الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 335/جسومنا وعقولنا

مجلة الرسالة/العدد 335/جسومنا وعقولنا

مجلة الرسالة - العدد 335
جسومنا وعقولنا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 12 - 1939


بين الصحة والمعارف

إذا عجبت من أن تقوم فينا وزارة المعارف قرناً ونيفاً ثم يظل ثدرس في مانية أعشارنا أميين، فإن أعجب العجب أن تقوم فينا وزارة الصحة زهاء هذا العمر المبارك ثم لا يزال تسعة أعشارنا مرضى

ولا تحسبن ذلك لأن شعبنا بدع من الشعوب هواه في أن يجهل ومزاجه في أن يمرض؛ فإن الله لم يخلق إلى اليوم إنساناً يكره المعرفة ولا حياً يرفض السلامة. إنما السبب الأول في هاتين الظاهرتين الخاصتين بهذا البلد أن القائمين على ثقافة والمسؤولين عن سلامته قد حصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، فلم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له، فيضعوا سياستهم على مقتضيات حالة، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته.

أما الحديث عن ماضي المعارف وخيبتها في كفاح الجهالة وتبعتها من هذه الخيبة، فقد جف من تكراره المداد والقلم، فلندعها في ذمة الرجلين العظيمين النقراشي والسنهوري، فعلى استقلالهما في الرأي يعقد الرجاء، وبإخلاصهما في العمل تناط الثقة؛ ولنمض في الحديث عن وزارة الصحة فقد رعانا أن يتخطفنا الموت احتضاراً وعلى حراستنا جيش من الأطباء له المستشفيات المنشأة على آخر طراز، والمعامل المجهزة بأحدث جهاز، والصيدليات المزودة بأندر الأدوية؛ وأصبحنا كلما رأينا القرى والقبور تكتظ بضحايا البلهرسية والأنكلستوما والطحال والملريا والبلغرا وداء الفيل ننكر الواقع ونفكر ونطيل التفكير، ثم نسأل ونكثر السؤال: هل في مصر وزارة للصحة؟ وهل في وزارة الصحة أطباء؟ وهل لأطباء الصحة ضمائر؟ ولا تكلفني الإبانة عن آراء الناس، فإنك تستطيع أن تسأل هذه الأسئلة فيكون لديك من الأجوبة عنها ألوف مختلفة الصيغ والأساليب في التألم والتهكم والالتهام والشكاية والزراية والضغينة واليأس. ثم تسمع عن المستشفيات الحكومية في حواضر الأقاليم شجوناً من أحاديث الإهمال والقسوة والفوضى وغير ذلك مما تمسك عن ذكره محافظة على ما بقي فيها من الثقة. ولكنني أحد اللذين جندوا في جيش الإصلاح وفرض عليهم أن تكون أقلامهم عارية كالسيف، وأصواتهم عالية كالمدفع، وألسنتهم صريحة كالحق، فأنا أروي لك حالة قريتي في وراثة المرض، ونصيب قريتي من وزارة الصحة، وحظ قريتي من الأدواء والأطباء هو حظ كل قرية: هي جزيرة من الأكواخ والحضائر في مستنقع وخيم من مصافي المزارع؛ نمت على عفنها وأسنها جراثيم الأمراض المتوطنة فجعلت كل وجه في صفار الخوف، وكل جسم في هزال الجوع، وكل حي في همود الموت. وقطعت مراحل عمرها الماضي على هذه الحال الشديدة، لا يزهر فيها شباب ولا تثمر بها كهولة. ولم يكن لمصلحة الصحة يومئذ إلا شبه طبيب في المركز لا تراه القرية إلا إذا أنتشر وباء أو وقعت جناية. وعمله كله مع حلاقي القرى: يصرح لهم بدفن الموتى من بعد، ويكلفهم جلب المرضى إلى عيادته من قرب، وعلاجه قائم على البركة والتوكل: ماء من الترعة القريبة يشتمل على عقور مسهل. فلما صارت هذه المصلحة وزارة أرادت أن يكون لها كالوزارات عمل، فأنشأت المستشفيات الثابتة والمتنقلة، ودرست الأمراض الوافدة والمستوطنة، وقررت تطهير القرى بقتل الأمراض وردم المناقع. وكان من نصيب حضرتنا مستشفى، ومن حظ مركزنا طبيب. فأما الطبيب فقد عجز عن ردم البركة لأن مالكها الباشا لا يريد، وإذا لم يرد الباشا وجب ألا يريد الناس، لأنه يملك الخراف والسمن والفاكهة والكلمة المسموعة. وأما المستشفى فقد دعي القرويين إلى طبه فهرعوا إليه من كل طريق. وأنحني طبيبه على الأذرع الذابلة بالحقن العنيف، فخشع الداء، وتنبهت العافية، وشعر الفلاح أن في (الاسبتالية) رجاء وفي الطب منفعة، فأزداد وفود المرضى على المدينة حتى شرقت الشوارع وغص المستشفى وضاقت المساكن. فلما وثق الطبيب من الإقبال جعل منزله عيادة خاصة، وسلط أعوانه على المرضى ينفرونهم من المستشفى، ويرغبونهم في العيادة، حتى أشاعوا أن الطبيب يحقن هنا بالماء، ويحقن هناك بالدواء. وأخذ هو يقسوا في المعاملة ويهمل في المعالجة ويشتط في القبول، حتى أشتد على الناس الأذى، وخرجت بهم الأخرجة، وكثرت فيهم الوفيات، فانقطعوا في دورهم مفضلين الموت البطيء الهادئ على الموت السريع المضطرب. وعادت الجراثيم الطفيلية ترتع في الكلأ الآدمي المباح، فلم يبقى في القرية من لم يخامره داء. ثم أنتشر من استفحال البلهرسية داء الطحال فانتفخت البطون واصفرت الأطراف وثقلت الجوارح، فمات به الأكثرون، ولاذ بعض الأقلين بالقصر العيني يرجون استئصال الداء بالجراحة؛ وقد سمعوا أن أساطين الطب من أساتذة الجامعة هم اللذين يتولون الفحص ويزاولون العلاج ويباشرون العملية، ولكنهم حين دخلوا لم يجدوا إلا أطباء كأولئك الأطباء، ونظاماً كذلك النظام، ومعاملة كتلك المعاملة. أما بقراط وجالينوس وأبن سينا فقد اتخذوا من (القصر) عنواناً ومن (الكلية) وظيفة. فهم يحضرون - إن حضروا - ساعة النهار، فيقابلون أطباء الامتياز، ويحادثون طلاب الطب، وغاية المقابلة أو المحادثة إشارة أو عبارة، ثم ينقلبون سراعاً إلى عياداتهم أو مستشفياتهم يعملون فيها بقية النهار وطرفاً من الليل بصبر الفقير إلى الناس، وعزم الكادح لنفسه.

هذه حال قريتنا في عهد من العهود وكل القرى المصرية على هذا الحال. وإن الناس لينسجون حول المستشفيات الرسمية من الحوادث والأحاديث ما لا يجرؤ القلم على روايته مهما شجع. ولعل في هذه الإشارة ما ينبه أولي الأمر في وزارة الصحة إلى شدة الحسابات ودقة المراقبة؛ فإن الاعتماد في كفاح المرض على التقارير والدفاتر والأرقام، أشبه بالاعتماد في كفاح العدو على رسم المعارك في الورق وكسبها بالكلام!

أحمد حسن الزيات