الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 338/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 338/رسالة العلم

مجلة الرسالة - العدد 338
رسالة العلم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 25 - 12 - 1939


الهندسة وابن الهيثم قديماً وحديثاً

للدكتور محمد محمود غالي

أفاض المتكلمون وأبدعوا، وأخرجوا للعالم العربي ما في بطون الكتب من مآثر، لم نكن نُوليها انتباهاً، فلم يدعوا لي شيئاً بارزاً أذكره لابن الهيثم، ورسموا صوراً هي أقرب الصور إليه سجلوا فيها أعماله ومبلغ تحليله للمسائل وفهمه للأشياء. هذا هو ابن الهيثم، عالم طبيعي له مشاركة في الفلك والعلوم الرياضية والفلسفية وفضلاً عن ذلك نرى الهندسة تقترن باسمه، بل إن شهرته كمهندس غلبت على بقية صفاته، من ذلك ما ذكره القفطي في كتابه: (أخبار العلماء) من أنه الحسن بن الحسن بن الهيثم المهندس البصري، وأنه صاحب التصانيف والتآليف العديدة في علم الهندسة، وهو بعد ذلك يتحدث عنه في بقية الكلام كمهندس أكثر منه عالماً طبيعياً.

والواقع أن دراسة تحليلية لابن الهيثم لقمينة أن تضعه في صفوف علماء الطبيعة أكثر من أن تعده بين المهندسين، وإنما وصل إلى هذه النتيجة من أثره التجريبي لا من أثره في التأليف، ولكنا لا نجزم بهذا الرأي كنتيجة نهائية لبحثنا هذا. فتجاريبه في علم الضوء معروفة، وقد شرحها بمهارة زميلي الأستاذ مصطفى نظيف بك، ولا نزاع في أننا متفقون في التفريق بين الهندسة كجزء من علم الرياضة وبينها كمجموعة لأعمال فنية أو إنشائية. إنما يُعرف المهندس بآثاره الإنشائية أكثر من أثره في التأليف. فأمحوتب مهندس الملك زوسر بأني هرم سقارة، مهندس كشف عن استعمال (الطوبة) وهي تدعو للإعجاب؛ وكيف لا نعجب له حين عرف كيف يُكوِّن من اللَّبِن والحجارة أشكالاً منتظمة، أشكالاً ذات طول وعرض وارتفاع، فيها كل هندسة إقليدس وأكتنيوس ومساعده كليكراتس، عندما شيدا البارثينون أهم معبد فوق الأكروبول، وهو الذي تم تحت إشراف النحات المعروف فيدياس في عهد بركليس الذهبي، كانا مهندسين عظيمين، فإن عملهما الإنشائي لا يزال إلى اليوم جديراً بالتقدير؛ وجارنييه باني أوبرا باريس وإيفيل الذي شيد بها البرج المعروف مهندسان أحدهما في العمارة والثاني في الإنشاءات الحديدية وكلاهما باعث دهشة. تُرى هل كان لابن الهيثم من عمل إنشائي يضعه بين المهندسين الذين يذكرهم التاريخ؟ هذ لم يقم دليل عليه كما لم يقم دليل على بطلانه، ومع ذلك فهو صاحب كتاب العقود الذي لم نعثر عليه لنتبيّن غاية ما بلغه من التقدم في أعمال ما زالت أهم ما يقابل المهندس عند تصميم القناطر والخزانات والأبنية الكبيرة.

ولسنا نغض بهذا من شأن ابن الهيثم كمهندس وهو الذي بين تصانيفه كتب عديدة تمت إلى علم الهندسة وتبحث في علم المساحة والتخطيط، وقد ذكر الكثير منها الدكتور مشرفة بك، وأضيف إلى ما ذكره كتاب العقود، وكتاب أصول المساحة، واستخراج أربعة خطوط، وحساب الخطين، وحلل الحساب الهندسي، ومسألته في المساحة وغيرها.

نرى هل خرج ابن الهيثم من مجال التأليف إلى مجال الإنشاء؟ يغلب على ظننا ذلك، وقد يدلنا التاريخ أو البحث يوماً عن آثار له في هذا، فإن شهرته كمهندس بلغت من الذيوع والانتشار ما جعل الحاكم صاحب مصر من العلويين يتوق إلى رؤيته، وقد نقل له عن ابن الهيثم أنه قال: (لو كنت في مصر لعملت في نيلها عملاً يحصل منه النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال وهو طرف الإقليم المصري) فازداد الحاكم شوقاً إليه وأرسل في طلبه ورغَّبَه في الحضور؛ فشّدَّ ابن الهيثم رحاله إلى مصر ولما بلغها خرج الحاكم للقائه على باب القاهرة وأمر بإكرامه، وطالبه بما وعد به من أمر النيل؛ فسار ومعه جماعة من الصناع ليستعين بهم على ما خطر له، فلما جال الإقليم بطوله وتبين آثار الأقدمين، وهي تعد بدعة في الصناعة وآية في الهندسة، تحقق أن الذي يقصد إليه خارج عن طوقه، فإن من تقدموه لم يكن ليغيب عنهم على ما يعلم ولو أمكن لفعلوا، ففترت همته، ووهنت عزيمته، ووصل إلى موضوع الشلالات بعد أسوان وعاينه واختبره فوجد أنه يختلف عما كان قد فكر فيه، وتحقق الخطأ فيما وعد به واعتذر للحاكم.

