الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 339/الأدب الفنلندي

مجلة الرسالة/العدد 339/الأدب الفنلندي

بتاريخ: 01 - 01 - 1940


للأستاذ صديق شيبوب

بينما تتجه أنظار العالم إلى فنلندة بمناسبة الحرب الغاشمة التي تخوض غمارها في جرأة وهدوء، جرى حادث أدبي نبه الأذهان إلى آداب هذه الأمة الباسلة، فقد فاز الأديب الفنلندي سيلانبا بجائزة نوبل التي يطمح إلى نيلها كبار الأدباء وعظماؤهم لأنها ذات خطر عالمي.

وقد كان هذا الحادث الأخير مفاجأة لجمهور الأدباء والمتأدبين في العالمين القديم والجديد، لأن الفكرة التي كانت شائعة عن الفنلنديين تتركز في ولعهم بالألعاب الرياضية وتفوقهم فيها، إذا كانوا يشتركون في الألعاب الأولمبية التي تقام في شتى بلدان العالم فيفوز لاعبوهم بأكثر من بطولة.

وقد رأينا - لهذه المناسبة - أن نلم بالأدب الفنلندي لبيان تاريخه ومناحيه.

ينطبع الأدب الفنلندي بطبيعة البلاد التي نشأ فيها وبأخلاق سكانها. وفنلندا قائمة في الشمال الأقصى من أوربا، ذات غابات كثيفة وبحيرات عديدة، شتاؤها طويل، وصيفها نهار دائم. يسكنها شعب قاسي طول تاريخه أهوال البرد والجوع والحروب، فأكتسب مما قاساه صلابة وقوة، ومن طول الشتاء ميلاً إلى الخيال والأحلام. فلا عجب إذا اختلف في طبيعته عن الشعوب اللاتينية وعن الشعوب الجرمانية التي يمت إليها في أصله، وإذا ظهر أدبه في شكل يلائم أحواله وبيئته.

إنه يبحث في الأدب والفنون عن وسائل للتعبير عما يجول في نفسه تختلف عن وسائل الأمم الأخرى. وقد تظهر هذه الوسائل غريبة عجيبة، أو على الأقل غير منتظرة لشعوب تعودت دقة التعبير ووضوحه، وهما من مميزات شعوب البحر الأبيض المتوسط.

والأمم الغربية قد تأثرت بثقافة فكرية وفلسفية واحدة، غير أن المناحي الثقافية اضطرت أن تتأقلم وفاقاً لطبيعة كل إقليم، فظهرت في شكل يوافق كل بلد، وبدت كأنها تختلف عما هي في البلاد الأخرى.

لذلك نجد الأدب الفنلندي يعبر عن أخلاق سكان هذا الإقليم وما تتميز به من رجولة بارزة، وخيال واسع ذي ميول إلى الكآبة والحزن، وسذاجة القلب والطبع، كما يعبر عن طبيعة البلاد القاسية فيظهر في أسلوبه كأنه قبس مستمد منها، فضلاً عن عناية أدبائه بوصف هذه الطبيعة وقواها وعناصرها

كان قدماء الفنلنديين يعيشون بين أحضان الطبيعة القاسية، فلا عجب إذا رأيناهم، في عصرهم الوثني، يؤلمون عناصرها ومظاهرها. وقد أستدل الباحثون من الأناشيد التي ترجع إلى ذلك العهد، على أنهم كانوا يصفون بالألوهية كل شجرة أو صخرة، ويعتقدون أن الغابات والبحيرات مأوى للآلهة. وسنعود إلى هذه الاعتقادات في معرض كلامنا عن ملحمة (كاليفالا)

وقد ظل الفنلنديون يدينون بالوثنية إلى القرن الثاني عشر، أي إلى أن بشرهم الأسوجيون بالنصرانية. ولكنهم ما زالوا إلى اليوم متأثرين بتاريخهم وعقائدهم القديمة. ولما شع عصر الإصلاح في أوربا تأثر به الفنلنديون في أوائل القرن السادس عشر، فصدفوا عن التصوف الذي تميزوا به من قبل وأخذوا بتحكيم عقولهم في أمور الدين المسيحي وتفسير كتبه

