مجلة الرسالة/العدد 340/رسالة الفن
→ الأدب في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 340 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 08 - 01 - 1940 |
دراسات في الفن
أعوذ بالله إنه (مكياج)!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- ما هذا التخطيط؟ أردت بالأمس أن تلحن فأخفقت، واليوم تصور وتريد أن تكون رساماً؟
- أبعدتموني عن الألحان وقلتم كلاماً معناه: (أسكت)، فهل تريدون اليوم أن تخطفوا من يدي الريشة فلا أصور. . . خذوها أيضاً!
- لا تُغَنِّ ولكن لا تغضب، وارسم وسنرى في رسمك رأياً. . فما تريد أن ترسمه. . فكرة؟ أو إنسان؟ أو عاطفة؟ أو عاصفة؟. . .
- لا لا. . . إنسان، كل ما أعرفه عنه هو أنه (كاتب من الكتاب) كتب فصلاً في عدد الرسالة الأخير يوازن فيه بين نفسه وبين سيدنا أيوب
- إذن فستكون صورته أشبه الصور بالصورة التي نتخيلها لسيدنا أيوب
- لا. . بل ستكون صورة أخرى. لأن هذا الكاتب نفسه أراد أن تختلف صورته عن صورة أيوب اختلافاً كبيراً
- وأنى لك ذلك؟
- من كلامه هو فهو يقول: (أيوب فقد الثروة والعافية ولم يفقد اليقين، وأنا فقدت الثروة والعافية واليقين. أضاع الله من أضاعوني! وأيوب استطاع أن يعاتب ربه بقصيد رنان وهو في أمان من ثورة الجمهور، فظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان، وأنا لا أملك معاتبة ربي بسطر واحد خوفاً من رئيس التحرير، وخوفاً من شيخ الأزهر، وخوفاً من محكمة الجنايات، وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟ كان الدينار لعهد أيوب يمون الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهدي يهان فيه الرجل إن اكتفى بالدينار يوماً أو يومين، فمن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟ وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود فكان المجاهد ينال منا ما يشاء كيف شاء، وهي اليوم مقسمة تقسيما يصد المجاهدين أعنف الصدود). . . وهو قبل ذلك يقول للذين أضاعوه - فيم يظهر - (لقد أفلحتم في زعزعة اليقين الذي كنت أفزع إليه حين تكرثني صروف الزمان، فأين أنتم لأشكو إليكم ما جنت أيديكم؟ وأين السبيل إلى ترميم البناء الذي كنت أستظل به من قبل أن أنخدع بالبرق الذي أزغتم به فؤادي. . .؟) فهلا ترين أن هناك خلافاً بين الذي يقول هذا الكلام وبين أيوب؟
- أنا لم أقرأ سفر أيوب
- هو رجل أعطاه الله كثيراً، فابتلاه الله، فصبر، فرفع الله البلايا عنه وفاز. فاختاري له ما تشائين من صوره، وانظري معي في هذه الصورة الجديدة فقد يحتمل أن تشبه إحدى صور أيوب
- وأين هي الصورة، فأني لا أرى في الورقة غير خطوط
- الصورة لا تزال في الغيب وسنستدرجها معاً. . . ولنبدأ بتصوير الرجل الذي فقد الثروة والعافية واليقين. . . هذا الرجل ما مظهره؟ وكيف نرسمه؟
- نرسمه أول كل شيء في أثواب من فقد الثروة، وهي ليست أنيقة ولا غالية، وهو بعد ذلك هزيل ضعيف لا قوة فيه ولا صحة، ولا بد أن تظهر الحيرة في عينيه ما دام قد فقد اليقين. وقد يكون بدل الحيرة جزع، وقد يكون بدل الجزع حذر، وقد يكون بدل الحذر قسوة، وقد يكون بدل القسوة غيرها من سائر النزعات التي تستولي على من فقد اليقين. . .
- بعد أسبوع واحد سأنشئ أنا وأنت استديو نصور فيه العفاريت. . . وما رأيك في قوله: أضاع الله من أضاعوني؟ أهي كراهة منه لمن أضاعوه فنرسمها على وجه، أم هي اعتذار عن فقدانه الثروة والعافية واليقين؟. . . فهو يريد به أن يغفر الناس له مظاهر هذا الفقدان؟
- أظنها كراهة، وأظن هذا الرجل مجنياً عليه، وأظنه لو تمكن من الذين أضاعوه لأضاعهم. . .
- وأنا يخيل إلي أن قوله هذا لا هو كراهة ولا هو اعتذار فقد نسيت أن أقرا عليك من كلامه قوله للذين أضاعوه: خذوني إليكم في ملاعبكم وملاهيكم، عساني أنسى جاذبية البؤس في صحبة قلمي وكتابي!
- عجباً!. . . فهو إذن لا يكره الذين أضاعوه، وإنما يريد أن يكون معهم. فلنرسم إذن على وجهه شيئاً من الغيرة. . . أو لعلها سخرية. . .