وليست هذه الواقعة التي سردها بعض المؤلفين لتُقلل من شأن الرجل العالم الذي نحتفل بذكراه، ففي بناء هيكل المعرفة خطا ابن الهيثم المهندس البصري الخطوة الكبرى إلى الأمام، وكان ممن وضعوا حجراً أساسياً في العلوم نتوارثه جيلاً بعد جيل.

جيل يتلو جيلاً، جيل يتَصرَّم ويحل جيل، وطوى الزمن تسعمائة عام على هذا العالم، تغيَّر خلالها وجه الأرض، وحلت مدنية تختلف عما تقدمها من مدنيات، وعصر لا يشبه ما خلا من عصور، وألفينا أنفسنا أمام صورة جديدة للفن الهندسي ارتبط بالتقدم العلمي ارتباطاً وثيقاً وتفرَّعت الهندسة في غير العمارة إلى هندسة آلية وكهربائية بل وموجية، وأثَّر هذا في مقدرتنا على العمل وأثرنا في الإنتاج، ولو أننا نظرنا إلى أحد هذه الفروع وإلى الهندسة الموجية لوجدنا أننا وصلنا إلى نتائج تستوجب النظر.

أولاً: في الانتشار الصوتي وعلى مَتنِ الأسلاك يستطيع أن يتخاطب بالتليفون مئات الأشخاص أو أكثر على سلك نحاسي واحد في وقت واحد، أمر يحدث اليوم بين العواصم الكبيرة. أذكر على سبيل المثال الخط بين لندرة وبرمنجهام، حيث يتكلم على سلكين للمخاطبات التليفونية وُضِعَ بجانبهما سلكان للتوسع المنتظر في استعمال التليفيزيون حوالي 350 شخصاً في آن واحد، ويفهم كل منهم أخاه دون أن تختلط هذه الأصوات العديدة. بل أُرجع السامع إلى محاضرات فورتيسكيو أستاذ جامعة لندن عند زيارته لكلية الهندسة العام الماضي بدعوة من العميد، بل أُحِيلُه إلى ظواهر يعرفها منذ عدة سنين كل الذين شغلوا أنفسهم في المختبرات بظاهرة الانتخاب في الظواهر الدورية.

ثانياً، في الانتشار الموجي والتبادل الضوئي الكهربائي استطاع الإنسان أن ينقل الصور الفوتوغرافية إلى مسافات بعيدة، دون استعمال الأسلاك، وكان تطبيق ذلك في نقل الرسائل في الصين بلغتهم المعروفة بحروفها العديدة مما يدعو للإعجاب، وهو الإعجاب الذي استولى على كل منا عندما طالعنا من أربعة أيام في الصحف كيف نقلت باللاسلكي الصور الفوتوغرافية للحوادث البحرية التي جرت في الأورجواي، وهي الحوادث الخاصة بالبارجة (فون شبيه) وكيف رأى البرلينيون صورها ولم يمر على أخذ الصور التي يبعد مكانها عنهم بنصف محيط الأرض إلا كسر ضئيل من الثانية.

ثالثاً: في الانتشار الكهربائي استطاع الإنسان بغير أسلاك أن يسمع الأصوات ويتكلم على مسافات بعيدة تبلغ محيط الأرض بل استطاع أخيراً أن يرى عن بعد الأشياء المتحركة كما لو كانت أمامه.

هذا ما حدث من الهندسة التطبيقية، ولقد كانت خطوات العلوم البحتة أوسع بكثير من هذه، وجرى العلم الحديث شوطاً لم تستطع الهندسة التطبيقية أن تلاصقه فيه: ثمة اكتشافان عظيمان، النشاط الإشعاعي والتفتت الذري. تُرى ماذا سيحدثه الإنسان الدائب التفكير الموفور الذكاء في أثرهما من تطبيقات تنشأ عنها مدنية تختلف عن مدنيتنا جدَّ الاختلاف بل تختلف عن كل ما عهدناه من مدنيات.

أو يصبح عصر الكمّ والنسبية والموجية الذي نعيش فيه بداية لعصر أعظم شأواً وأهم قدراً وأعجب في الحوادث؟

إنما يلزم لذلك أناس أذكياء تعودوا الإقامة في المختبرات والتردد على دور الكتب؛ هؤلاء الذين أسميهم أنصار الإنسان موجودون وموجودون دائماً.