مر قرنان بعد ذلك، وجاء القرن التاسع عشر، والأدب الفنلندي في سبات عميق لا يظهر له أثر. ولعل ذلك يعزي إلى أن دولة أسوج التي استولت على فنلندا منذ القرن الثاني عشر نشرت فيها لغتها حتى طغت على لغة أهل البلاد الأصيلة وكادت تزيلها من الوجود لولا أن القبائل المنتشرة في مقاطعة (كاربلي) احتفظت باللغة الفنلندية ونظمت فيها أغانيها الشعبية في تمجيد أبطالها ووصف شجاعتهم وحروبهم

وظلت فنلندا محتفظة بتقاليدها وبتأثرها بالأدب الأسوجي بالرغم من استيلاء روسيا عليها سنة 1809 وضمها إلى إمبراطوريتها.

ولكن الروابط الأدبية والثقافية بين روسيا وفنلندا جاءت على عكس الروابط السياسية. فكلما حاولت روسيا ربط الصلات السياسية والإدارية بينها وبين دوقية فنلندا الكبيرة أزداد الفنلنديون شعوراً بقوميتهم وتعلقاً بمدنيتهم. وهكذا أخذ الأدب الفنلندي يزدهر في أوائل القرن الماضي ولم يلبث أن أرتبط بالحركة الابتداعية التي كانت قائمة في أوربا في ذلك العهد.

كانت العناية بجمع الأغاني والقصائد الوطنية الحماسية وضمها في شكل ملحمة أول مظهر للأدب الفنلندي كان الشعب يحفظ هذه القصائد ويتناقلها بطريقة الرواية، وكان لزاماً على من يعني بجمعها أن يطوف بالبلاد للبحث عن رواتها ونقلها عنهم

وقد قام (لياس لونرو) بهذه الرحلات فجمع ما استطاع جمعه من تلك الأناشيد الوطنية. وكان يعتقد أن هذه القصائد الشتيتة أجزاء متناثرة من ملحمة شعبية مفقودة زالت لحمتها خلال القرون المتتالية. ويقول النقاد إن هذا الاعتقاد خاطئ، ولكنه نتج عنه عمل يعد نسيج وحده في الأدب العالمي: ذلك أن (لونرو) كان شاعراً، وقد ساعدته هذه الميزة على ضم القصائد وإنشاء لحمة بينها حتى برزت في شكل ملحمة قد لا يجد فيها بعض النقاد الشروط الفنية لنظم الملاحم كما يجدونها في الإلياذة مثلاً، ولكن الذين يوجهون إليها هذا النقد يقررون أنها فريدة في بابها من حيث أنها الملحمة الوحيدة التي أشترك في وضعها جمهور الشعب.

أما القصص المروية في هذه الملحمة، التي أسماها جامعها (كاليفالا) فساذجة بسيطة. كان الشعب الفنلندي وثنياً يؤمن بالرقي والتمائم ويعتقد أن الطبيعة ملأا بالجن، بعضهم للخير وبعضهم للشر، وأن الجن لا يتداخلون في شؤون العالم إلا إذا طلب إليهم السحرة ذلك. فالسحرة هم بمنزلة الكهان يحفظون عبارة الطلاسم العجيبة التي يستطيعون بها أن يتحدثوا إلى الشياطين لاجتناب أذاهم أو اجتناب خيرهم. وهكذا جعلت هذه الديانة الساحر شخصاً عليماً بكل شؤون الحياة، فهو الحكيم العليم ببواطن الأمور، وهو الطبيب الشافي من كل داء، وهو الشاعر المنشد والمغني المطرب. ويظهر أن الشاعرية عند هذا الشعب قد تفتقت من ألفاظ السحر الغريبة.