- سخرية ممن؟ من الذين يريد هو أن يكون معهم؟ لا. ليست سخرية. وهو بعد ذلك يريد أن يعاتب الله الذي هو الله معاتبة لا تكون إلا من صاحب حق عند نائل منه، ومع هذا، فهو يخشى رئيس التحرير، وشيخ الأزهر. . . فكيف نرسم الرجل الذي له حق عند الله، وعلى علمه بهذا يخشى الأستاذ أحمد حسن الزيات، وفضيلة الأستاذ المراغي. . . كيف يمكن أن نتصور هذا؟ إني لا أتصوره!
- ولا أنا!
- ولا أي إنسان، فأولئك الذين يقرضون الله، ويعطون الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وهم يعرفون هذا من تلقاء أنفسهم لأنهم يعرفون الله ويعرفون أنهم يقرضونه ويعطونه، ويعرفون من هو الله، ومن إلى جانبه رئيس التحرير وشيخ الأزهر. . .
- إذن فأنت تريد أن تقول إنها ناحية مبهمة في الصورة. . .
- بل أقول إنها مكياج. وإنها تشبه دعاءه على الذين أضاعوه في الوقت الذي يريد فيه أن يكون مع الذين أضاعوه في ملاعبهم وملاهيهم. . .
- فكأنه لا أعطي الله ولا أقرضه. . .
- الله أعلم. . . وهو يحسب لأيوب من النعمة أنه ظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان لما عاتب ربه بقصد رنان وهو في أمان من ثورة الجمهور. . . فما الذي يبديه هذا الإحساس في وجهه من الإمارات؟
- إمارات الفكر، لاشك، وعلامات عشاق الخلود. . .
- كلا. فلو سئل أيوب أن يتحدث مرة أخرى عما نال من نعمة الله في عتابه ربه، لذكر أنها هدى ربه، ولما ذكر بيانه ولا قصيده ولا فكره، فما كان أيوب يسعى إلى كلام ينمقه فيحفظه الناس عنه ويروونه له بعد موته، وإنما كان أيوب يتجه إلى الله يطلب منه أن يصلح نفسه، وأن يكشف له عن حكمته فيما ناله من بلوى استعذبها وصبر عليها. . . فأيوب الذي كانت هذه هي نفسه هو الذي تبدو عليه إمارات الفكر لا شك، وعلامات عشاق الخلود
- فمكياج هذه أيضاً؟ ولم لا. . . هذا مقال ظهر في رأس السنة، ورأس السنة عيد يتنكر فيه أصحابه لهواً وعبثاً. . . فلنمض مع صاحبنا هذا، فإنه من غير شك لذيذ. . .
- وهبك وصلت إلى تصويره حقاً. . . فهل تجرؤ على نشر صورته، وهو رجل لا تعرفه، وقد يغضب عليك وأنت أحوج ما تكون إلى عطف الناس لا إغضابهم. . .
- ولماذا يغضب (أيوب الثاني) من كلمتين يقولهما كاتب صغير مفضوح مثلي. . . إنه لو غضب لأكد غضبه لنفسه ما أدعيه من أن صورة أيوب التي يريد أن يرسمها على نفسه إنما هي مكياج. . .
- إذن فامض هداك الله، وهداه معك، وهداني معكما. . .
- آمين. لو كنت قرأت سفر أيوب لكنت رأيت فيه أن أيوب لم يتفجع من فقدان الثروة إلا على أنه مظهر من مظاهر غضب الله. . . ولكن أيوب الثاني هذا الجديد يذكر الفجيعة في الدنيا على أن أفجع ما فيها هو أنها أصابت دنياه فيقول: (وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟) فبأي الصور تتصورين أيوب الثاني. . .
- بصورة الرجل الذي تهون فجيعة أيوب في دنياه إلى جانب فجيعته فيها. . . وأيوب على ما أظن فقد في الدنيا من الفقر والمرض الخبز وأدنأ ما يسد الرمق، كما فقد الملبس وأهون ما يستر الجسد.
- فهل تظنين كاتباً من الكتاب الذين يكتبون لمجلة رائجة مثل الرسالة تصل به الحال إلى هذا ولا يعاونه صاحب الرسالة وكتابها وقراؤها ولو برغيف وبنطلون؟ أنا لا أظن ذلك. . . وهذه أيضاً مكياج. . .
- إن الرجل يتكلم كلاماً يعتمد فيه على النسبة بينه وبين أيوب، وزمانه وزمان أيوب. . . فأيوب نبي، وعاش في عصر أوفر رغداً من عصرنا. . .
- وهذا هو الذي يقوله هو. . . ولكن لا تنسى أنه يوازن بين نفسه وبين أيوب من ناحية واحدة فقط، وهي هذا الشقاء الذي يفرض أنه قد مسه، وينسى بعد ذلك لأيوب بقية نواحيه وأولها أنه لم يكن يعرف (المكياج) وهي ناحية أساسية في أيوب وفي كل من يريد أن يكون كأيوب.
