الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 34/في الكتب

مجلة الرسالة/العدد 34/في الكتب

بتاريخ: 26 - 02 - 1934


أبو علي عامل الأرتست

مجموعة اقاصيص مصرية

تأليف الأستاذ محمود تيمور

عرض ونقد وتحليل

لا يمكن لآي نقادة أن يتكلم عن أقاصيص تميور، أو أن يتعرض لدراستها دون ان يفكر في الصفات الأساسية التي تقوم عليها، أو التي أمكسبتها هذا الطابع الخاص، وهي: الباسطة والصدق والانسجام. وبودي أن أتحدث أولاً عن (طابع الصدق) فهي اظهر المميزات التي يتسم بها أدب تيمور، وهي تكاد تكون سجية طبيعية عنده.

يرجع طابع الصدق ففي أقاصيص محمود تيمور إلى أنه يعيش في عالم عواطفه فطرية، فهي تملي عليه هذه الصور البيسطة التي يرسمها بريشته الصغيرة من غير أن تحجب عنا ظلال الألوان: (فام زيان) هي المرأة التي تعمل أجيرة في البيوت وفي الغيطان، لا ترى على وجهها عبوسة اليأس ولا ثورة السخط، فهي راضية عن حياتها قانعة بالقرب من حفيدها الصغير (الغالي)، تنهك قواها نهاراً في الخبازة، وتسهر ليلاً أمام مصباحها تخيط له الجلابيب والطواقي، والصغير في حجرها، تهزه وتغني له أغنيات المستبقل بصوت كله نواح وشجون، معددة له صفاته حينما يصير رجلا، له شارب غزير مفتول كشوارب الحكام، وطربوش أحمر فاتح اللون كطربيش الامراء، وحذاء ذو صرير عال كأحذية الجنود. و (الشيخ جمعه)، هو الرجل العام الفيلسوف السعيد بايمانه، المنعم بخيلاته يروي لك في بساطة فطرية، قصة سيدنا سليمان وما جرى له مع النسر الهرم الذي عاش الف الف عام وحكاية السيد البودي الذي حارب الجيوش قبل ان يولد، وخرافة مدينة النحاس والسندباد وطير الرخ وغيرها. و (عم متولي)، وهو بائع الفول السوداني الذي ما يكاد ييؤوب من جولاته العديدة بين شوارع الحلمية وحارة نور الظلام، وتؤويه ليلا حجرته الضيقة القذرة حتى يخرج من صندوقه سيفاً دقديما، هو الأثر الباقي من ايام عزه الاولى، يضعه على ركبتيه ثم يسبح في تأملاته اللانهائية، حتى إذا ما مرت بخاطره ذكرى العهود الخولي، حين كان يحارب في صفوف (المهدي) في السودان، أخرج السيف من غمده فاذ بالسلاح قد علاه الصدأ وبعد ان يهزه في يده مراراً كأنما هو يحارب عدوا في الهواء، يصيح صيحات خافتات، منادياً الجيش ليتقدم إلى الأمام، ثم يصحو بعد برهة من خيلاته، فاذا الميدان حجرته المظلمة المقفرة ذات المصباح الزيتي الباهت النور، وإذا الجيش أوهام في أوهام وإذا جلبة المهزومين وصياح المنتصرين سكون في سكون! و (صابحة) هي تلك الريفية الساذجة التي تعلم في منزل حسن أغا حيث التقت هناك بخادمة عبد السميع فتعارفا وتحابا وأظهرا رغبتهما في الزواج، ولكن لما ذهب إلى اهلها ليخطبها لقي منهم كل صد واعراض لأنه فقير، فلما أتاها بعد شهور بالمهر سألته ففي ريبة من أين له هذا المال؟ حتى إذا ما أيقنت بانه اختلسه من أموال سيده احتقرته وأشاحت بوجهها عنه، وضحت بغرامها في سبيل الوفاء لمخدومها ولم ترض ان تتقبل مهرها نقوداً مسروقة، لأن الله لي يبارك في مثل هذا الزواج!