وهذه السذاجة في العقيدة لم تساعد على خلق ميثولوجي على الطريقة الرمزية المعروفة عند الشعوب الأخرى حيث نجد العقل المفكر يخلق الآلهة التي ترمز إلى الحياة بأكملها. أما عند الفنلنديين فالحالة على غير هذا، لأن الباحث في ديانتهم يجد آلهة لا يفهم معنى وجودها أو ما ترمز إليه. ولم تحتفظ ملحمة (كاليفالا) بما يستدل منه على الرمز الذي تعبر عنه الآلهة.

فمن أمثلة ذلك خلو الملحمة مما يشير إلى مركز (فانيا موينن) بين الآلهة، ويقول الباحثون إنه كان إله البحر في ديانة الفنلنديين القديمة ولعل السذاجة في الدين هي التي جعلت هذا الشعب ساذجاً في قصصه، لأن ما ترويه ملحمته الطويلة ليس سوى حكايات أطفال وهو وجه الغرابة فيها، وهو أيضاً ما يجعلها في أكثر الأحيان عذبة جذابة. إن الأطفال إذا وضعوا قصة جاءت لا رأس لها ولا ذنب، كما يقولون، أو لا أول لها ولا أخر، لأنها تعتمد على المفاجآت الغريبة والأعمال العجيبة أكثر مما ترمي إلى أي غرض آخر. ويظهر أن خيال الشعوب في عصرها البدائي لا يختلف عن خيال الأطفال الصغار.

وهناك ظاهرة أخرى تجعل ملحمة (كاليفالا) تختلف عن غيرها من الملاحم. ذلك أن الملاحم القديمة كالإلياذة والأوديسة وغيرهما ترمي إلى غايات مقررة لأنها وليدة مدنية قائمة، بينما لا نجد في الملحمة الفنلندية شيئاً مثل هذا، لأن قصصها وليدة خيال ساذج جامح، بحيث نبحث فيها عبثاً عن رمز للناس والأشياء والآلهة والديانة والأخلاق.

على أن أجزاء من هذه الملحمة تحوي اعتقادات الشعب الفنلندي وتصف العواطف الأصلية في قلب الإنسان.

وقصة الخليقة كما جاءت فيها قطعة لها نضارة الشباب وسذاجة القلوب الطاهرة، وهي تصف في مستهلها العذراء (أيلماتار) إلهة الهواء تزوجت من الموجة وظلت تتقاذفها الأمواج في وسط المحيط العظيم حتى جرى مما ننقله عن الترجمة الفرنسية:

(جاء طائر جميل من نوع البط فطار محلقاً باحثاً عن موضع ليبني فيه عشه. . . فطار شرقاً وغرباً، وطار جنوباً وشمالاً، فلم يقع على موضع يبني فيه عشه الصغير ومسكنه الجميل

طار طويلاً محلقاً في الفضاء يفكر قائلاً (ترى هل أضع عشي على متن الهواء، أم أبني بيتي على صفحات الماء، فيذرو الهواء عشي، وتتقاذف الأمواج بيتي

(عندئذ أخرجت عذراء الهواء وأم الأمواج الجميلة من الخضم الواسع ركبتها متيحة بذلك مكاناً للعصفور ليبني فيه عشه العزيز.

(كان العصفور الجميل لا يزال محلقاً فرأى ركبة العذراء قائمة على صفحات المياه الزرقاء كأنها قطعة أرض معشبة

(فخفف من طيرانه، وحط على الركبة فبنى عشه، ووضع فيه بيضه، وكانت ست منها ذهباً وواحدة حديداً

(وأقام الطائر على البيض يحضنه للتفريخ حتى وصلت الحرارة إلى ركبة الإلهة، حضن العصفور بيضه يوماً، ويوماً آخر، وفي اليوم الثالث شعرت عذراء الهواء وأم الأمواج الجميلة بحرارة حتى ظنت أن ركبتها تحترق وأن جسمها يذوب

(فنفضت ركبتها ومدت رجها فجأة فهوى البيض في اليم وغاص في جوف الخضم وتكسر

(ولكن البيض لم يصل إلى قعر البحر، ولم يقم في جوفه، لأن كل جزء منها تحول إلى أشياء نافعة صالحة، تحول أسفل قشرة البيض إلى الأرض وأعلاها إلى قبة السماء، وصار ما يعلو الصفار الشمس الساطعة، وما يعلو المح القمر المنير، وانتثرت قطع صغيرة من القشر نجوماً ترصع السماء. . .)

