مجلة الرسالة/العدد 336/سياسة السمك!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 336 سياسة السمك! [[مؤلف:|]] |
كتاب الإمتاع والمؤانسة ← |
بتاريخ: 11 - 12 - 1939 |
(إن الحرب الحالية ستزيل الدول الصغيرة من الوجود)
(هتلر)
يلتهم الدب الروسي الآن فنلندا كما التهم النمر الألماني من قبل بولندا! وما هذه وتلك - حفظك الله - إلا أكلة اليوم! أما أكلات الغد وما بعده فعلمها لا يزال عند هذين الوحشين اللذين ينقِّلان النظر المحمرَّ من أوربا الشمالية إلى أوربا الشرقية، ومن آسيا الصغرى إلى آسيا الوسطى؛ والدول الصغيرة ترى هذه العيون المتقدة والأفواه المتحلبة فترتعد فرقاً من الخطر المهاجم والعاقبة المبهمة. ولقد كان لهذه الدويلات الغريرة فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة، فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حرة آمنة لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني. فلما كفر النازيون والشيوعيون بشرائع الله وقوانين الناس أخذوا العالم بسياسة السمك التي تجعل الضعيف طعاماً للقوي، ففسد النظام وفقد السلام، واختل التوازن، واضطربت الحياة، وذل الحق، وأفلس المنطق، وأخذت جماعات السمك الصغير الرخو تضطرب اضطراب القلق والحيرة بين الحيتان الدكتاتورية التي لا تريد أن تبقي على سمكة، وبين التماسيح الديمقراطية التي لا تريد أن تُبقي على حوت
كان ضمان العيش والاستقلال للدول الصغرى ذلك النظام السياسي الذي وضعته الدول الكبرى وسمته (التوازن الدولي) وحمته بالقوانين والمواثيق والمعاهدات والمحالفات وعصبة الأمم، فجعلت من بعض هذه الدويلات حدوداً فاصلة، ومن بعضها الآخر أسواقاً مشتركة، حتى لا يبغي حد على حد، ولا تطغى قوة على قوة. ولكن هتلر رسول الشيطان ونبي الألمان وخليفة نيتشه، قضى بالموت على الدول الصغرى وقرر ألا يحكم الأرض غير دولتين: دولة ملكة هي ألمانيا، ودولة وزيرة هي إنجلترا كما كان رأيه بالأمس، وروسيا كما أصبح رأيه اليوم! فليت شعري ماذا تصنع هذه الدويلات وصغرها عمل من أعمال الطبيعة لا حيلة فيه لمحتال، كما يقصر شخص عن شخص، ويصغر شيء عن شيء؟ ليس لها الآن إلا أن تنضوي إلى الأمم الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها؛ حتى إذا أنتصر الأحلاف على هذ الطغيان المسلح الكافر الأثِر، نظرت هي في يومها وفي غدها فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل والقرود: وهو التجمع و (التكتل) والتعاون، فيكون بين البلاد المتجاورة، كدول البلطيق وأمم البلقان وشعوب الإسلام، شبه ما بين الدول المتحدة في أمريكا من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام والدستور المشرع والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيرة يقوم على استعمارها النزاع، ويميل من جرّاها ميزان السلامة. واعتبر ذلك مثلاً ببلاد الوطن الإسلامي الأربعة عشر: مراكش وتونس والجزائر وليبيا ومصر والسودان وفلسطين وسورية والحجاز واليمن والعراق وتركية وإيران وأفغانستان إذا انتظمها كلها اتحاد كاتحاد الولايات الأمريكية الثماني والأربعين، وقدَّر في نفسك ماذا يقدم هذا الاتحاد القائم على صلة الدم أو على نسب الروح من الخير المتصل للعالم والضمان الدائم للسلام
إن الحلفاء الديمقراطيين المنتصرين متى جلسوا إلى مائدة الصلح سيذكرون ما صنعوا في فرساي من تقسيم الممالك وتمزيق الشعوب وتركها في حمى الضمير الإنساني والحق الأعزل دون أن يكون لها من شَرهَ الدول الكبيرة وشرها نصير ولا عاصم. وسيفكرون ثم يفكرون في هذا المخلوق العجيب الذي صوروه من مداد وورق ثم أسكنوه قصراً في جنيف وألزموه حماية السلام وجعلوا في خدمته قوماً من ذوي القبعات والقفازات والعصي، وقالوا له مرة: قف أمام الدتشي فانسرقت قواه؛ ثم قالوا له مرة ثانية: اثبت في وجه هتلر فارتهكت مفاصله؛ وهم يقولون له اليوم مرة ثالثة: خذ الطريق على ستالين؛ وأغلب الظن أنه لاستمرار الخجل وإلحاح الفشل وتتابع الخذلان لن يستطيع أن يتحرك.
نعم سيفكر المنتصرون فيما جنوا من (عصبة الأمم) ويقررون - إذا وفقهم الله - أن ينشئوا السلم العالمية الدائمة على قواعد من التركيب لا من التحليل، فيؤلفون من الأمم الصغيرة المتقاربة في الوطن والجنس والمنفعة اتحادات مستقلة تتحد في الرياسة والحكومة والدستور، وتشترك في الدفاع والسياسة والعمل، ثم يربطوا بين الدول العظمى والاتحادات الكبرى بروابط وثيقة من الاقتصاد العادل الذي يضمن لكل أمة سداد عوزها من خير الله وغلة الأرض.
على أننا الآن بسبيل الحرب لا بسبيل السلم، فلنَدعْ حديث الصلح إلى يومه، ولندْعُ الله مخلصين أن ينصر جنود الديمقراطية على أعوان الطغيان والبغي. فإن أوربا تكابد محنة لا سابقة لها في التاريخ. وهي بالحق أو بالباطل رأس العالم اليوم، وقد قضى عليها جنون رجل واحد أن تصبح كلها مخزناً هائلاً للبارود والغاز؛ فأينما تسر في قطر من أقطارها أو على بحر من بحارها تر الموت مشتعلاً يتلظى، أو كامناً يترقب؛ فإذا قضى عليها جنون الرجل الآخر أن تنفجر فتنهار على شمشون وأعدائه، زُلزلت بانهيارها القارات الأربع، وأصبحت النكبة نكبة العالم أجمع
إن مصرع بولندا وفنلندا على هذه الصورة الأليمة الأثيمة إنذار من الله للدول الصغيرة في الغرب والشرق أن فوز النازية والشيوعية معناه فوز الوحشية التي لا تعترف بحق الحياة لفرد، ولا بحق الاستقلال لأمة.
إن الشرف هو معنى الإنسانية وخصيصتها في الإنسان. وهو الضمان السلمي لأداء الحق واطراد المعاملة؛ فإذا انتقى الشرف عن الكلمة بين الرجل والرجل، وعن المعاهدة بين الدولة والدولة، لم يبق لضمان الحياة والحق إلا القوة؛ والقوة لا تتيسر لكل حي في كل وقت وفي كل حالة
احمد حسن الزيات