمام يتلعثم في كلامه. فذكره أحد السامعين له في المذياع لصديقه وهو يقول: أليس بعجيب أن يتكلم هذا التمتمام أمس ربع ساعة ولا يتلعثم مرة واحدة؟ قال الصديق: كلا! لأنه كان يكذب!
ويعرف بعض القراء تمثال الحقيقة وهو على صورة فتاة رزان تحمل مصباحاً وتستقبل السماء بوجه وقور
فنشرت إحدى الصحف هذا التمثال منكساً وقد أخذ بقدميه على الجانبين كل من مولوتوف وجوبلز وهما يقولان:
هذه هي الحقيقة. . . أليست هي بعينها؟
واشتهر جورنج بحب الألقاب حتى ما كاد يرى إلا وعلى صدره صفوف منها يغيرها بين ساعة وساعة
فزعم الراوية أنه قد بات يخشى أن يأتي بعد اليوم بعمل مجيد يستحق من أجله نوطاً من أنواط الفخار
لأنه إذا استحق هذا النوط لم يجد لتعليقه إلا موضعاً واحداً من كسوته
وعندئذ لا يستطيع الجلوس على كرسيه
وقيل إنه مات فأصبح مستريحاً في قبره، لأنه يحب أن يشعر بشيء على صدره!
وقيل إنه ذهب في زيارة إلى مستشفى المجانين فبدا له أن واحداً منهم لم يكترث له ولم يتحرك لوجوده، فأقترب منه وسأله: ألا تعرفني؟
فأجاب المجنون: كلا!
قال: أنا هرمان جورنج
فظل المجنون على قلة اكتراثه كما كان قبل أن يتحدث إليه (الماريشال العظيم) وكأنما على وجهه علامة استفهام إلى جانب علامة الاستفهام الأولى
فعاد الماريشال العظيم يقول: هلم، هلم، هلم يا صاح! كيف لا تعرف هرمان جورنج رئيس الوزارة البروسية؟
فلم تنقص علامتا الاستفهام على وجه المجنون بل زادتا واحدة جديدة
ومضى الماريشال العظيم يقول: جورنج وزير الطيران!
والمجنون صامت ينظر
ثم يقول الماريشال العظيم: جورنج يا هذا رئيس مجلس الريشستاج! والمجنون في صمته وقلقه وقلة اكتراثه
ثم يقول الماريشال العظيم: جورنج يا هذا. . . جورنج!. . . ألا تعرف جورنج الصياد الأشهر؟
عندئذ يتجاوز الأمر حد الاحتمال في رأي المجنون، فينصرف مشفقاً وهو يردد بين شفتيه:
مسكين!. . هكذا يبدأ الحال معنا جميعاً في هذا المكان. . .
ويعلم القراء أن ريبنتورب كان يتجر بالشمبانيا والخمور قبل ولايته الوزارة
فكتب أحد الناظمين تحت صورته: هذا هو ريبنتروب، هذا هو صانع المعاهدات الآن صانع الشمبانيا من قبل. ولكن لا يعلم أحد أيهما ينطلق فقاقيع في قوارير، وأيهما يسيح بغير صوت!
وصاح المذيع النازي في إحدى الليالي بعد الإشارة إلى ما يقال عن نقض هتلر لمواثيقه:
زعيمنا يا قوم لم يتعود قط أن يكسر كلمة من كلماته
فنشرت صحيفة إنجليزية هذه الإذاعة في اليوم التالي وأضافت إليها هذا الكلمات: (نعم. . . لأن الكسر من خواص المادة نفسها)
وقال هتلر لجورنج عن عرض الصلح:
حسن. . . إذن سأعرض بطاقاتي على المائدة
فأطرق جورنج قائلاً: ليتها بطاقات طعام!
وشاع بين الألمان أن هتلر لا يرى الحقيقة على جليتها فيما يجري من شؤون الحرب والسياسة. فقال القائلون: نعم. يجب أن يتنحى جورنج قليلاً!. . .
وكتبت صحيفة فرنسية بعد غارات الشيوعيين أو الجنود الحمر على شواطئ البحر البلطي، تسأل الجغرافيين: أيصبح البحر الأحمر؟!
وللقريب نصيب وافر من فكاهات الصحفيين الذين لا يشفع لديهم فيه أنه يجيز هذه الفكاهات
ونجتزئ منها بالأبيات التي كتبها ناظم هجاء على (ضريح الرقيب المجهول) قال:
(هنا يرقد في النهاية رقيب ثار عليه الصحفيون المحنقون فنام محشواً برصاص مثل الرصاص الذي لا ينفذ. . . ولعله - والله اعلم - قد تنبه بعد الرقاد فمر على اسمه بذلك القلم المعهود)
تلك نماذج متفرقة من (القفشات) الحربية التي تروج هذه الأيام في البيئات الإنجليزية والفرنسية، وهي كما يرى القارئ على نسق يوشك أن ينتظم في سلك القفشات التي ألفناها من جماعة (أبناء البلد) في هذا الديار، لولا ما يلاحظ على أغلبها من قلة اللعب بالألفاظ وكثرة الاتجاه إلى اللباب
والطائفة التي نود أن نستخرج من هذه القفشات مغزاها الذي هي في حاجة إليه هي طائفة (أبناء البلد) نفسها
لأن الذهن الذي تعودنا أن نسميه بالذهن (البلدي) مصاب بآفة تحجب عنه الكثير من حقائق الدنيا، وهي آفة النظر إلى الأشياء على وجه واحد وصورة واحدة. فإذا ألف أن يقرئ الناس السلام بأسلوب متواتر وألفاظ محفوظة فمن الإخلال بالذوق عنده أن تبدل لفظاً من تلك التحية أو تجريها مرة واحدة على خلاف ذلك الأسلوب
وإذا ألف أن يسمع (القفش) والضحك في مجلس من المجالس وعلى هيئة من الهيئات فليس في وسعه أن يتخيل (تنكيتاً) يدور في غير ذلك المجلس وعلى غير تلك الهيئة وبين أناس غير أولئك الناس
ولعل أكثرهم يفغر فاه من الدهش إذا قيل له أن الأوربيين (يدخلون قافية) كما يفغره دهشاً لو رأى خارقة من خوارق الطبيعة وانقلاباً في أوضاع الحياة، وسمع الخرس ينطقون والعجم يعربون
وإنها لآفة (ذهنية) لا ضير منها على الأمم التي يجهلونها ولا يفهمونها، ولكن الضير الأكبر منها على من يحرمون نعمة النظر الصحيح إلى حقائق الوجود
عباس محمود العقاد