يقول بعض النقاد إن في هذه القصة إبهاماً كثيراً، لأنه لا يفهم جيداً ما ترمز إليه الأشياء المذكورة فيها، فلماذا اختير طير البط؟ ولماذا جعل عدد بيضه ستاً ذهباً وواحدة حديداً؟ ولعلها كانت وسيلة لخلق صور جديدة، وهي على كل حال صور خلابة ساحرة

إذا تناولت ملحمة (كاليفالا) موضوعاً يمت إلى العواطف الإنسانية كانت مثيرة مشجية. من ذلك قصة الأم التي فقدت ولدها فسارت في الأرض باحثة عنه حتى وجدته مجندلاً، فنفخت فيه حياة جديدة؛ وهي ترمز إلى الأمومة بطريقة شعرية بسيطة.

أنظر كيف أخذت الأم تبحث عن أبنها:

(بحثت الأم عن الضائع، ونادت أبنها المفقود، فاجتازت المستنقعات كما تجتازها الدببة واخترقت البحار كما تخترقها الأسماك وطافت بين الحقول والشواطئ وبحثت بين الأشجار ثم نبشت الأرض لتنظر ما تحت الطرق وجذوع الأشجار

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً وتحدثت إلى الأشجار لتسألها عن المفقود، فاضطربت شجرة الصنوبر، وقالت شجرة السنديان: إن لدي من الهموم ما يلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، خلقت لوقيد النار أو بناء الأهراء

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدم الطريق إليها فانحنت أمامه وقالت له: أيها الطريق العزيز الذي عبَّده الله، ألم تر أبني، تفاحتي الذهبية، عصاي الفضية الصلبة؟ (فأخذ الطريق يتكلم، وهذه هي العبارات التي قالها لها:

لدي طائفة من الهموم تلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، صنعت لتدوسني الكلاب وتطأني أقدام الفرسان، وتسحقني الأحذية الثقيلة

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدم إليها القمر فانحنت أمامه وقالت له: أيها القمر، أيها الكوكب الذي خلقك الله، ألم تر ولدي، تفاحتي الذهبية، عصاي الفضية الصلبة؟

(أجابها القمر، وهو الكوكب الذي خلقه الله، وقال في لباقة: لدي طائفة من الهموم تلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، يجب عليّ أن أهيم على وجهي فريداً الليل بطوله.

يجب أن أنير في ليالي البرد القاسية، وأن أسهر ليالي الشتاء الطويلة، وأن اختفي في فصل الصيف

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدمت الشمس إليها، فانحنت أمام الشمس وقالت لها: أيتها الشمس العزيزة التي خلقك الله، ألم ترى ولدي، تفاحتي الذهبية الثمينة، عصاي الفضية الصلبة؟

(وكانت الشمس تعرف شيئاً عنه، فأجابها كوكب النهار: أسفاً، إن أبنك التاعس قد اختفى فاقداً الحياة في نهر (تيوني) ذي المياه السوداء، في مياه (مانا) الأبدية، لقد أحتمله التيار إلى منازل (تيوني) في وادي (مانالا. . .)

يلاحظ على هذه المقطوعة أنها في شكل أغان شعبية بما فيها من ترديد يزيد في جمال الشعر، وبما تعبر عنه من عواطف بدائية. والمعروف أن الأغاني الشعبية تعبر عن مشاغل الحياة وهمومها، ولا تعرض للحياة بمعناها العام وما تبعثه في النفوس من إحساس عنيف، لأن الشعب لا يهتم إلا لما هو فيه ولأن التعبير عن الحياة بمعناها المطلق وليد المدنية والثقافة.

(للبحث صلة)

صديق شيبوب