- فلندع هذه أيضاً. . .
- ولنر إلى قوله إن الدينار والدينارين. . .
- لا لا. . . فلندع هذه. . . فإن الكاتب من الكتاب الذي يشعر بأن الإنسان يهان في هذا العصر إذا اكتفى بالدينار في اليوم أو اليومين. . . فهو من غير شك قد رحمه الله من إهانات يالها من إهانات لو لم يكن ينفق الدينار في اليوم أو اليومين. . . كان الله في عون الكتاب وغير الكتاب من أبناء اليوم الذين ينفقون الدينار في الأسبوع أو في الشهر أو في العام. . . إن هؤلاء هم الأيوبون
- بعدها يا سيدتي قوله: ومن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟ فهو لا يسجل على دهره الرزايا إلا إذا سلطه على الدهر أحد، على الرغم من قوله إن الدهر أوجعه وأشقاه. . . فكيف نصوره أمام الدهر؟
- لو كان خائفاً من الدهر لكان قد سكت على الدهر ولم يناوشه ولم يصارحه العداء، ولو كان هاجماً على الدهر لما عبأ بالدهر ولما طلب الذي يسلطه عليه ويمكنه منه، فلا هو خائف ولا هو هاجم. . .
- فماذا يكون إلا أنه صاحب سياسة مع الدهر حكيمة فهو لا يهاجمه على الرغم من عدائه له انتظاراً لمن يسلطه عليه؟. . .
- ولكنه على هذه الحكمة يصارح الدهر بالعداء. . . وليس من الحكمة في شيء أن يصارح الإنسان عدوه بالعداء وهو عاجز عنه خائف منه. . .
- فهذه الحكمة أيضاً مكياج أو هذه الصراحة هي المكياج. . والله أعلم. . . على أنه قد خطرت لي الآن صورة مضحكة قد تجتمع فيها ملامح هذا الاضطراب كله: في الريف عندنا ناس يسلطهم الأعداء على أعدائهم. . . فيكرهون ويعادون ويحاربون ويقهرون؛ تبعاً لما يوحي به إليهم من يسلطهم. . . وهؤلاء من كثرة تدربهم على التسلط والتسليط أصبحوا يتسامحون فيما ينالهم هم من الأذى فلا يأخذون بالثار لأنفسهم ولا يستردون حقوقهم، لأنه لا أحد يسلطهم إلا على أعدائه هو لا على أعدائهم هم. . . فما رأيك؟
- ولكن هذه لا يمكن أن تكون صورة كاتب من الكاتب
- إني قلت ذلك. . . فالمفروض أن الكاتب من الكتاب له رأي خاص وكيان خاص وتفكير خاص؛ وهو يموت ولا يحتمل أن يسلطه إنسان على شيء. . .
- ولكن كيف ذكرت الريف وأنت لست منه ولم تحل به إلا خطفات؟
- لعل الذي دفع صورة الريف إلى ذهني هو قول صديقنا: وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود، فكان المجاهد ينال منها ما يشاء كيف شاء، وهي اليوم مقسمة تقسيما يصد المجاهدين أعنف الصدود. . . فالأمر الذي لا شك فيه هو أن ذكر الأرض يكثر على ألسنة الريفيين.
- ولكن الرجل ذكر بعد الأرض البحار فقال إنها كانت مصادر خيرات، وذكر السماء وقال إنها كانت مساقط غيث ومذاهب نسيم وهذا هو ما يدعوني إلى القول بأنه كاتب من الكتاب يزن الكلام ويوازن المعاني، أفكنت تريدين أن يسكت عند ذكر الأرض فقط فتكون منه هذه هي الواحدة التي يهمل فيها (المكياج)؟ إنه كاتب من الكتاب. . . وهو إلى أنه كاتب يرى نفسه مجاهداً، وكان يجب أن تكون الأرض بلا حدود ولا رسوم لينال منها المجاهدون - وهو منهم - ما يشاء كيف شاء. . . إنه يريد الأرض ويريد أن ينال. . . والآن أرشديني وقولي لي كيف تكون صورة هذا الكاتب الصديق. . . هل تستطيعين أن تبحثي لي عن (موديل) له أرسمه. . .
- لا. . .
- وأنا قد بدأت واعترفت بالعجز، ورسمت هذه الخطوط التي رأيتها في الورقة فلم ترضي أن تقري في البدء بأنها صورة إنسان. . .
- ولكن هذا الذي رسمته يا شيخ ليس صورة ما. أعوذ بالله
- هي صورة، ولكنها مرسومة بالأسلوب (المودرن). . . وكم أحب أن أعرف رأي صاحبها فيها - من غير غضب - وعليه مني السلام ومن الله الرحمة والبركات.
عزيز أحمد فهمي