مجلة الرسالة/العدد 336/البغاء في أوربا
→ كتاب الإمتاع والمؤانسة | مجلة الرسالة - العدد 336 البغاء في أوربا [[مؤلف:|]] |
الفروق السيكلوجية بين الأفراد ← |
بتاريخ: 11 - 12 - 1939 |
للمستر إبراهام فلكسندر
بقلم الأستاذ عبد اللطيف حمدي
سندرس موضوع البغاء في الصحائف التالية على أساس التجارب العلمية في الأمم الأوربية. وسينصرف الجهد إلى تحقيق أنواع الدعارة ومدى انتشارها والأسباب التي تزيدها اتساعاً أو تضيق من مجالها، وإلى تحقيق الجهود التي تبذلها الهيئات المختلفة حيال هذه الرذيلة والوسائل التي اتخذت إما لمحاربتها وإما للإشراف على تنظيمها والنتائج التي أسفرت عنها هذه الجهود.
وسيضاف إلى هذه التحقيقات نتائج بحث شخصي وتحريات وملاحظات في المدن الكبرى من إنكلترا وايقوسيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا والسويد وألمانيا والنمسا والمجر وسائر الأقاليم التي يطلق عليها اسم أوربا الغربية والتي يشتد التشابه بين بعضها وبعض في حياتها الاجتماعية ومُثُلها الوطنية العليا ومعاهدها السياسية
ولكن القوانين في تلك الأمم نفسها ليست متجانسة المواقف حيال مسألة البغاء؛ ومن أجل ذلك اختلفت الآثار المترتبة على هذه القوانين بين بعضها وبعض اختلافاً بيناً، ففي البعض أدت إلى كبح قوي، وفي البعض الآخر أدت إلى زيادة انتشار الرذيلة نفسها. على أنه بالرغم من اختلاف هذه المظاهر فقرار هذه الرذيلة متشابه من حيث المنشأ بحيث تصلح الوسيلة المختارة للعلاج في رأي هذا الكتاب لجميع هاته الأمم، ولن نتجاهل في أثناء البحث وجوه الاختلاف وإن تكن وجوه الخلاف نفسها دالة على وجوب اتخاذ وسائل متوافقة لمناهضتها، فإن البحوث الحديثة أسفرت عن تطابق بين هذه الأسباب إلى درجة أكثر مما كان مفترضاً. فأمر البغاء ينطبق عليه المثل القائل (لا جديد تحت الشمس) أكثر من انطباق هذا المثل على أي أمر آخر. كما دلت الكتب التي خلفتها القرون الوسطى في شأن البغاء على تطابق عجيب في حالة هذه الرذيلة بين تلك العصور وبين العصور الحاضرة
وإن وجوه الخلاف التي سبقت الإشارة إليها في الأمم التي ذكرناها بشأن وجوه النظر فيها وإما في حالة انتشار المرض وأما في السياسة التي تتبع حيالها - إن وجوه الخلاف هذه آخذة في سبيل الاضمحلال والتلاشي، فقد قرَّب ما بين مختلف الأمم انتشار الأفكار الديمقراطية وتوطد الحكم الديمقراطي. ولئن اصطحب ذلك تعديل في القواعد الخلقية، وبخاصة بعد أن شاع مبدأ التساوي بين الجنسين، فإن التأمل الحصيف يوجب سلوك مسلك متشابه بين هاته الأمم قائم على اعتبارات إنسانية أساسية، وإن الذي يدرس هذا الموضوع الخاص الذي نشتغل بدراسته الآن ليدهشه اتفاق المظاهر أكثر مما يسترعي نظره اختلاف البيئات المحلية أو الاعتبارات الأهلية في موضوع التحقيق الذي بدئ به في جلاسجو وختم في بودابست.