أليست كل هذه الشخصيات تبدو أمامنا ساذجة في تصورتها وفي نواحي تفكيرها؟ كما انها تدلنا تماماً على البيئة الفطرية التي يشهدها تيمور ويخالطها لينقل صورها الينا، فهي كما يوقول عنها العلامة الانجليزي كرنكو: كالتصوير الفني، تصور حقيقة الحياة كلما هي

وقد يرجع طابع الصدق أيضاً في أدب تيمور، إلى أنه تعود استعمال الالوان الطبيعية في لوحته. فلذا لتملح ان فنه خال من سيطرة الافكار الغريبة غير المألوفة، فهو لا ينقب مثلا عن الفساد الجنسي الذي أصبح الادب القصصي الحديث يعج به، ليقدمه إلى القارئ كما يثير ميوله فيفوز برضائه واعجابه! كلا! فان السجية الطبيعية التي اتصف بها، تكاد ترشدنا إلى أنه فنان بطبعه. لا آلة صماء. يصور أمامنا كل ما يجس به وما يراه حوله، ونحن حين نقرأ وصفه لأحدى شخصيات أقاصيصه، نراها ظاهرة في وضوح وجلاء، ونكاد نحس بان الحياة تدب في هذا الوصف دبيب الكهرباء، فهو كما يقول عنه الدكتور ويدمار، المستشرق السويسري: يتغلغل في أعماق نفس الموصوف: لكي يبرز عقيلته الحقيقة

يدين محمود تميور بالمذهب الواقعي ولكنه كثيراً ما يحيد عنه ويخرج عن قواعده المرسومة، وحجته في هذا، هي ان الفنان يجب الا يقيد نفسه بمذهب واحد لا يخرج عن دائرته ففي ذلك تعجيز له، إذا انه يجب أن يكون مطلق الحرية في التعبير عن احساسه، وما المذاهب الا قوانين وحدود وضعت للدراسات الادبية، ولكنها لم توضع للكاتب، لانه فنان بطبعه، يكتب باحساسه ووجدانه وبصيرته، وهذه لا تعرف شيئاً اسمه المذاهب.

وفي الواقع نجد ان المذهب الواقعي الاصيل، مذهب جامد جدا، وقد لطفه وغيره الكتاب الواقعيون بعد زولا، إذا انهم لم يستطيعوا ان يسيروا على مقتضاه، وقد رأينا زولا نفسه، بالرغم منه، يخرج عليه بدون أن يشعر، فزولا كاتب عبقري، كان يكتب مدفوعاً بوحي والهام، وقد عارض نفسه وكذبها كثيراً في مؤلفاته.

ولذلك لا نصف فن تيمورد (بالواقعية)، وإنما تصفه (بالصراحة)، وأهم مميزات الصراحة، حصر الذهن في هذا الموضوع والتخلص من الشعور الرقيق المصطنع ومن الخيال المترامي الاطراف، فهو قبل أن يكتب ينظرا ولا إلى الاشياء نظرة ثاقبة، يحاول أن يصفها كما هي دون اسراف في العواطف أو تعمق في الخيال، أو التجاء إلى الغموض، وبدون أن يسمح لشخصيته أن تحول بينه وبين موضوعه، فأقاصيصه هي هي تلك البطيعة المصرية البسيطة، التي جلبت على الخير والقناعة والايمان بقضاء الله، وفنه عبارة عن مرآة تنعكس عليها الحياة المصرية كما هي، دون زخرفة أو تجميل، ولا عدسات تواجه هذه الحياة فتظهرها على غير حقيقتها.

وقد ينظر بعض النقدة إلى أن العواطف الفطرية والبساطة الادبية التي تتسم بها أقاصيص تيمور، لا نتفق ولاجادة الفنية أو النزعة الانسانية التي هي إحدى دعامات الادب الحديث، على ان بساطه تيمور هي السرف في قوتها وتأثيرها، فهي تمشى مع الفن جبناً إلى جنب، وقد يكون هذا من الغرابة بمكان، فانك في (العودة) وهي أولى أقصوصات الكتاب، تلمح أثر هذه الروح.

للكلام بقية

محمد أميين حسونة