مجلة الرسالة/العدد 335/بين الأستاذين
→ الفروق السيكلوجية بين الأفراد | مجلة الرسالة - العدد 335 بين الأستاذين [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سير أبطاله ← |
بتاريخ: 04 - 12 - 1939 |
أحمد أمين وزكي مبارك
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لما قرأت المقالة الأولى للأستاذ أحمد أمين في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي كان ذلك بحضرة الأستاذ الزيات صاحب مجلة الرسالة الغراء، فذكرت له أن الأستاذ أحمد أمين يرى في هذا ما سبقته إليه في كتابي (زعامة الشعر الجاهلي بين امرئ القيس وعدي بن زيد) وأخذت عليه أن يجعل الزهديات من أدب المعدة لا من أدب الروح، مع أنها أحق من غيرها بأن تكون من ذلك الأدب الذي ارتضاه، لأن اتجاه الزهاد إلى الروح من الأمور التي لا يجهلها أحد، وكل زهدياتهم تتجه نحو هذا الاتجاه، فلا يمكن مع هذا أن تكون من أدب المعدة.
وقد أنكر ذلك الرأي على الأستاذ أحمد أمين كما أنكر على قلبه، وكان ممن أنكره عليه الأستاذ زكي مبارك في مقالاته التي نشرتها له مجلة الرسالة، وقد سبق للأستاذ زكي مبارك أن أنكر علي أيضاً ذلك الرأي في نقده لكتابي (زعامة الشعر الجاهلي) بجريدة الأهرام، وكان مما ذكره في ذلك أنه لا يمكن القول بأن زهديات أبي العتاهية أبلغ في الشاعرية من خمريات أبي نواس، فرددت عليه بأن أبا نواس نفسه يشهد بتقديم أبي العتاهية في هذا عليه، وذكرت له ما رواه صاحب الأغاني عن هارون بن سعدان أنه قال: كنت جالساً مع أبي نواس في بعض طرق بغداد، وجعل الناس يمرون به وهو ممدود الرجل بين بني هاشم وفتيانهم، والقواد وأبنائهم، ووجوه أهل بغداد، فكل يسلم عليه فلا يقوم إلى أحد منهم، ولا يقبض رجله إليه، إذ أقبل شيخ على حمار بريسي، وعليه ثوبان دبيقيان: قميص ورداء قد تقنع به ورده على أذنيه، فوثب إليه أبو نواس، وأمسك الشيخ عليه حماره واعتنقا وجعل أبو نواس يحادثه وهو قائم على رجليه فمكثا بذلك ملياً، حتى رأيت أبا نواس يرفع إحدى رجليه ويضعها على الأخرى مستريحاً من إعياء، ثم أنصرف الشيخ وأقبل أبو نواس فجلس في مكانه، فقال له بعض من بالحضرة: من هذا الشيخ الذي رأيتك تعظمه هذا الإعظام وتجله هذا الإجلال؟ فقال: هذا إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية فقال له: لما أجللته هذا الإجلال؟ وساعة منك عند الناس أكثر منه، قال: ويحك لا تقل، فوالله ما رأيته قط إ توهمت أنه سماوي وأنا أرضي.
ولا شك أن هذه بعينه تقسيم الأستاذ أحمد أمين الأدب إلى أدب الروح وأدب المعدة، فأدب الروح هو الأدب السماوي، وأدب المعدة هو الأدب الأرضي. وخلاصة ما ذهبت إليه في ذلك أن الشعر لا يصلح أن ينظر إليه على أنه ليس إلا ألفاظاً وأخيلة من تشبيهات واستعارات ونحوها، ولا يليق أن نعده من وحي الشياطين، فيكون لهواً وعبثاً في الحياة لا غير، وإنما يجب أن يكون الشعر إلهاماً شريفاً، ووحياً صالحاً، وعملاً نافعاً في هذه الحياة، يدعو إلى النهوض، ويجهر بالإصلاح، ويوقظ النفوس النائمة، ويحرك العقول الجامدة، وبهذا يكون الشعراء في الأمة رسل إصلاح، وأئمة هداية فينفعون ولا يضرون، ولا يكونون في هذه الحياة أبواقاً للشياطين.