ومن أهم ما يلاحظه الناظر في هذا الموضوع عن بعد أن الدعارة في أوربا الغربية قد تطورت في مدى القرون القليلة الماضية على نظام واحد بين أممها المختلفة. وليس ذلك بدعاً، فإن مدى انتشار هذه الرذيلة مرتبط بمقدار اتساع المدن لأنه بعض ظواهر المدنية، وقد كانت المدن في أوربا الغربية في العصور الوسطى كلها مدناً صغيرة. أما المدن الكبرى في تلك العصور فقد كانت كلها إسلامية، فقد كان عدد السكان في كل من القسطنطينية وبغداد والقاهرة يربى على المليون. وكانت كل من اشبيلية وقرطبة تربو في عدد سكانها على نصف المليون في حين كانت باريس لا يكاد يصل عدد سكانها إلى 200. 000 وفينا 50. 000 ولوندرا 35. 000 وكولوتيا 30. 000 وهامبورج 18. 000 ودرسدن 5. 000. أما المدن التي لا تتصل بمواصلات مائية فلم يكن عدد السكان في إحداها ليزيد على25. 000. وكثير جداً من المدن التي تعتبر الآن ذات أهمية لم يكن عدد سكانها في القرون الوسطى يزيد على 5000. وما من شك في أن اتساع المدينة يؤثر في صبغة مدينتها ويكيف طبيعتها، فإذا نظرت إلى تاريخ الدعارة في أوربا في القرون الوسطى وجدت أن معظم مدنها إذ ذاك لم يكن إلا قرى يعرف بعض أهلها بعضهم الآخر، وكان كيان الأسرة لا يزال سليماً. ولقد يقال إنه كان في المدائن غرباء كالصليبيين والججاج والجيوش ولكن جموعهم لم تكن كثيفة وعلى أية حال فقد كان الغرباء معروفين كذلك كالأهلين. وكانت الدعارة في العصور الوسطى ذات نوعين أساسيين: نوع مستوطن ونوع متجول. أما الأول فيشمل العاهرات المقيمات أو المترددات على مساكن معدة للدعارة، وقد لا تكون الإقامة على صورة نظامية وهذه البيوت تدعى بالمواخير. وأما النوع الثاني فكان من المتشردات اللواتي يلحقن على صورة غير رسمية بمعسكرات الجيوش التي كانت في تلك العصور كثيرة التجوال في القارة. أو اللواتي يلحقن كذلك على صورة غير رسمية بالطبع برجال الطوائف الدينية المجتمعين في تجوالهم الموسمي وفاء منهن لنذور نذرنها. ولكن على أية حال فإن العاهرة كانت امرأة موسومة في العصور الوسطى التي امتازت بقلة عدد السكان في مدنها وما كان لينتفي هذا الموسم سواء بين المستوطنات أو المتجولات. وحتى لو أن إحداهن كانت تزاول رذيلتها سراً فسرعان ما تتلوث سمعتها وتوصف بالخطر، وبخاصة إذا كانت محترفة لأنها في هذه الحالة تكون مميزة بشكل ثيابها ومظهرها ومسكنها وطبيعة حياتها الخارجية، وكان الفارق في العصور الوسطى شديد الوضوح بين المرأة الشريفة والمرأة الداعرة.
أما في العصور الحاضرة فالتناقض بَيِّنٌ من هذه النواحي فالمدن كبيرة وقد أضيفت إليها لأغراض عملية ضواح تقوم منها مقام الحواشي المزركشة، فالفرق المتعلقة بالكمية بين المدينة في العصور الوسطى وبين المدينة في العصور الحديثة قد رتبت فروقاً متعلقة بالكيفية في أمر البغاء.
في أواخر عهد بابل أصبح نظام الأسرة يسمح بأن يتصل بها ألوف من الناس تتفاوت درجات الصداقة بينهم كما يختلف الشعور بالمسئوليات نحوها وفيهم الفتيات والفتيان ومعظمهم في ظروف تقضي على الأخلاق بالانحلال
ولقد أصبحت المدن الكبرى في العصور الحديثة في حالة أشد تعقداً بسبب المهاجرة إلى باريس وبرلين ولوندرا إما للاتجار وإما للهو وإما للشغب.
أما في الأوساط الضيقة المحيط فإن كيان الجماعة فيه لا يزال على سذاجته، فإفراد هذا المجتمع معروف بعضهم لبعض ومطالبهم المشتركة ومثلهم الأخلاقية العليا تخضع لتقاليد واحدة أو متقاربة من شأنها أن تسيطر على الأعضاء الضعفاء من هذا المجتمع. وفضلاً عن ذلك فإنه مهما يكن وصف هؤلاء الأفراد فإن بعضهم معروف لبعض.
وأما في المدن الحديثة، وكل منها بابل عصرية وهي التي أتحدث عنها الآن، فإن الفرد فيها لا يعرف جيرانه الأدنين. وهنا تشتد وسائل الإغراض بقدر ما تضعف وسائل الكبح والمنع فالأحوال ليست تقف عند الحد الذي يقل فيه الشعور بالمسئولية بل قد تصل إلى حد ارتفاع هذا الشعور.
ومن هذا يتبين أن مجرد زيادة العدد في مدينة من شأنه أن يقلل إمكان التقسيم بين رجالها ونسائها إلى طبقات من حيث العفة أو الرذيلة. ومن شأنه أيضاً تجهيل ماضيهم الخلقي وهذا فارق أساسي عظيم في موضوع الدعارة بين العصور الوسطى وبين العصر الحاضر، فقد كانت في العصور الوسطى محدودة واضحة وهي الآن لا بالواضحة ولا بالمحدودة
وثمت حقائق لها من الوجهة العلمية أهمية لا يستطاع جحودها فالمدينة التي فيها ثلاثون امرأة عاهرة وعدد سكانها 3. 000 تبدو كأن النسبة متجانسة فيها مع المدينة التي فيها من العاهرات خمسة آلاف وعدد سكانها نصف مليون. وذلك لأن النسبة المئوية في الحالتين هي واحدة في المائة. ولكن ضخامة العدد على الرغم من الاحتفاظ بالنسبة المئوية تؤدي إلى خلاف جسيم بين أمر الدعارة في المدينتين، فإن الإجراء الذي يتخذ لمناهضة الدعارة ضد ثلاثين عاهرة فينجح لا بد من حبوطه إذا هو اتخذ ضد خمسة آلاف عاهرة في مدينة كبيرة. وكذلك تتغير المسألة من النواحي الاقتصادية والإدارية والصحية إذا زاد العدد على حد معين
(يتبع)
ترجمة عبد اللطيف حمدي