مجلة الرسالة/العدد 338/ذكرى مولد المسيح
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 338 ذكرى مولد المسيح [[مؤلف:|]] |
حول مراقبة الثقافة العامة بوزارة المعارف ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1939 |
وعلى الأرض السلام!
في هذا اليوم يحتفل المسيحيون بذكرى مولد المسيح عيسى ابن مريم. وفي ليلة هذا العيد المجيد بات القسس والرهبان يرتلون وحدهم بين أروقة البِيَع وصحون الكنائس ذلك القُنوت الشعري الجميل:
(المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة!) وربما تابعهم الأقوام فرتلوا وهللوا جرياً على التقليد وخضوعاً للعادة؛ ولكنهم وا أسفا لا يجدون في الآفاق ولا في أنفسهم معنى هذا النشيد، ولا حقيقة هذا العيد!
في أي جهة من جهات الأرض ذلك السلام؟ وفي أي قلب من قلوب الناس تلك المسرة؟ لقد عادت روح يهوذا الأسخريوطي في جسدي هتلر وستالين فدلا على السلام الإلهي أبالسة الشر وزبانية الجحيم فصلبوه في بولندة، ودفنوه في فنلندا، ومكَّنوا في الأرض لعوامل القحط والموت، فأوقروا مائدة عيسى سماً وصاباً، وأنبتوا شجرة ميلاده هماً وعذاباً، وحولوا أعشاش الأسر ورياض الحقول قبوراً موحشة على كل قبر منها ركام من الثلج وصليب من الخشب!
لكأني بك يا روح الله كنت تمشي من الناصرة إلى بحيرة الجليل، ومن صفد إلى كفر ناحوم، وأنت ناكس الرأس ساهم الوجه، يعتلج بين جوانحك الهم، ويجول في مآقيك الدمع، لأنك كنت ترى بعين الله التي تخترق الأزل والأبد كيف تَلازَم الشر والخير في ملكوته، فابتَلى آدم بإبليس، وموسى بالسامري، وعيسى بيهوذا، ومحمداً بأبي لهب؛ وقضى ألا تخلو الأرض من أتباع هؤلاء وهؤلاء، ليدوم صلاحها بمدافعة بعض لبعض، حتى إذا طغت قوى الشر وسادت عناصره أرسل عليها طوفان نوح بالماء أو بالوباء أو بالدم أو بالنار فترعوي وتهمد.
وكان الشر في عهد المسيح وقحاً يتعسر في عيون الروم، ويتنمر في نفوس اليهود، فأخذ هو وحواريوه يكفكفون طغيانه بالمسالمة، ويخففون عدوانه بالصفح، ويسعفون ضحاياه بالمواساة، ويشفون مرضاه بالدعاء، ويحاربون أولياءه بالوعظ. ولكن الشر كان قد تفاقم واستطار فلم يرتدع باللين حتى جاء محمد رسول الله فردَّ جماحه بالسيف. وظلت محنة عيسى عليه السلام ألماً واخزاً في ضمير الإنسانية لا يفتُر، وأنيناً موجعاً في أذن الدهر لا يخفت. وتوالت القرون وتعاقبت الدول وتتابعت الحضارات، ولا يزال إبليس والسامري ويهوذا وأبو لهب مُنظَرين في الأرض، يدعون إلى الشر ويُرَغبون في الرذيلة ويعملون للفساد، والعالم المسكين يتدرع في جهادهم بالدين والمدنية والتربية والعلم، ولكن ذلك كله لا يغني عنه إلا كما يغني السد في دفع الفيضان، أو الفرجة في كف البركان، أو الكوخ في اتقاء العاصفة.
يا راعي السلام وداعي المودة، لقد ضل قطيعك كله وشرَد! فاسأل الله أن يُطْلع في سماء أوربا القاتمة (نجم المجوس) فعسى أن يهتدي به إليك طاغية موسكو وجبار برلين. والله قادر على أن يحوِّل في يديهما القنبلة والطربيد واللغم إلى (ذهب ولبان ومز).
يا حامل الآلام ورسول المرحمة، كيف استحال حلمك وسلمك وهداك في ألمانِيَة لوثر وروسِيَة تولستوي سمائم قحط وزلازل دمار وطوفان هُلك؟! ألإنك لا تزال غريباً عن الغرب فلم يصادف دينك هواه، أم لأنك شرعت الألم تكفيراً عن الكفر بالله؟
لشد ما تختلف المسيحية في الغرب عنها في الشرق! إنها مع المسيح قد خرجت من الغسق إلى النور، ولكنها مع بولس قد دخلت من الشفق إلى الظلام! ومن سار في صحوة النهار اهتدى ودل، ومن ضرب في سُدفة الليل اعتسف وأضل.
بأية حال عاد عيدك يا رسول السلام وحامل الآلام على بولندة وفنلندة؟! هل قضى الآباء والأمهات ليلة البارحة مُشْبِلين على بنيهم وبناتهم وق الفرش الوثيرة حول المدافئ الواهجة وعيونهم تشرق بالغبطة وقلوبهم تفيض من السرور، وهم يتناغون بأحاديث الحنان والحب تناغي البلابل الآمنة، في أعشاش الربيع الساكنة؟ هل باتت الصغار الأبرار هذه الليلة في مهودهم الحريرية يحلمون في أحضان الكرى بباباهم (نويل) وهو يضع لهم الألطاف واللعب والحلوى تحت أفنان الشجرة وفي نواحي المدفأة؟
يا حسرتا عليهم! لم يأتيهم عيدك يا مبرئ المرضى ومحيي الموتى إلا وهم حطام وأشلاء. فلا الدار آهلة ولا الرزق موصول ولا الشمل جامع! إن نار الأعداء تحرق البلاد فلا مأوى، وصقيع الشتاء يهرأ الأجساد ولا دفء، وخوَي الأمعاء يلحس الأكباد ولا قوت، وبقايا القنابل والرصاص والغاز من النساء والأطفال والشيوخ مشرَّدون على الجليد يلتمسون الحياة الموقوتة في قرية بعد قرية!
وليت الخراب والعذاب كانا مقصورين على أمة أو أمتين فتمدهما الأمم الأخرى بالمواساة والعون! ولكن الخطب شامل والطامة عامة. فالأمم المحاربة والمحايدة في شقاء العيش وبلاء الموت على حد سواء. قضت عليهم هنا وهناك نزوات الفرد وبدواته أن يساقوا إلى الجزر سوق القطيع؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ومن المنتظرين من يقتله الجوع والخوف، قبل أن يقتله المدفع والسيف. والله وحده يعلم بأي حال ستعود ذكرى مولدك المقبلة على هذا الصدام، أيقول الحي يومئذ: السلام على الأرض، أم يقول: على الأرض السلام!!
أحمد حسن الزيات