وهذا الأدب الذي دعوت إليه وذهبت إلى تقديمه على غيره هو الأدب الذي دعا إليه الإسلام، وجاء به القرآن الكريم، فذم شعر الجاهلية في جملته، وقبح موضوعه وأغراضه، وذلك في قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) وفي قوله أيضاً: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقد ذمه الني ﷺ أيضاً فقال: (لما نشأت بغضت إلى الأوثان وبغَّض إلي الشعر). وقال أيضاً: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيئاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ثم جاهد في إصلاح ذلك الأدب الجاهلي الضال جهاده في إصلاح عقيدتهم الضالة، وسلك سبيله في ذلك الخلفاء الراشدون فضربوا على يد كل شاعر أراد أن يستن في الإسلام سنة شعراء الجاهلية، فيجعل الشعر سبيلاً لجمع المال، ولا يعرف في ذلك إلا المدح والهجاء ونحوهما من تلك الأغراض التي وقف عندها الشعر الجاهلي، وجمد عليها جمود أهل الجاهلية على عبادة الأوثان، وقد حبس عمر الحطيئة في ذلك حتى أستشفع إليه بقوله:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ ... زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيتَ كاسبهم في قَعرِ مُظلِمة ... فاغفر عليك سلامُ الله يا عُمُر
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ... ألقي إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر لمُ يؤْثِروكَ بها إذ قدموك لها ... لكنْ لأنفسهم كانت بك الخِيَر
فأطلقه عمر وهدده بقطع لسانه إن هجا أحداً، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم. وكذلك فعل عثمان رضي الله عنه مع ضابئ البرجمي، وكان قد أستعر كلباً من بعض بني حنضلة يصيد به، فطالبوه به فامتنع من إعطائه فأخذوه منه قهراً، فغضب ورمى أمهم بالكلب وهجاهم بقوله:
فيا راكباً إما عرضتَ فَبلِّغَنْ ... أُمَامَةَ عني والأمور تَدُورُ
فأُمَّكُم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عُقُوقَ الوالدين كبير
فأنك كلب قد ضَرِيت بما ترى ... سميعٌ بما فوق الفراش بصير
إذا عَبِقَت من آخر الليل دخنةٌ ... يبيت لها فوق الفراش هَدِيرُ
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه وقال: والله لو أن رسول الله ﷺ كان حياً لنزلت فيك آية، وما رأيت أحداً رمى قوماً بكلب قبلك.
ثم جاء بنو مروان بعد الخلفاء الراشدين فعادوا بالشعر إلى سنته الأولى قبل الإسلام، وعملوا على تقديم الشعراء الذين سلكوا في الشعر هذه السنة من جرير والفرزدق وأضرابهما، وعقدوا لهم لواء الزعامة على غيرهم من الشعراء، وتأثر علماء الأدب الذين كان يقربهم أولئك الملوك بهم، فذهبوا في الشعر والشعراء مذهبهم، وقدموا من الشعراء من قدموهم على غيرهم، حتى أن الأصمعي رحمه الله كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا في باب الشر، فإذا دخل في باب الخير لان، وإنما طريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة، من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والنشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار وما إلى ذلك، فإذا دخل في غيره مما دخل فيه بعد الإسلام ضعف ولان. ألا ترى أن حسان بن ثابت كان شديداً في الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي ﷺ وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم لان شعره
ولست الآن بصدد الدفاع عن ذلك الرأي في قياس الشعر بموضوعه وأغراضه قبل أن يقاس بألفاظه ومعانيه، وفي تقديم الشعر الجاد النافع في الحياة على ذلك الشعر الذي لا يعني إلا بالألفاظ، فالذي يهمني الآن أن أبين أن ذلك إذا كان جناية على الأدب الجاهلي، فأن الأستاذ زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عنه، وموعدنا بهذا المقال الآتي.
عبد المتعال الصعيدي