عند ذلك يختلف العهد، وينظر اللاحقون لنا نظرة جيلنا لزمان ابن الهيثم. ومع ذلك وبعد الذي ذكرناه لا يجوز لنا أن نذهب في المبالغة شوطاً بعيداً لما حدث بعد عهده، فإن المواد ما زالت تُستعمل في عصرنا على النحو الذي عرفه ابن الهيثم، بل إن هندسة أقليدس القديمة ونظرياته الأربع والعشرين المعروفة التي كانت حجر الزاوية لكل معارفنا الحالية هي الهندسة ذاتها التي تعلمها ابن الهيثم وعرفها وجدد فيها ونقلها قوية مجددة للأجيال التي تلته.

إن الخط المستقيم والدائرة والمثلث وعلم الهندسة وعلم المساحة وما يتعلق بكل هذا من نظريات كان لازماً لنستمتع بما نستمتع به اليوم، وكان من اللازم وجود أمثال ابن الهيثم ليرى الإنسان بعده جاليليه ونيوتن وإلا صادف عصراً بدائياً لا يصلح للتجديد.

نعم إن المعارف القديمة لم تعد تقدم لنا صورة صحيحة لهذا الكون، وقد غدت لدينا صورة جديدة تغاير تلك الصورة البسيطة التي عللها لنا الأولون بقوانين بسيطة سواء في الميكانيكا أو الطبيعة ولا يزال الجامعيون يشهدون يوماً بعد يوم انقلابات في التفكير، ويقفون على أوصاف للكون أدق من صورته التي عهدناها حتى عصر ابن الهيثم، بل عصر جاليليه ونيوتن؛ فلا مادة بالمعنى القديم، بل إن المادة جسيمات صغيرة في حركة دائمة، وفي هذا الكون المتكون من هذه الدقائق المتحركة لا ضوء هناك ولا لون ولا صوت، وكل هذه مظاهر لا تختلف إلا بعدد في الذبذبات والتردد، والذي نسميه مادة أو ضوء ما هو إلا كهرباء، بل لا فارق بين الطاقة والمادة، ويمكن القول اليوم إنهما تمُتَّان إلى أصل واحد، بل إن المادة ذاتها كهرباء والكهرباء مادة.

أجل. إن قوانين هذا العالم المضطرب باتت تختلف وفق صورته الجديدة اختلافاً كبيراً عن القوانين القديمة التي لم يظهر أنها صحيحة إلا لأنها متوسطات للقوانين الحقيقية للعالم، وقد تعدى هذا الاختلاف في فهمنا لظواهر العالم كل شيء، حتى إن القوانين العادية الخاصة بالزمن والحيز اللذين يحكمان العالم باتت تختلف عن التي تعلمناها في المدارس، والحيز الذي اعتدنا أن نتصور فيه طوبة أمحوتب هو حيز معوج، والمثلث الذي جرينا على اعتبار أن مجموع زواياه يساوي قائمتين هو في الواقع ليس كذلك، والخط الذي اعتدنا اعتباره مستقيماً يلتف من النهاية حول نفسه، والكون الذي اعتبرناه لا نهائياً هو في الحقيقة محدود، بل إن الزمن ذاته يحمل في طياته أغرب القضايا التي تفتقر إلى المعرفة والتعيين.

نعم قد حدث هذا كله، ووصلنا إلى نوع جديد من التفكير والتطور، ترى ماذا سيكون من أثر المعارف الجديدة في الإنسان القادم؟ ومع ذلك فإن هذا النوع من التفكير قد وصل به الإنسان إلى ما وصل إليه لأن البناء كان صالحاً، كل هذا ترتب على هذا النحو لأن المعرفة القديمة كانت عظيمة الأثر، ولأن ثمة رجالاً كابن الهيثم زرعوا فحصدنا ونزرع اليوم ليحصد الغير.

في كثير من المحاضرات نشيد بذكر العلماء الحديثين الذين يساهمون في تشييد صرح العلوم، وقد توجهنا فيما كتبنا هذا العام بمثل هذه التحية لكثير منهم أمثل بلانك وبيران ودي بروي، وجدير بنا ولا ريب أن نحيي في هذه القاعة أولئك الأعلام الذي وضعوا أساس الصرح. لهذا أتقدم في ختام هذه الكلمة بالتحية والإجلال لابن الهيثم، ولست أيأس من أن يقدره مجلس الجامعة قدره فيقرر إطلاق اسمه على إحدى درجات كلية العلوم.

لشد ما يتزايد الميراث العلمي، ولشد ما يشتغل أنصر الإنسان!

في مزاد للكتب كان في القاهرة هذا الأسبوع تصفَّحت الكراسة التي تحوي أسماء الكتب والمؤلفين فإذا بها ما يزيد على عشرين ألف مجلد في الأدب، إنما لفت نظري العدد الكبير من الأسفار للمؤلف الواحد، وقلت في نفسي: من أين الوقت لإخراج هذا الميراث، فلكليمنسو 11 مؤلفاً من هذه المكتبة الخاصة، ولديهامل 28، وللكاتب موروا 24 ولغيرهم الكثير؛ ولما رأيت أن لابن الهيثم ما يربو على السبعين سفراً، وأن من بينها ماله القيمة التي ذكرها إخواني، أدركت حقاً أننا بصدد عالم كبير جدير بهذا الاجتماع العظيم.

محمد محمود غالي دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة