مجلة الرسالة/العدد 338/البغاء في أوربا
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 338 البغاء في أوربا [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سير أبطاله ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1939 |
للمستر أبراهام فلكسندر
بقلم الأستاذ عبد اللطيف حمدي
البوليس والبغاء
فضلاً عما ينشأ في المدن الفسيحة من الصعوبة في تمييز الداعرات فهناك صعوبة أخرى مترتبة على الأولى: ذلك أنه حيث يكثر الداعرات المحترفات يكثر كذلك ما يسمونه بالدعارة السرية.
وقد كانت الدعارة السرية في العصور الوسطى على غير ما هي عليه الآن، فإن سهولة التعرف على الداعرات في تلك العصور، والنظرة التي كان ينظر بها إليهن، كانتا سببين كافيتين لحصر بؤرهن. فكانت المومس التائبة إن تركت حياة المواخير لا تجرؤ على السكنى في حي آخر، بل كن يقمن في تلك الأحياء؛ ولم يكن ثمة شك في أشخاصهن ولا في ماضيهن. وفي العصور الحاضرة فريق من الداعرات يحترفن ما يسمى بالدعارة السرية وهن مثل الداعرات في العصور الوسطى معروفات حق المعرفة لرجال البوليس، بل هن رغم التسمي باسم (السرية) معروفات كذلك لكل عابر سبيل وذلك لافتضاح أمرهن. ولكن على الرغم من ذلك هناك فارق مهم بين أنواع من البغاء السري في العصور الحاضرة. فالنوع الأقل عدداً والأقل خطراً هو الفريق المعروف باحترافه للدعارة.
أما الكثرة من البغايا السريات، فهن اللواتي لا يدل عليهن شيء من ثيابهن ولا مظهرهن ولا مسكنهن، وهن يعشن بين سائر النساء بحيث يتعذر تمييزهن، ولكنهن مع ذلك يزاولن البغاء السري بحالة مستمرة أو متقطعة.
إن المومس المجاهرة أقل أهمية؛ ودراسة حالتها أقل جدارة لدى من يحاول درس التطورات التي تحدث بالمدن الكبرى أثناء تقدمها من النواحي الصناعية وغيرها.
ولقد بذل جهد ليس بالقليل في سبيل تعريف الدعارة تعريفاً دقيقاً، لأن النظر إليها من وجوه مختلفة يسفر عن تعريفات مختلفة، فالداعرة من وجهة النظر الإدارية لدى رجال البوليس هي التي ليس لديها وجه من وجوه الرزق غير ابتذال العرض، وهذه هي التي توج الإدارة تسجيل اسمها. فالأمر إذن لدى رجال البوليس يتعلق بالتسجيل. ولما كان موجبه هو الرزق قد وجد الكثيرات من البغايا مهرباً منه لأن هذه الشبكة واسعة الخروق، وأكثر البغايا حقاً يحترفن حرفة مكسبة. ففي ألمانيا نوع من الحانات تعمل فيه أجيرات. وفي أماكن أخرى مغنيات وراقصات وذوات حرف مماثلة، وكلهن في الواقع بغايا يتخذن هذه الحرف ذرائع لاستجلاب الرجال ويحتمين بها في نفس الآن من واجب للتسجيل على اعتبارهن محترفات. ومتى سقط عنهن التسجيل سقط كذلك عند البوليس وصفهن بالدعارة.
ومما يدل على أن هذه الحرف التي لا تقوم أجورها بالأود أو التي إنما تنتحل ستاراً دون قوانين البوليس، أن علاقة هؤلاء النسوة بحرفهن علاقة تكاد تكون اسمية من حيث المواظبة من جهة والأجر من جهة أخرى، وقد قام مستشفى زيوريخ بإحصاء للمريضات بأمراض تناسلية اللواتي عولجن فيه في عام واحد فكانت النتيجة أن عدد المريضات 1177 منهن 7 وتسعة أعشار في المائة من المومسات وستة وسبعة أعشار في المائة لا صناعة لهن وخمسة وثمانون في المائة وأربعة أعشار من ذوات الحرف. فمن الواضح إذن أن التعريف الإداري للبغاء إنما هو تعريف لا يتفق مع الواقع. ويرى الأب (دوشاتليه) في تعريف الدعارة (أنها هي الجرائم الخلقية التي يدفع عنها أجر وترتكب في أماكن أنشئت بمقتضى القانون، ولا تعتبر المرأة فيها مخالفة إلا بأن يشهدها شاهد غير متهماً وغير رجال البوليس).
وهذا التعبير يخرج الدعارة السرية إخراجاً تاماً من التعريف فهو لا ينطبق عليها. وإنما يكفي لتحديد الغرض الضروري في نظر رجال البوليس.
وعلى الخلاف من هذا التحديد الشديد الضيق أرى للأسباب التي سأسردها بعد قليل أن الدعارة تتميز باجتماع ثلاثة عناصر مختلفة. وهي (1) العوض (2) التعدد (3) فقدان العاطفة.
وليس من الضروري أن يكون العوض نقداً؛ فإن الهبات والهدايا والاصطحاب في مجال اللهو - كل ذلك وهو مما لا يحصل عليه إلا بالنقد يعتبر عوضاً.
وليس كذلك من الضروري أن يكون شرط التعدد مانعاً من الاختيار، فإن اتصاف المرأة بالدعارة لا ينفيه أنها تختار مَن تشاء وترفض حين تشاء.
وأما شرط فقدان العاطفة فهو أوضح من الشرطين السابقين وعلى هذا الأساس تعتبر المرأة داعرة متى اتصلت اتصالاً جنسيّاً من أجل الأجر أو الهدايا برجال متعددين سواء كان هذا الاتصال عرضيّاً أو احترفته. وليس من الضروري بعد ذلك أن تكون مفضوحة السمعة ولا أن تكون قد اعتقلت ولا عديمة الكسب من حرفة؛ فقد لا تكون المرأة سيئة السمعة ولا من صواحب السوابق ولا من الخاليات من العمل لكنها مع ذلك بغي.
وعلى أساس هذا التعريف للدعارة يكون مداها قد اتسع وتكون ضرورة علاجها أمَسّ؛ وهذا الذي أرجو أن أدل عليه.
فالعوض وفقدان العاطفة وتعدد الرجال سواء قلوا أو كثروا، كل ذلك في المدن العصرية لا يميز العلاقة الجنسية للبغي المحترفة وحدها. بل هذه الصفات للداعرة السرية أيضاً، بل إن أردنا التسمية بالاسم الصحيح فهذا التعريف يشمل أنواعاً كثيرة من الداعرات المحترفات اللواتي لا يعرف حقيقتهن إلا زميلاتهن في البيوت السرية كما يشمل المرأة العادية التي تخرج بين حين وآخر من هدأة الحياة إلى هذا النوع الشاذ منها، ويشمل كذلك ذوات المراكز المصونة اللاتي قد يزاولن عرضاً هذه الرذيلة دون أن يمسسن ظاهر شرفهن. ويشمل كذلك المتسترات بحرفة من الحرف، واللواتي تتخذ إحداهن خليلاً واحداً ريثما تستطيع الاستبدال به من تراه خيراً منه، واللواتي تخادن إحداهن أكثر من خليل واحد لعدم استطاعة فرد من هؤلاء الأخلاء القيام بأودهن، واللواتي تخون إحداهن خليلها الواحد مع فرد أو أكثر طلباً للنفع. وأخيراً يشمل هذا التعريف النسوة المتزوجات ولسن جميعاً من الطبقة الدنيا بل فيهن من سائر الطبقات وكلهن في نظر العالم بريئات يرتفعن عن مظنة الكسب من الزنا ولكنهن في الواقع يحببن من يصحبهن إلى أماكن اللهو.
فهذه ثمانية أنواع تخرج عن التحديد الضيق الذي يقيد صفة الداعرة في نظر البوليس. ولكن هذه الأنواع جميعاً تدخل تحت عنوان الدعارة إذا ما تميز هذا العنوان (1) بالعوض (2) وبالتعدد (3) وبفقدان العاطفة. أي أن الدافع للصلة لم يكن وجدانياً بل هو نفعي. ولكن دون هذا كله سؤالاً لابد منه وهو لماذا نعترض على البغاء على أي نوع من أنواعه؟
والجواب واضح وهو أن الزنا بغيض لأسباب كثيرة. فأما أولاً فلما يترتب عليه من الانحلال الشخصي.
وأما ثانياً فلأنه ضار بالمجتمع من الناحية الاقتصادية.
وأما ثالثاً فلأنه من الناحية الصحية ينشر أمراضاً تناسلية، ومن الناحية القضائية لأنه يرتبط بالإخلال بالأمن وينشر الجرائم؛ وما لا ريب فيه أن العاهرات اللواتي يقصر البوليس اهتمامه عليهن منحلات الأخلاق ينشرن الانحلال، ويسببن استهلاكاً اقتصادياً جسيماً، وينشرن الأمراض. والقاعدة أن بؤرهن مباءات للمجرمين. ولكن من الخطأ الفاحش أن تظن صواحب الأنواع الأخرى من البغايا أقل أثراً منهن على المجتمع في نشر هذه الويلات، فإن البغي العَرَضية أو المستمرة المحترفة أو الهاوية المتسترة بحرفة أو التابعة - كل أولئك يؤدين باتصالهن الأثيم إلى نفس النتائج ولقد تختلف آثار بعضهن عن بعض ولكنهن جميعاً خطرات.
(يتبع)
عبد اللطيف حمدي